لم يكن نبأ الاعتزال الصادم للمخرج السينمائي داوود عبدالسيد إلا عنوانًا بارزًا لما آلت إليه صناعة السينما في مصر خلال السنوات الأخيرة، حيث عصر احتجاب المضامين، أو كما يعتبرها البعض رصاصة أخرى في جسد ينزف.
ثلاثة أسباب بارزة دفعت عبدالسيد للتوقف عن الإخراج خلال الفترة الأخيرة. تتمثل في سيطرة شركات بعينها على سوق الإنتاج الفني في مصر، وانصراف الجمهور عن الأفلام الجادة وتفضيله الترفيهية عليها. إلى جانب انتشار “سينما المول” التي أزاحت دور العرض في الأحياء الشعبية.
عبدالسيد لن يكون آخر المغادرين
هذه الأسباب المستمرة بطبيعة الواقع، بمثابة إعلان بأن المخرج المخضرم لن يكون آخر المغادرين قطار السينما. لذلك طُبعت الحسرة على وجوه الكثيرين من العاملين في صناعة السينما، وهي نابعة من فداحة خسارة قامة إخراجية كسبب رئيس. حيث لا تمتلك السينما الآن مخرجين كثر بعقلية داوود وأفكاره الفلسفية، التي رغم قلة أعماله لم يفشل في ترك البصمة. وفي ظل رحيل أغلب المحسوبين على هذا التيارالسينمائي، وفي مقدمتهم يوسف شاهين وعاطف الطيب ومحمد خان. فضلاً عن قلة خبرة الآخرين أحيانا، وتهمشيهم في أحايين كثيرة.
الدلالة الأخرى من اعتزال مخرج رائعة “الكيت كات” وتسببت في إحباط محبي السينما، هي تكريس حالة الانسحاب للسينما الجادة التي ينتمي إليها داوود. وذلك في ظل المتاريس التي تعترض هذه الصناعة، والهامش الضيق الذي تحظي به السينما المستقلة بعيدا عن شباك التذاكر.
شباك التذاكر، الذي كان يمول أفلام نوعية معينة من المخرجين، مثل داوود عبدالسيد، حسبما أكد في تصريحاته الأخيرة، أحد الأسباب الرئيسية، التي ترشح غياب الأفلام التي تحمل مضامين يغلب عليها الطابع الفلسفي والاجتماعي، لسنوات أطول. وذلك في ظل عدم تشجع منتجين وأصحاب دور العرض لأفكار غير تجارية. إذ تحصد الأفلام الكوميدية تحديدًا نصيب الأسد من الإيرادات منذ الألفية الجديد، ولنجوم لا يعرفهم الجمهور. كما هو الحال في أفلام تنافس في المهرجانات السينمائية بأبطال من الهامش، كالذي أتى بهم مخرج فيلم “ريش” عمر الزهيري.
غير أن الزهيري اصطدم بأن الوسط الفني نفسه لا يتشجع لرؤية ممثلين آخرين، مثل دميانة نصار، يصعدون لمنصات تتويج المهرجانات. وتتصدر صورهم أفيش الأفلام، فضلاً عن صاحب دور العرض الذي يستهدف في المقام الأول جني الأرباح.
المغامرة غير المضمونة
الناقد الفني خالد محمود يرجع ندرة إنتاج فيلم جيد حاليا يرجع إلى الحاجة لعوامل تبدو غير متوافرة في عناصر الصناعة ومرشحة للاستمرار لسنوات. فضلاً عن خوف المنتجين وأصحاب دور العرض من خوض مغامرة تبني تمويل “فيلم يعيش”. أو على الأقل فيلم يجذب النقاد المصريين للالتفاف حوله، وهو ما لم يحدث منذ سنوات طويلة.
يلفت محمود أيضًا إلى أن عمر الزهيري وغيره من صانعي الأفلام التي مثلت مصر في أكثر من مهرجان. من بينهم “كان” وتترشح أفلامهم عن مصر لجوائز الأوسكار، لا يحصلون على الفرصة الكاملة للوصول إلى الجمهور. حتى يقول كلمته فيما يقدموه، وهو ما يحتم على أصحاب دور العرض أن يتحلوا بالجرأة الفنية لتغيير المشهد الفني في مصر.
