لم يقتصر الخلاف بين الشرق والغرب حول المسيح على اختلاف موعد ميلاده ما بين الـ25 من ديسمبر أو السابع من يناير. بل إن خلافًا أعمق يتعلق بصورة المسيح أو بورتريه وجهه الذي انتشر حول العالم كله في صورة رجل أوروبي أبيض بعينين زرقاوين. بينما السيد المسيح قد ولد في فلسطين أي أنه أقرب لرجل من يهود الشرق يحمل تلك الملامح الشرقية المعتادة.

بورتريه المسيح المنتشر تجاريًا يعزز أفضلية الأوروبي الأبيض

في مقال له بعنوان تاريخ طويل.. كيف أصبح المسيح أوروبي أبيض؟. يطرح المؤرخ لير اين اسبانول عدة فرضيات حول صورة المسيح في ظل عالم يعيد مراجعة أفكاره حول العنصرية. وإرث الاستعمار الأوروبي، حتى أن بعض النشطاء المناهضين للعنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية قد طالبوا برفع التماثيل واللوحات. التي تصوره كأوروبي أبيض من الأماكن العامة. ذلك لأن المسيح وفقا لما يطرحه هؤلاء في صورته البيضاء تلك تعزز من أفضلية الرجل الأبيض حول العالم بشكل لم يعد مقبولًا. في ظل الحديث عن العنصرية ومراجعة الإرث الاستعماري، وهي نفس الفكرة التي أشار إليها جاستن ويلبي رئيس أساقفة كانتربري القائد الروحي للطائفة الأنجليكانية في العالم كله.

لوحة العشاء الأخير
لوحة العشاء الأخير

يقول لير اين اسبانول: “بصفتي مؤرخًا فنيًا في عصر النهضة الأوروبية. قمت بدراسة الصورة المتطورة ليسوع من عام 1350 إلى 1600 بعد الميلاد”. مؤكدًا أن بعض من أشهر صوره، من “العشاء الأخير” لليوناردو دافنشي إلى “القيامة الأخيرة” لمايكل أنجلو في كنيسة سيستين. تم إنتاجها خلال هذه الفترة.

يوضح اسبانول: “لكن الصورة الأكثر تكرارًا ليسوع تأتي من حقبة أخرى. إنه “رأس المسيح” ذو العيون الفاتحة والشعر الفاتح لوارنر سالمان من عام 1940. وقد نجح سالمان، وهو فنان تجاري ابتكر صورًا للحملات الإعلانية، في تسويق هذه الصورة في جميع أنحاء العالم. ومن خلال شراكات سلمان مع شركتي نشر مسيحيتين، إحداهما بروتستانتية والأخرى كاثوليكية. تم إدراج رأس المسيح الأبيض في كل شيء بدءًا من بطاقات الصلاة إلى الزجاج الملون واللوحات الزيتية والتقويمات والترانيم والأضواء الليلية. إلا أن هذه الصور التي روجها سالمان ما هي إلا تتويج لصورة المسيح في وجهه الأوروبي الأبيض التي اجتاحت العالم.

يسوع التاريخي.. كيف يرسم الكتاب المقدس شكله؟

يطرح اسبانول فرضيات متعددة عن شكل يسوع التاريخي فمن المحتمل أن يكون ذو عيون بنية وبشرة قمحية تشبه يهود القرن الأول. الذين عاشوا في الجليل، وهي منطقة في إسرائيل التوراتية ومع ذلك لا أحد يعرف بالضبط كيف كان شكل يسوع. فلا توجد صور معروفة ليسوع من حياته.

وفي مقاربة نقدية لبورتريه يسوع فإن الكتاب المقدس يصف ملوك العهد القديم شاوول وداوود بالوسامة وطول القامة. مع وجود بعض الدلائل على ملامحه في الكتاب المقدس بعهديه. ففي حين يشير إشعياء نبي العهد القديم أن المخلص القادم “ليس له جمال أو جلال”. يصفه كتاب المزامير أبرع جمالًا من بني البشر، إلا أن الصور الأولى ليسوع قد خرجت إلى النور في القرنين الأول والثالث بعد الميلاد. وسط مخاوف بشأن الوثنية ومن ثم فإن رسامي تلك الفترة كانوا أقل اهتمامًا بالتعبير عن المظهر الفعلي للمسيح. بقدر ما حاولوا وصفه كملك أو مخلص، ومن ثم فإن الفنانين المسيحيين اعتمدوا التوفيق بين تصورات مختلفة تجمع بين الأشكال المرئية وثقافات أخرى.

