ثورة 25 يناير 2011م كانت إحسانا للدولة المصرية ولم تكن إساءة لها، كانت تجديدا لها وليست تخريبا، كانت إنقاذا لها وليست هدما، كانت تصويبا لمسارها من داخلها ولم تكن مؤامرة عليها، كانت خطوة على الاتجاه الصحيح للتاريخ ولم تكن خطوةً إلى الخلف، كانت ولادة جديدة لحيوية الشعب المصري تنضاف لما سبقها من لحظات ميلاد مُضيئة من ثورات ضد الفرنسيين وبكوات المماليك وفساد العثمانيين عند خاتمة القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، ثم ثورة العرابيين ضد فساد الخديو والغزاة الإنجليز في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ثم ثورة المصريين ضد أعتى إمبراطوريات التاريخ في الربع الأول من القرن العشرين، ثم ثورتهم ضد مثلث الملكية الفاسدة والارستقراطية المتحللة والاحتلال عند منتصف القرن العشرين، ثم جاءت ثورة 25 يناير 2011م لتكون أعظم لحظة ميلاد للشعب المصري في تاريخه، ولتكون نقطة تأسيس جديدة للدولة الحديثة، ولتكون البوصلة الهادية التي توجه حركة المستقبل المصري من مطلع القرن الحادي والعشرين حتى منتهاه.
وسوف تظل ثورة 25 يناير 2011م ترافق المصريين جيلا وراء جيل على مدى العقود القادمة وهم يعيدون تأسيس الدولة الحديثة لتكون السيادة فيها للشعب وليست للحكام سواء بدءا من محمد علي ومن تبعه من خلفائه من أنجاله وأحفاده أو من عبد الناصر ومن ورثه من ضباط الجيش المصري، بهذا المعنى فإن ثورة 25 يناير 2011م هي فاتحة تاريخ جديد، وهي أول المائة الثالثة من تاريخ الدولة الحديثة، وهي أول مشوار طويل في التاريخ يستهدف نقل ملكية مصر وحيازتها وحكمها إلى الشعب ذاته، فيتولى أمره بنفسه، ويقرر أمره بنفسه، ويحكم نفسه بنفسه، دون وصاية من سلالة ودون وصاية من مؤسسة.
*************
أقصد بثورة 25 يناير 2011م اللحظة البهيجة المباغتة الغامضة الحالمة البكر من لحظات الزمن الاستثنائي التي تواصلت خلال مائة ساعة فقط من 25 يناير حتى 28 يناير، ففي هذه الساعات المائة أو أقل قليلا، كانت الثورة قد أنجزت هدفها، كانت قد أنهت حقبة بكاملها ووضعت لها خط نهاية من المستحيل عبوره أو تجاوزه، في هذه الساعات المائة أنجزت الثورة ما عجزت عنه الدولة، فقد كانت الدولة ممزقة بين رأسين، بين الرئيس من جهة، ونجل الرئيس من الجهة الأخرى، وكانت ولاءات الدولة منقسمة بين هذا وذاك، أكدت ثورةُ الساعات استحالة التمديد للرئيس، بمثلما أكدت استحالة التوريث للنجل، وربما كان الثائرون في الميدان لا يدركون مساء الجمعة 28 يناير أنهم قد أنجزوا هذين الهدفين العظيمين، لكن -بكل يقين- من كانوا في الدولة وداخلها أدركوا ذلك، أدركوا أن النظام انتهى وجوده بصورة حاسمة وكاملة، ولهذا فإن الجيش نزل رسميا لحفظ الأمن بعد انسحاب الشرطة وهي ذراع النظام، ولكنه نزل ظاهريا لحماية الثورة، ثم الحقيقة أنه نزل فعليا ليحصد ثمرات الثورة، لقد حفظ الأمن وحمى الثورة لينجز ثلاثة أهداف في أسبوعين: القضاء بصفة نهائية على مشروع التوريث لنجل الرئيس، ثم القضاء نهائيا على التمديد للرئيس، ثم الحصول على التكليف بإدارة شؤون البلاد وهو ما كان يعني أيلولة مقاليد السلطة كاملةً إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 11 فبراير 2011م. وعند هذه اللحظة، لحظة الخلع والتكليف، كانت الثورة قد انتهت، لينفتح الطريق أمام لعبة سياسية مختلفة تماما، تمثلت في هلوسة ثورية، ثم في طموحات الإخوان، ثم في تكتيكات الجيش، وكان طبيعيا أن تؤول المقاليد إلى الجيش الذي -ببراعة فائقة- استخدم الثورة ليتخلص من التوريث والتمديد معا، ثم استخدم الإخوان ليتخلص من الثورة، ثم استخدم المدنيين ليتخلص من الإخوان، ثم تخلص من المدنيين وأعاد تأسيس حقبة جديدة مختلفة تماما تكشف كل يوم عن روح مجافية للثورة يملؤها الشك فيها والارتياب منها والإساءة إليها.
