في حفل تأبين السينمائيين لفنان القرن شارلي شابلن قال المخرج البنجالي مرينال سين دفاعا عن أفلام شابلن المنصفة للفقراء والعمال: “بدون مبرر أخلاقي. تكون السينما سخيفة، فظيعة، وبمثابة فضيحة، إنها نشاط اجتماعي من صنع الإنسان، وعليه لا يجب أن تكون الفجوة بين الفن والسياسة واسعة للغاية”.
ويعد فيلم “don’t look up” أو بالعربية “لا تنظر إلى الأعلى” من نوعية أفلام القضايا التي تختلط فيها السخرية بالسياسة. والتي من أجلها خاطر شابلن بمستقبله وحياته في الولايات المتحدة، وتم طرده منها بالاخير. فمن خلاله حاول مخرجة آدم مكاي فضح النظام العالمي الجديد الذي استولى على البشر ومنذ عصر الثورة الصناعية، في القرن الثامن عشر. واستفحل في تهميش الإنسان وإهماله لصالح رؤوس الأموال، ومجتمع الواحد في المئة، في شكل كوميدي سوداوي.
يحكي الفيلم الذي يعرض على منصة الأفلام الشهيرة “نتفليكس” ومن تأليف افيد سيروتا، حكاية طالبة دكتوراه في علم الفلك والمشرف على رسالتها. حيث تكتشف الطالبة مذنبا سوف يرتطم بالأرض خلال فترة زمنية تزيد قليلاً على ستة أشهر. وهو الارتطام المؤكد بنسبة 99.7%.
ليجد العلماء أنفسهم وحيدين بما توفر لديهم من معلومات، إذ يتم تجاهلهم تماما من قبل المجتمع الذي يعيشون فيه. بينما يعيشون حالة من الهلع والإحباط، ويحظى عالما الفلك بلقاء مدته عشرين دقيقة مع الرئيسة التي تبدي اهتماما بحملتها الانتخابية أكثر من مصير الكوكب. فيقرر العالمان المشاركة في برنامج صباحي لإنذار العامة. إلا أن مقدمي البرنامج التلفزيوني يقابلان التحذير بالسخرية والتخفيف من أهمية الأمر.
ثم يصدر تأكيد من العلماء حول العالم بأن المذنب القاتل يوشك فعلاً أن يرتطم بالأرض. وبعد تغير مجرى الرياح السياسية، تقرر الرئيس البدء بمهمة غايتها تحويل مسار المذنب. ولكنها تغير رأيها في اللحظة الأخيرة نزولاً عند إلحاح أحد مليارديري وادي السيلكون من أصحاب رؤوس الأموال، والمتبرع الأساسي لحملتها الانتخابية. لكي يتسنى له تنفيذ خطة لديه بتوجيه المذنب حتى يهبط بسلام على الأرض مستخدماً تقنيات لم تجرب من قبل رغبة في الحصول على ما يحتويه من معادن نفيسة.
“ها قد اقتربت النهاية، فهل سيكون هناك مباراة لدوري كرة القدم؟”
تستمر أحداث الفيلم وينقسم المجتمع إلى من يروج لجدوى هذا التحول في الأحداث وما ستجلبه تلك المعادن من خير للبشرية. ومن ينكر المسألة برمتها ويتبنى نظرية المؤامرة رافعين شعار لا تنظر إلى الأعلى. حتى يمر الوقت وتفشل محاولة تفتيت النيزك فيقوم بتدمير الأرض، ومن ثم ينتهي العالم.
وقد اختلفت التقييمات الخاصة بالفيلم على المستوى الفني بين رافض لطريقته المباشرة في إيصال الرسائل. وآخرين معجبين تحديدا بمباشرية رسالته وكوميديته السوداء. كما اعتبره آخرين معبرا عن أحوال العلماء الذين لا يستمع العالم لصوتهم في ملفات خطيرة كملفات المناخ.
وفي هذا الصدد كتب عالم المناخ بيتر كالماس عن الفيلم في صحيفة الجارديان: “ليس هذا فيلماً حول كيفية تعامل البشرية مع مذنب قاتل للكوكب. وإنما فيلم حول كيفية تعامل البشرية مع تدهور مناخي قاتل للكوكب. فرغم ما بات جلياً بما لا مجال معه للشك من وجود خطر مناخي يتفاقم يوماً بعد يوم. إلا أننا نعيش في مجتمع ما زال أكثر من نصف أعضاء الكونجرس من الجمهوريين فيه يقولون إن التغير المناخي مجرد خديعة ويرغب عدد منهم أكبر من ذلك في إعاقة اتخاذ أي إجراء لحماية البيئة”.