بورتريهات توفيقية للسيد المسيح

في خضم تلك المحاولات ظهرت بورتريهات توفيقية للسيد المسيح غير أن أكثر هذه الصور شيوعا هي صورة الراعي الصالح. والتي يظهر فيها كرجل شاب بلا لحية وهي تستند إلى تمثيلات وثنية لأورفيوس وهيرميس وأبولو، أما في الصور الشائعة الأخرى. يرتدي المسيح التاج أو أي سمات أخرى للإمبراطور، وهنا يفترض اللاهوتي ريتشارد فيلاديسو أن المسيح الملتحي الناضج. ذو الشعر الطويل على الطراز “السوري”، يجمع بين خصائص الإله اليوناني زيوس وشخصية العهد القديم شمشون.

يطل بصورة شخصية كمعجزة

وفي تصور أخر، كان يعتقد أن الصورة الأولى للمسيح قد ظهرت كبورتريه ذاتي ظهر كمعجزة لم تتدخل فيها أياد بشرية، وهو اعتقاد ظهر في القرن السابع بعد الميلاد. بناءً على أسطورة أن المسيح شفى ملك الرها أبغار في أورفا الحديثة بتركيا، من خلال صورة معجزة لوجهه. تُعرف الآن باسم  ماندليون بينما تروي أسطورة مشابهة تبنتها المسيحية الغربية بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر كيف ترك المسيح. قبل موته على الصليب، انطباعًا عن وجهه على حجاب القديسة فيرونيكا، وهي صورة تُعرف باسم فولت سانتو، أو “الوجه المقدس” إذ شكلت هاتان الصورتان. إلى جانب قطع أثرية أخرى مماثلة، أساس التقاليد الأيقونية حول “الصورة الحقيقية” للمسيح.

من منظور تاريخ الفن، عززت هذه القطع الأثرية الصورة الموحدة بالفعل للمسيح الملتحي بشعره الداكن بطول الكتفين. أما في عصر النهضة، بدأ الفنانون الأوروبيون في الجمع بين الأيقونة والصورة، جاعلين المسيح يشبههم. وقد حدث هذا لأسباب متنوعة، من التماثل مع الألم البشري للمسيح إلى التعليق على القوة الخلاقة للفرد. على سبيل المثال، رسم الرسام الصقلي أنطونيلو دا ميسينا من القرن الخامس عشر صورًا صغيرة لمعاناة المسيح. منسقة تمامًا مثل صوره للأشخاص العاديين، مع وضع الموضوع بين حاجز خيالي وخلفية سوداء بسيطة موقعًا باسمه على الصورة.

أما الفنان الألماني ألبريشت دورر من القرن السادس عشر فعمل على طمس الخط الفاصل بين الوجه المقدس وصورته في صورة شخصية شهيرة عام 1500. في هذا، وقف أمامه مثل أيقونة، بلحيته وشعره الطويل حتى الكتفين يتذكر المسيح.

في أمريكا.. أبيض كما رسمه الاستعمار الأوروبي

لم تقتصر هذه الظاهرة على أوروبا: فهناك صور من القرنين السادس عشر والسابع عشر ليسوع بها سمات إثيوبية وهندية على سبيل المثال. لكن في أوروبا، بدأت صورة الأوروبي ذو البشرة الفاتحة في التأثير على أجزاء أخرى من العالم من خلال التجارة والاستعمار الأوروبيين.

المسيح كما صورته إثيوبيا
المسيح كما صورته إثيوبيا

عندما استعمر الأوروبيون الأراضي النائية بشكل متزايد، جلبوا معهم يسوعًا أوروبيًا. أسس المبشرون اليسوعيون مدارس الرسم التي علمت الفن المسيحي المتحولين الجدد في النمط الأوروبي.

يجادل الباحثون إدوارد ج. بلوم وبول هارفي أنه في القرون التي تلت الاستعمار الأوروبي للأمريكتين. تم ربط صورة المسيح الأبيض بمنطق الإمبراطورية ويمكن استخدامها لتبرير اضطهاد الأمريكيين الأصليين والأفارقة، وفي أمريكا متعددة الأعراق. كان هناك تمثيل غير متناسب ليسوع أبيض في وسائل الإعلام. لم يكن فقط رأس المسيح لوارنر سلمان هو الذي تم تصويره على نطاق واسع؛ بل إن نسبة كبيرة من الممثلين الذين لعبوا دور يسوع في التلفزيون والسينما كانوا من البيض بعيون زرقاء.

ترجمته وحررته: سارة علام