*************
العلاقة بين الثورة والدولة تحتاج شيئا من التناول الهادئ.
بكل يقين، الثورة في ساعاتها المائة لم تكن تنطوي على أية إساءة للدولة. وبكل يقين كذلك، كان هذا هو إدراك الدولة ذاتها. كان في داخل الدولة إحساس أن الخطأ كان فيها وفي أدائها وليس في الشعب وليس فيما عبر عنه الشعب من غضب مشروع. هذا الإحساس كان وراء ما أبدته الدولة من استعداد للاستجابة لبعض المطالب ثم لكل المطالب بما فيها مطلب خلع الرئيس ذاته، وهذا الإحساس أيضا كان وراء عدم تحمس أي من رجال النظام وعدم تحمس مؤسساته للدفاع عنه أو خوض معركة ليبقى في موقعه.
الثورة انتهت مساء الجمعة 28 يناير، وفي الفترة من 28 يناير حتى 11 فبراير، كان كل المطلوب من الثورة أن تظل في الميادين لتكون غطاء يتم تحته نقل مقاليد السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبين هذين التاريخين أي بين 28 يناير و11 فبراير كان يتم تمجيد الثورة من أركان الدولة بما في ذلك رأس النظام وبما في ذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبما في ذلك الإعلام الرسمي.
ثم تمجيد الثورة حتى كتابة دستور 2014م، فقد تم جمعها في نص واحد في الديباجة مع ثورة 30 يونيو 2013م ويقول النص: “وثورة 25 يناير – 30 يونيو، فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق.. إلى آخره.
هذا التمجيد كان قد بلغ ذروته في الميدان عندما كانت المصلحة تقتضي التمجيد، ثم أخذ يتلاشى بالتدريج، حتى تم التنكر تماما له وللثورة ذاتها، وبدأ التأريخ من 30 يونيو وليس من 25 يناير، ثم بدأت سردية جديدة تنسب إلى 25 يناير كل نقيصة وتجردها من كل فضيلة وتنزع عنها كل أساس أخلاقي وهدم مشروعيتها من جذورها والتحذير من خطرها ومن تكرارها باعتبارها تقويض للدولة ومؤسساتها.
هذا التطور السلبي أو هذا التدهور في نظرة الدولة إلى الثورة لا يتضح ولا تنجلي غوامضه في إطار العلاقة بين الثورة والدولة فقط، لكن يلزم توسيع المنظور حتى تتضح الرؤية أكثر، وهذا يستدعي دراسة العلاقة بين الثورة والدولة في الإطار الإقليمي، والإطار الإقليمي له معنيان يكمل أحدهما الآخر:
– المعنى الأول: أن الثورة في مصر كانت جزءا من ظاهرة أوسع شملت شعوبا عديدة في الشرق الأوسط، وقد تدهور الأمر بعضها إلى العنف ثم الحرب الأهلية بما يعنيه ذلك من تمزق الدولة وانقسام الشعب معا.
– المعنى الثاني: الثورة المضادة، وهي صناعة إقليمية على وجه العموم وخليجية على وجه التحديد، وإذا كانت ثورة 25 يناير وغيرها من ثورات الشعوب الشرق أوسطية سوف توجه بوصلة المستقبل طوال عقود القرن الحادي والعشرين فإن الثورة المضادة الإقليمية – الخليجية سوف تسير على تواز معها، سوف تظل الأنظمة الخليجية توحي وتخطط وتمول كل ما من شأنه إخماد يقظات شعوب المنطقة، فبقاء الأنظمة الخليجية مرهون بخلق حالة من الجمود كأمر واقع في ما يحيط بها ويجاورها من بلدان عربية على وجه التحديد. لم تكن الدول العميقة في أي من بلدان الربيع العربي تحمل كل هذه الضغينة لثورات الشعوب، فرغم ما كانت هذه الثورات تمثله من تهديد لمصالح ومزايا ومكتسبات منظومات الحكم التي تمت الإطاحة بها إلا أن هذه الثورات كانت تحظى بتفهم البعض من المسؤولين داخل الدول العميقة بل كانت تحظى بتعاطف البعض بل كانت تلتقي مع مصالح أطراف ومؤسسات مهمة داخل أبنية التحكم والسيطرة بتلك الدول. الضغينة جاءت في وقت لاحق، لما بدأت أصداء ثورات الربيع العربي تتردد وتجد من يتجاوب معها – ولو على صعيد التمني والأحلام – بين قطاعات قلقة ومتحفزة من المجتمعات الخليجية، عند هذه اللحظة بدأ يتبلور التعامل الرسمي الخليجي مع ثورات الربيع العربي من زاوية الثورة المضادة، فكانت ومازالت تضع الخطط وتنفق الأموال وتوجه الإعلام وتشتري الذمم التي تقبل البيع وتقتني الضمائر التي ترحب بالإقتناء، فلم تترك الثورة الخليجية المضادة ثورةً واحدةً من ثورات الربيع العربي إلا وصلت بها إلى بر الفشل اليقين وكان آخرها الثورة التونسية.