مقصلة الرقابة
الكرة ليست فقط في ملعب رأس المال الخاص. فحصول أفلام على موافقة جهات الرقابة تقف حجر عثرة أمام صناع الأفلام غير التجارية. سواء حملت مصطلح “فيلم مستقل” أو “فيلم غير جماهيري”، وهو ما عطل خروج مشاريع كثيرة للنور في السنوات الأخيرة. داوود عبدالسيد نفسه أحد ضحايا هذه “العطلة”، حيث كشف في تصريحات له عقب اعتزاله أنه تقدم بمشروعات أفلام بالفعل، لكن الرقابة على المصنفات الفنية رفضت. وفي أحيان أخرى لم يردوا عليه من الأساس.
المخرجة هالة خليل، التي يمكن تصنيفها على أنها من مدرسة سينمائية غير تجارية، ضحية أخرى من ضحايا الرقيب. إذ أطلقت في أكتوبر الماضي صيحة استغاثة لتعنت الجهات الرقابية ضد فيلم تقدمت به منذ 5 سنوات. ورغم تنفيذها التعديلات المطلوبة، لكنها لم تحصل على تصاريح تصويره حتى الآن.
وبحسب نداء الاستغاثة نفسه، فإنه لا يوجد الآن من يتحمل مسؤولية الموافقة إذا كان النص يتجاوز الخطوط الحمراء الجديدة. هذه القيود تتفهما المخرجة هالة خليل، لكنها لم تعد كفيلة بتمرير فيلمها من بوابة الرقيب. كما يتفهما مخرجون آخرون ويعملون وفق هذا الإطار. كما تقول المخرجة نيفين شلبي إن “هناك محظورات كثيرة في قبول موضوعات بعينها في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها المنطقة. وهذا طبيعي جدًا ومفهوم لنا”.
“هالة” ناشدت وزير الثقافة، إيناس عبدالديم للتدخل، قائلة إن الرقابة على المصنفات الفنية تسير في اتجاه معاكس لرؤية رئيس الجمهورية. فيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني وتعزيز تقارب الأديان وتتباطأ في الموافقة على سيناريو يقوم بتذويب العلاقات بين مواطني الوطن الواحد. ويدعو إلى وحدة الوطن والمواطنين دون أي تمييز أو عنصرية.
الفترة الحالية ليست “أحلى الأوقات” لـ هالة خليل
مخرجة “أحلى الأوقات” تشعر بالتجاهل نفسه الذي دفع داوود عبدالسيد للاحتجاب. حيث أعربت عن اندهاشها من حصول 3 أفلام لها على جائزة أفضل فيلم من المهرجان القومي للسينما المصرية. وتحصل أفلام أخرى على موافقة الرقابة بالفعل، بينما لا تجد من ينتج لها فيلما يخرج إلى النور.
حصول الفيلم على موافقة جهة الرقابة يجب أن يمر بمراحل عديدة، يسردها المخرج الشاب إسلام ملبا: تبدأ من تصريح السيناريو. ثم تصريح التصوير، يليهما تصريح آخر بالعرض، وإذا كنت من أصحاب الحظ الجيد فإن فيلمك سيمر بالمحطات الثلاث لتواجه المحطة الأخيرة، وهي الرقابة الإدارية والشعبية التي تحلق عرض الفيلم بالسينمات. ضاربًا المثل بفيلم حلاوة روح للنجمة اللبنانية هيفاء وهبي، الذي أوقفه رئيس الوزراء إبراهيم محلب حينذاك، بعد أسبوعين من عرضه.
فيلم حلاوة روح، إنتاج 2014، كان دافعًا لإصدار المحكمة الدستورية العليا عام 2019 قرارًا بجواز سحب ترخيص الفيلم السابق إصداره. وذلك إذا طرأت ظروف جديدة.
المحكمة الدستورية قالت في حيثياتها إن “المشرِّع أطلق حرية الإبداع الفنى، فى مجال الفـن السينمائي. إلا أنه قيد هذا الإطلاق، بحدود بيَّنَها القانون على سبيل الحصر، هي حماية الآداب العامة. والمحافظة على الأمن، والنظام العام، ومصالح الدولة العليا، فضلاً عن حماية المقومات الأساسية للمجتمع التى حددها الدستور، وقيمه الدينية، والأخلاقية، والاجتماعية. بحيث إذا ما خرج المصنف السينمائى عن أحد هذه الحدود عد خارجًا عن المقومات الأساسية الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية. التى يحميها الدستور، والتى تعلو، وتسمو دائمًا، فى مجال الرعاية والحماية، على ما تتطلبه الحرية الفردية الخاصة”.