وفي موضع آخر يقول “نعيش في مجتمع يقول فيه زعماء العالم إن المناخ يمثل تهديداً وجودياً للبشرية. بينما يقومون في نفس الوقت بالتوسع في إنتاج الوقود الأحفوري.. مجتمع مازالت فيه الصحف الكبرى تنشر إعلانات لقطاع الوقود الأحفوري. بينما يتم بشكل روتيني تهميش الأخبار المتعلقة بالمناخ لصالح أخبار الرياضة. مجتمع يمضي فيه رجال الأعمال قدماً بالدفع بحلول تقنية خطيرة بينما يروج أصحاب المليارات للأفكار السخيفة التي تزعم بأن بإمكان البشر الانتقال للعيش في المريخ”.
“إنه جنرال بثلاثة نجوم يعمل في البنتاجون لماذا قد يجعلنا ندفع ثمن وجبات خفيفة ومجانية”.
خلص العلماء من برنامج Horizon 2020 للأبحاث والابتكار التابع للاتحاد الأوروبي. إلى أن النموذج الاقتصادي العالمي الحالي لا يمكنه دعم انتقال ناجح للطاقة النظيفة.
ووفقًا لتقرير المناخ العالمي لعام 2020 الصادر عن المراكز الوطنية للمعلومات البيئية. التابعة للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) ، فقد زادت درجة الحرارة العالمية السنوية بمعدل 0.08 درجة مئوية لكل عقد منذ عام 1880. ولكن متوسط معدل الزيادة منذ عام 1981 (0.18 درجة مئوية) كان أكثر من ضعف هذا المعدل .
تأثيرات الاحتباس الحراري
علاوة على ذلك، فإن تأثيرات الاحتباس الحراري موجودة بالفعل وتشمل موجات الحرارة المفرطة، وحرائق الغابات المتكررة. والمزيد من حالات الجفاف، وزيادة وتيرة الأعاصير وشدتها ومدتها. وارتفاع مستويات سطح البحر مما سيكون له تأثير عميق على المناطق الساحلية المنخفضة.
وستظهر تأثيرات الاحتباس الحراري بشدة على جميع فئات الحركة البشرية: النزوح، والهجرة، والترحيل المخطط له.
وتعتبر البيانات المتعلقة بالحركة البشرية في سياق حالة الطوارئ المناخية شاقة بالفعل، إذ قدر مركز رصد النزوح الداخلي. الذي كان يجمع البيانات منذ عام 2008 عن النزوح بسبب الكوارث الطبيعية. أنه بين عامي 2008 و2019 كان هناك 265 مليون حالة نزوح جديدة مرتبطة بالكوارث مثل العواصف والفيضانات وحرائق الغابات. لا يشمل هذا الرقم تقديرات النزوح المرتبط بالجفاف أو تقديرات الهجرة وإعادة التوطين المخطط لها المرتبطة بالطوارئ المناخية.
ومن المتوقع أن يكون تأثير الهجرة البشرية بسبب أزمة المناخ ساحقًا. ويقدر تقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2018 أن ثلاث مناطق من العالم (أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا). ستنتج 143 مليون مهاجر بيئي إضافي بحلول عام 2050.
وفي العموم فإن الاحتباس الحراري هو الأزمة الحاسمة في عصرنا، فلطالما حدث تغير المناخ على كوكب الأرض. ولكن هناك أدلة علمية دامغة على أن متوسط درجة حرارة سطح الأرض على مستوى العالم آخذ في الارتفاع بسبب العوامل البشرية.
كوكب في ورطة
ووفقًا لتقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) ، تسببت الانبعاثات والأنشطة البشرية بنسبة 100%. من الزيادة الملحوظة في درجة الحرارة منذ عام 1950.
فالاحتباس الحراري من صنع الإنسان والمذنب هو الرأسمالية الصناعية وإدمانها على الوقود الأحفوري. الذي يؤدي بدوره إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى التي تحبس الحرارة في الغلاف الجوي وتساهم في ارتفاع درجات الحرارة.
لقد عرف العلماء منذ عقود كيف يتسبب ثاني أكسيد الكربون بالضبط في الاحتباس الحراري. كما حذر عالم الفيزياء النووية، إدوارد تيلر، من أن صناعة النفط منذ عام 1959 ستنتهي بتأثير كارثي على الحضارة البشرية.