*************
عندما التقت الثورةُ المصرية والدولةُ وجها لوجه بعد صلاة الجمعة 28 يناير 2011م، كانت الثورةُ طوق نجاة للدولة المصرية التي كانت تغرق على مدى عشر سنوات هي سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثورة 25 يناير 2011م كانت -باختصار شديد- عملا بطوليا نادرا ونظيفا ومثاليا لإنقاذ الدولة المصرية التي شحطت سفينتها في مياه ضحلة وغاصت في الطين وعجزت عن أن تواصل السباحة أو أن تواصل العوم. كان بطل الثورة، وكان بطل الإنقاذ، هو الشعب نفسه. ففي المائة ساعة الأولى، أي من 25 حتى 28 يناير، كانت الثورةُ إنقاذا للدولة، وكان الشعب هو بطل عملية الإنقاذ، وليست الثورة وكذلك الشعب ليس مسؤولا عما جرى بعد ذلك التاريخ من هلوسة ثورية وذوي مصالح وذوي مطامع وذوي عاهات نفسية وفكرية ظهروا باسمها وركبوا موجتها. ويظل المسؤول عما حدث بعد ذلك هو من وقعت عليه مسؤولية إدارة شؤون البلاد، بعبارة صريحة: المسؤول عما يُنسب إلى الثورة من سلبيات هو من أدار الفترة الانتقالية، وبعبارة أكثر صراحة، فإن السلبيات المنسوبة للثورة هي -في الحقيقة- سلبيات نوع الإدارة التي تم اتباعها، وهي سلبيات بعضها وقع بالخطأ وبعضها بل وأخطرها وقع بالقصد والعمد.
*************
لقد جاءت ثورة 25 يناير على موعد مع القدر بحيث أدركت الدولة في اللحظة الأخيرة- كان رئيس الجمهورية أقرب إلى خيال منه إلى حقيقة، كان كل يوم يمر يفقد قدرا مُعتبرا من معناه كرأس للدولة في نظام رئاسي يضع بين يدي الرئيس مقادير لا حدود لها من الصلاحيات والسلطات.
كانت الشيخوخة السياسية ومثلها الشيخوخة البيولوجية قد ضربت الحاكم ومن حوله من رجال ومؤسسات حتى عجزت المنظومة السياسية بكاملها عن التماسك في مواجهة تحديات عقد جديد من الزمن يختلف عما سبقه من عقدين هما ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
كانت الشيخوخة تقود الحاكم ومن معه من رجال وما تحت قبضته من مؤسسات إلى طريق مسدود من كل المداخل ومن كل الاتجاهات:
– انسداد على المستوى الرئاسي فقد كان الرئيس في موقعه منذ ثلاثين عاما تغير فيها كل شيء في مصر والعالم عدة مرات، بحيث أصبح الحاكم ومن حوله من رجال ومؤسسات غرباء عن الزمان سواء بين الشعب أو في العالم، هذه الغُربة التي صنعها التغير والتطور الطبيعي في مصر والعالم مُضافا إليها ما ضرب منظومة الحكم (الرئيس والأفكار والرجال والمؤسسات) من شيخوخة سياسية وبيولوجية تركت النظام مكشوفا أمام سطوة الخريف التي تساقطت أمامها هيبته ورقةً ورقةً على مدى عشر سنوات بدأت مع مطلع الألفية الجديدة.
– دولة 23 يوليو -رسم عبدالناصر تصميمها الثابت- لتكون على مقاس رؤسائها، فمنصب الرئيس هو كل شيء فيها، وعندما تكون الرئاسة في مأزق تكون الدولة كلها في مأزق، وهذا ما حدث في السنوات الأخيرة من فترة ما قبل ثورة 25 يناير 2011م، فقد أخذت الرئاسة تتخبط وهي تحاول إضفاء الشرعية على رئيس تقادم عليه الزمن وطال عليه العمر وتخلد في الرئاسة حتى زهدها – نفسيا- وزهد معها فكرة الحياة من أساسها وليس فقط فكرة السلطة. تخبطت الرئاسة بتعديلات الدستور، وتخبطت بالعدول عن نظام الاستفتاء الشكلى إلى الانتخابات الهزلية ثم وصل التخبط أبعد مداه بظهور نجل الرئيس في إدارة الدولة من موقع حزبي، فبدت الدولة المصرية برأسين، وكلا الرأسين بلا سلطة حقيقية مكتملة، فسلطة الأب أكلتها الشيخوخة، وسلطة النجل ليست أكثر من ورق في مهب الريح، فلا أساس لها ولا جذور، كانت الدولة تتفكك، وكان النظام يتساقط، وكان لابد أن يقوم صاحب السيادة هو الشعب، لينقذ الدولة من التفكك ثم ليسرح النظام من الخدمة.
*************
بروح البهجة والبراءة كانت ثورة 25 يناير طلعة شتوية حالمة ومغامرة أزاحت النظام وأراحت الدولة.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا