كل الأديان (السماوية منها والوضعية) لها أماكن مقدسة، ولها أزمان مباركة، وفي تاريخ كل جيل كذلك، تجد له مواقع عزيزة، وأوقات محببة، ولو أنك جمعت جيل السبعينيات والأجيال التي جاءت من بعده على صعيد واحد، واستفتيتهم عن أي الأماكن لها خصوصية عندهم، وعن أي الأزمان مفضلة لديهم، لاجتمعت كلمتهم على محبة شهر «يناير»، والولع بأحب الميادين «ميدان التحرير»، فهو عندنا أرض مباركة، و«يناير» في وجداننا شهرٌ نُحِبُّهُ، وَيُحِبُّنَا:
وما فاقتِ الأيامُ أخرى بنفسِها ولكنَّ أيامَ الملاحِ مِلاحُ
**
نحن من جيلٍ له في شهر «يناير» ذكريات وطنية لا تنمحي من الذاكرة، وأعظم تاريخين عاشهما جيلنا، وشارك فيهما، هما السادس من أكتوبر 1973، والخامس والعشرين من يناير 2011، عشنا وهج النصر في أكتوبر، وعانينا مرارة التفريط فيه، وقُدّر لنا أن نُعانق الحلم لأول مرة، ونحن نشارك أجيالًا أخرى جاءت من بعدنا، وكادت تمسك بقرص الشمس هدية لمصر، وكان أعظم ما في التاريخين (6 أكتوبر، و25 يناير)، تلك الروح التي ابتعثت معهما، وللأسف أزهقت «ملاعيب السياسة» روح أكتوبر، وأزهقت «الألاعيب الأمنية» روح يناير.
**
كنا في السبعينيات من القرن الماضي طلاباً بالجامعة، وكانت مصر تمور في بداية هذا العقد بعنفوان وطني جامح يطالب بتحرير «سيناء» والأرض العربية من دنس الاحتلال الصهيوني، وظلت طلائع جيلنا تضغط بكل ما لديها من أوراق للضغط السياسي على الرئيس «أنور السادات» لكي يخرج بنا والمنطقة من حالة «اللاسلم واللاحرب» التي فرضت نفسها جراء تلكؤه ومماطلته المستمرة في اتخاذ قرار خوض معركة التحرير.
إزاء الشعور الوطني الجارف والمطالب المتزايدة بتحرير الأرض، قطع الرئيس «السادات» وعدًا علنيًا بأن يكون 1971 هو عام «الحسم العسكري» في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ومضى العام دون حسم، ثم في «حديث إلى الأمة» في 13 يناير 1972 اعتذر «السادات» عن تأجيل سنة الحسم بضباب الصيف الهندي الباكستاني، في إشارة إلى الحرب التي نشبت بين البلدين الآسيويين، (كأنه لا يجوز أن يكون هناك حربان في العالم في سنة واحدة).
وكان لافتًا أن الرئيس أشار في الخطاب نفسه إلى «الأسبوع الفلسطيني» الذي أقامه طلاب «كلية الهندسة» بجامعة القاهرة، أواخر شهر ديسمبر سنة 1971، وهو الأسبوع الذي شارك في تسخين الأجواء الباردة في بداية شتاء العام 1972، وندد «السادات» بجماعة «أنصار الثورة الفلسطينية» التي نظمت ندوات الأسبوع التي شهدت حضورًا عربيًا وفلسطينيًا كبيرًا، والتقطت القيادات الطلابية الإشارة إلى ما يحدث في الجامعة، وتداعوا على الفور لمناقشة ما استجد من أوضاع بعد خطاب الرئيس، واستمرار حالة «اللاحسم» في الموقف على الجبهة المصرية، ثم تداعت الأحداث من بعد ذلك حتى صار ما يعرف بانتفاضة الطلاب الأولى في مواجهة «السادات» وسياساته الجديدة.
**
انفجر غضب الطلاب، واعتصم الآلاف منهم في قاعة «جمال عبد الناصر» بجامعة القاهرة، وشكلوا اللجنة الوطنية العليا للحركة الطلابية لتقود أكبر وأهم انتفاضة طلابية، وأول المساهمات الوطنية لهذا الجيل، ولكن السلطة واجهتها بمنتهى العنف، واعتقلت ما يربو على 1500 من الطلاب، بينهم عدد كبير من قياداتهم، فزاد الاحتقان داخل الجامعة، وتعاطفت معهم جماهير غفيرة، وخرج الآلاف من الطلاب، متجهين إلى قلب العاصمة في «ميدان التحرير»، وأعلنوا الاعتصام في قلب ميدان الثورة ، حتى يُفرج عن كل المعتقلين، وتحقق لهم ما أرادوه، وأفرجت السلطة عن زملائهم بعد ثلاثة أسابيع.
**
«الكعكة الحجرية»، واحدة من القصائد التي حفرت حروفها في قلوب طلائع جيلنا، وقد كتبها الشاعر الكبير «أمل دنقل» متأثرًا بوقائع ما جرى في «يناير» 1972 مستلهمًا عنوانها من قاعدة النصب التذكاري الذي كانت السلطات المحلية قد باشرت في إنشائه بقلب «ميدان التحرير»، حين وصل إلى الميدان رأى الطلبة متجمهرين حول النصب التذكاري ينشدون أناشيدهم، وقرر أن يشاركهم هذا الدفء الذي يشع في الميدان رغم برودة يناير الشديدة وقتها، وفي الرابعة صباحًا عاد «دنقل» متعبًا إلى منزله، ومع ذلك شرع في كتابة المقاطع الأولى من القصيدة، وفي اليوم التالي أكمل قصيدته على وقع فض البوليس للمظاهرات بالقوة، وتسبب الفض العنيف في سقوط الكثير من الضحايا من الطلاب المعتصمين وانتهى إلى اعتقال المئات من الطلاب الثائرين.
دقت الساعة القاسيه
«انظروا .. » هتفت غانيه
تتلوى بسيارة الرقم الجمركي؛
وتمتمت الثانيه:
سوف ينصرفون إذا البرد حل .. وران التعب..
**
كنتُ وقتها طالباً في المدرسة «السعيدية» الثانوية، وخرجنا نؤازر طلاب «كلية الهندسة»، وهي الكلية الأقرب إلى مدرستنا، وكانت قد شهدت انطلاقة الانتفاضة الطلابية، ولا زلت أشعر بالفرح الذي كان يهز أركاني وأنا أردد لأول مرة هتافات الحركة الطلابية، وبقيت هزة القلب نفسها تأتيني مع كل مشاركة في التظاهر ضد عسف السلطة وتجبرها.
بعدها بعام كامل، وفي يناير أيضاً، كانت هناك حلقة أخرى من الاحتجاجات الطلابية في مواجهة سياسة المماطلة في اتخاذ قرار الدخول في معركة التحرير، وكانت السلطات الأمنية قد تحسبت من تكرار سيناريو «يناير» السابق، فقامت بحملات مداهمة في مختلف محافظات مصر لاعتقال عشرات من قادة وكوادر الصف الأول للحركة الطلابية في الجامعات المصرية وداعميها، وشملت الاعتقالات مجموعة كبيرة من الكتاب والمحامين والمثقفين والشعراء.
وشهد يوم 3 «يناير» 1973 حركة احتجاج ومظاهرات طلابية قوية داخل الحرم الجامعي في «جامعة القاهرة»، كرد فعل على عملية الاعتقالات، وقرر الطلاب الاعتصام بقاعة «عبد الناصر» كما فعلوا في العام السابق، ثم عادوا ليقرروا الخروج إلى الشارع، ولكن قوات الأمن المركزي كانت قد تمركزت بالقرب، واستطاعت أن تقمع التظاهرات بكلّ قسوة، وانتهى اليوم بالإعلان عن إغلاق الجامعة، والتبكير بإجازة نصف السنة الدراسية.