والخبر السار هو أن بحثًا منفصلاً نُشر في سبتمبر يثبت أن مثل التحول الاقتصادي للطاقة النظيفة ممكن تمامًا مع الحفاظ على نوعية حياة جيدة للناس في جميع أنحاء العالم. ولكن هل نسمع للعلماء في الوقت المناسب أم سيكون لمليارديري وادي السيليكون رأيا آخر؟
موضة أفلام اليسار.. مزاج عالمي
من جانب آخر لا يمكن المرور على تلك القضايا وعلاقتها بالسينما دون عقد المقارنة بين أحوال شارلي شابلن ومخرج فيلم “لاتنظر إلى الأعلى” آدم مكاي. الذي كان أكثر حظا حيث لن يضطر لدفع ثمن هجائه النظام العالمي كما جرى الأمر مع شارلي. الذي كانت توجهاته الاشتراكية سببا في طرده من الولايات المتحدة بعد أن عاش بها لأكثر من ثلاث عقود. بل بالعكس فإن مكاي يعمل بأجواء داعمة لتلك الأفكار.
وخلال الفترة الأخيرة نجحت العديد من الأعمال الفنية ذات الطابع اليساري في الحصول على نجاح جماهيري غير مسبوق. وفي معقل العدوة القديمة لتلك الأفكار الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت سنت قانون ذات يوم يسمى “مكارثي” يعاقب على النزعات الاشتراكية. والذي حوكم على أساسه الآلاف ومنعوا من العمل، أو تم ترحيلهم او طردهم كما في حالة شابلن. والآن طالعنا أعمال فنية مثل “لا كاسا دي بابل” الأسباني، و”سكويد جيم” الكوري، أو حتى “باراسيت” الكوري الحائز على الاوسكار، وغيرهم. وجميعها أعمال تنحاز للفقراء، تنتقد الانظمة الرأسمالية العالمية، وطابعها القاسي، المنافي للانسانية.
ليس هذا إلا بفضل مزاج عالمي مختلف بدأ بعدد من التحركات العالمية والتي بدأت مع حركة “حياة السود مهمة” المناضلة ضد العنصرية. كذلك الاهتمام بقضايا المناخ، وانضمام الكثير من المراهقين والشباب إلى هذه الحركات، وتوسعها. حتى أن الناشطة البيئية المراهقة جريتا جوتينبرج أصبحت ذو مكانة تتخطى رؤساء الدول. بل أجبرتهم على الإنصات إلى ما تقوله، وإلقاء اللوم عليهم. كما أن تأبين جورج فلويد المواطن الأمريكي الأسود وصل إلى باحات الملاعب في أوروبا. فجماعات الضغط الشعبية والمدنية، والأفكار الاشتراكية تتقدم إلى عقر الإدرارة الأمريكية.
وربما لو كان شابلن حي يرزق بيننا لكان قائد أحد المسيرات الأمريكية المناهضة لليمين المتطرف هنا أو هناك. والمتمسكة بالمبادئ الاشتراكية، أو أحد أعضاء حملة بيرني ساندرز المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة ذو التوجهات اليسارية الواضحة.
ردة فعل عكسية
وعلى ذكر اليمين يعتبر البعض أن قدوم دونالد ترامب لسدة الحكم وما جلبه معه من تصريحات حمقاء. مليئة بالعنصرية، والتطرف، تنكر العلم والمنطق، أنتج ردة فعل عكسية، لصالح الخطاب الاشتراكي الذي يدعو في النهاية إلى المساواة والعدالة الاجتماعية كحد نظري أدنى. وهو ما ساعد جون بايدن لاحقا إلى التفوق عليه في الانتخابات. ووصول العديد من النواب اليسار عبر الحزب الديمقراطي إلى الكونجرس الأمريكي.
ربما كان ترامب برفقة خطابه المتطرف عاملا مساعدا، ولكنه ليس الأساس الوحيد حيث إن سوء الأحوال الاقتصادية والمناخية. وظهور الاوبئة التي أبرزتها السلوكيات الرأسمالية غير القويمة تسبق على أي جهود لترامب، كما أن ثورة الاتصالات والمعلوماتية شجعت الجماهير على الانخراط في جماعات ضغط أكثر تنظيما، واتصالا ببعضها البعض.
وعليه لم يفت الآلة الرأسمالية في قطاعات مختلفة منها السينما على استغلال ذلك المزاج العام لتسويق تلك الأفكار، وتسليعها، ربما للأرباح المادية. أو ربما فرصة للتنفيس عن الجماهير، وبما يخفف الضغط عن “الكبار” بنهاية اليوم.