**
وجدت حركة الطلاب أصداءًا واسعة في أوساط شعبية كبيرة، وأيدت مطالبهم نقابات مهنية ذات ثقل كبير، على رأسها نقابات الصحفيين والمحامين والمعلمين، وكانت المرة الأولى التي يبادر فيها أسماء مثل «توفيق الحكيم» و«نجيب محفوظ» ممن لم يعرف عنهم أي درجة من درجات الاشتغال بالسياسية، فكتب «الحكيم» بيانًا وقع عليه على الفور «محفوظ» وعدد كبير من كبار الكتاب والصحفيين والأدباء، وطيرته وكالات الأنباء، وصار حديث الساعة.
شنت الصحف الحكومية حملة موسعة ضد الكتاب والصحفيين والأدباء الموقعين على البيان المؤيد لحركة الطلاب والذي تبنى موقفهم، وتقرر نقل العشرات من كبار الكتاب والصحفيين إلى أعمال غير صحفية، وظل «السادات» يكرر الحملة عليهم في خطبه طوال سنة 1973، وقال مرة بالنص: «حتى اللي اسمه نجيب محفوظ بتاع الحشيش وقَّع معاهم»، ولعلها كانت المرة الأولى التي يضحك فيها «محفوظ» خلال تلك الأزمة، وهو يقول أمام أصدقائه وخلصائه المقربين: «طيب كان حد تاني غير «السادات» يتكلم عن الحشيش»، في تلميح إلى إشاعة رائجة تقول إنه كان يدخن الحشيش في «الغليون» الشهير الذي لم يكن يغادر يده حتى في اللقاءات الرسمية.
**
وأخيرًا دخلت مصر حرب أكتوبر سنة 1973، وحققت فيها العسكرية المصرية إنجازاً ضخماً، وعبرت مصر الهزيمة، وبدأ الشعب يتطلع إلى ثمار النصر، خاصة في ظل حملات الترويج المتتابعة التي ظلت تتحدث عن الرخاء القادم، ورسمت تلك الحملات الكاذبة مستقبلاً زاهراً لتبرير انتهاج سياسة «الانفتاح الاقتصادي»، في نفس الوقت الذي بدأ فيه «السادات» الانفتاح على الأمريكان، وتزينت القاهرة التي كانت منذ سنوات قليلة تعادي السياسة الأمريكية في المنطقة والعالم، وهي تستقبل استقبال الفاتحين أول زيارة لرئيس أمريكي إلى جمهورية مصر العربية، الرئيس «ريتشارد نيكسون»، وكان أشهر تعليق على الزيارة قصيدة الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم» التي يقول في مطلعها:
شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت
عملولك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت
فرشولك أوسع سكة من راس التين على مكة
وهناك تنفد على عكة و يقولو عليك حجيت
و أهو مولد ساير داير شي لله يصحاب البيت
شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت
**
بدا أن «مصر الجديدة» في طريقها إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية، وسط تصاعد نغمة الوعود بالرخاء الاقتصادي، وبدأت «القطط السمان» تظهر في الواقع المصري، وتسلمت كل مجالات الاستثمار في ظل سياسة السوق المفتوح، بينما ظل الفقراء ومحدودو الدخل يئنون تحت وقع الخطوات المتسارعة على طريق الانفتاح والتفريط في القطاع العام.
وفجأة وبدون سابق إنذار أعلنت الحكومة يوم 17 «يناير» 1977 عن قرارات اقتصادية تقشفية جديدة استجابة لتوصيات مشتركة للبنك وصندوق النقد الدوليين تبدأ بإلغاء الدعم عن بعض السلع الرئيسية ورفع أسعار خمس وعشرين سلعة أساسية، دفعة واحدة، ولا تنتهي بتخفيض قيمة الجنيه المصري بما يوازي 75 % من قيمته في ذلك الوقت، وزيادة رسوم الدمغة والرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج والاستهلاك وضرائب السيارات.
**
انفجر الغضب الشعبي العارم من اسكندرية إلى أسوان، بومي 18 و19 يناير، ومزقت الجماهير الغاضبة في كل ميادين مصر وشوارعها الرئيسية صور بطل الحرب والسلام وقائد العبور، وهتفت الجموع الشعبية ضد سيدة مصر الأولى، وبدا أن كيل الناس طفح، وفشلت قوات الأمن في وقف الزحف الغاضب، وما زلت أذكر صوت الملايين تهتف بحرقة وهم يقارنون بين أحوالهم وأحوال الطبقة الجديدة وممثلهم الشرعي في السلطة:
هما يلبسوا آخر موضه …. واحنا نسكن سبعة ف أوضه
هما ياكلوا حمام وفراخ …. واحنا الفول دوخنا وداخ
**
كان لي شرف المشاركة في انتفاضة 18 و19 يناير 1977، كنت ضمن وفد طلابي من جامعة «القاهرة» نحضر «لقاء ناصر» الأول بجامعة «المنصورة»، وعلمنا من زملائنا بنادي «الفكر الناصري» بالقاهرة أن المظاهرات العمالية اندلعت من «حلوان» ضد القرارات الاقتصادية الظالمة التي أصدرتها الحكومة، وقررنا أن نخرج للمشاركة في الاعتراض على القرارات الاقتصادية، وما أن خرجنا من أبواب الجامعة حتى انضمت جماهير الشعب إلى المظاهرة، فاتسعت، وتواصل زحفها الحثيث حتى وصلنا إلى مبنى المحافظة، وكانت أعداد المتظاهرين تسد الأفق أمام ناظري، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أُحملُ فيها على الأكتاف لأقود الهتافات، فهتفت بصوتٍ يكاد يخرج مني بالعافية، وإذا بي أفاجأ بالصدى يهز السماء من حولي:
اصحا يا شعب بُص وشوف …. سرقة علني وع المكشوف
**
أعظم تواريخنا «يناير» 2011، التاريخ الذي توج حياتنا ونضالاتنا بالفخار، وكانت مشاركتنا جموع الشعب وملايينه في الثورة واحدة من أجمل ما صنعناه على مدى العمر، ونحن في يوم ٢٨ نواجه بأجسادنا العارية وأصواتنا العالية طغيان الحاكم وجبروته كان قرنان من الزمان يُطلان علينا من شرفة التاريخ ليؤكدا أن ثورتنا ممتدة الجذور في تاريخنا، وأننا جيل من بعد جيل لا نزال نكافح من أجل نفس الهدف: (أن نخرج مصر من جعبة الاستبداد والفساد).
ومن مقاديرنا التي أحببناها أننا شاركنا في «ثورة يناير»، وكان لنا حظ أن نذوق الطعم الذي لم نذقه من قبل، ذُقنا طعم الحرية، وسيظل عام 2011 أجمل الأعوام بالنسبة لنا، وسيبقى شهر «يناير» أجمل الشهور، الشهر الذي يُحبنا ونحبه، رغم أن دموعًا بطعم الحزن تحتبس في مآقينا، ورغم أن الأبواق ما زالت تسميه «خساير»، ويقولون عن ثورته إنها مؤامرة، وهي بالنسبة لنا كانت، وستبقى أحلى وأجمل «المؤامرات».
كنّا ندفِّـئُ بعضَنا في بعضِنا ونراكِ تبتسـمين ننسى بَرْدَهَـا[1]
وإذا غضِبنَا كشَّفتْ عن وجهِـها وحياؤُنا يأبى يدنِّـسُ وجهَـهَا
لا تتركيهِمْ يُخبروكِ بأنني متمردٌ خانَ الأمانةَ أو سَهَا
إنّي أعيذُكِ أن تكوني كالتي نقَضَتْ على عَجَلٍ وجهلٍ غَزْلَهَا
لا تتْبعي زمنَ الرُّوَيْبضـةِ الذي فقدتْ على يدِهِ الحقائقُ شكلَهَا
لا تتركيهِم يخبروكِ بأنني أصبــحتُ شيئاً تافهاً ومُوَجَّها
فأنا ابنُ بطنِكِ وابنُ بطنِكِ مَنْ أَرادَ ومَنْ أقالَ ومَن أقرَّ ومن نَهَى
صمتَتْ فلولُ الخائفينَ بِجُبْنِهِم وجُمُوعُ مَنْ عَشِقُوكِ قالتْ قَوْلَهَا
**
[1] من أشعار هشام الجخ.