العراقة المصرية تتراجع خلف المتعلمين الجدد
المفارقة أن المجتمعات التي كانت توصف بأنها الأكثر رديكالية، ألغت الرقابة على الأفلام من الأساس. فدول الخليج باتت سوقها منفتحة على أفكار كان يرفضها في الماضي القريب، وفق إسلام ملبا.
وباتت السعودية تمتلك الآن 385 شاشة بعد افتتاح أول سينما بها في 2018 وتستهدف الوصول إلى 1450 داراً بحلول 2024. بينما تراجع عدد دور العرض في مصر إلى 325 دارًا. وفقا لآخر إحصائية صادرة من الجهاز المركزي للتعبئة العام والإحصاء المصري في 2019.
الغريب أن السينما المصرية التي كانت رائدة، باتت تشهد تراجعا خلف دول حديثة العهد بهذا الجانب الفني. كما تشير الأرقام إلى ارتفاع إيرادات دور العرض السينمائي في الخليج والأردن ولبنان بنسبة 225% لتسجل 800 مليون دولار. على أن تواصل الصعود إلى 1.3 مليار دولار في العام المقبل، وفقاً لبحث أجرته مؤسسة أومديا.
هذا على مستوى الإمكانيات والبنية التحتية، لكن عدد الأفلام التي تنتج سنويا في مصر تأثر هو الآخر بهدم دور العرض الشعبية والتوجه لسينما المول. فباتت تتراوح بين 25 و30 فيلمًا وهو متوسط عدد الأفلام في مصر في آخر عشرين سنة. بعدما كانت تنتج في التسعينيات مما لا يقل عن 65 فيلما. وبفارق بعيد عن عدد الأفلام التي أنتجت في عام 1986 الذي شهد قمة الإنتاج السينمائي في مصر بـ96 فيلمًا. وفقًا لورقة بحثية بعنوان “السينما كصناعة اقتصادية” للباحث محمد سالم.
اللافت أيضًا أنَّ السعودية بدأت تخطط لاقتسام كعكة تصوير الأفلام العالمية في المنطقة العربية. حيث أعلنت عن حزمة حوافز للأفلام العالمية لجذبها للتصوير على الأراضي السعودية. بما في ذلك خصم نقدي شديد التنافسية يصل 40% من إجمالي النفقات.
على النقيض تماما، تبحث الجهات المحلية في مصر عن تعزيز مصادر دخلها من وراء تصوير الأفلام السينمائية. حيث حددت محافظة القاهرة في أغسطس الماضي 100 ألف جنيه رسوم اليوم الواحد لتصوير المشاهد السينمائية بشوارع وأبنية العاصمة. وهو القرار الذي لم يدخل حيز التنفيذ نتيجة ضغوط من نقابة المهن التمثيلية.
فواعل ضد القوة الناعمة لمصر
هكذا، تبدو القاهرة عاصمة السينما العربية يخفت بريقها، وتسحب منها قوتها الناعمة بفعل فاعل. كما يقول إسلام ملبا، بعد ظهور منافسين جدد قادرين على زيادة عدد شاشات العرض وتمويل الأفلام واجتذاب صناع السينما المصريين. بالإضافة إلى منافس آخر شرس هو المغرب الذي ابتلع كعكة تصوير الأفلام العالمية منذ وقت طويل.
يحدث هذا في وقت ترفع الدولة يدها عن دعم صناعة السينما، في ظل الموارد القليلة التي تمتلكها وزارة الثقافة. وهي الجهة التي تعد قادرة على إنجاز مشروعات سينمائية ومنح قبلة الحياة لمبدعين مثل داوود عبدالسيد.
وتوقفت الدولة عن الإنتاج السينمائي بشكل نهائي في 1980، هو العام الذي شهد عرض آخر فيلم أنتجه القطاع العام. وذلك بعد سيطرة دامت نحو عقدين على صناعة السينما بدأها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في 1963 بإنشاء المؤسسة العامة للسينما. وهي الفترة التي شهدت إنتاج ما لايقل عن 60 فيلما سنويا.
أزمة السينما المستقلة
أمام كل ذلك، لا تبدو السينما المستقلة أو سينما منخفضة التكلفة كما نقول عنها، هي الملاذ الوحيد للنهوض بهذه الصناعة. إذ يقول إسلام ملبا إن الجميع يخضع للقوانين ويعاني القيود ذاتها، فالكل ينتظر دوره أمام الرقيب. الفيلم ليس كالمهرجان الشعبي الذي ينتج داخل غرفة ويذاع على الهواء.
كما ستنعكس الضجة التي صنعها فيلم “ريش”، باتهامه بالإساءة لسمعة مصر، لاحتوائه على مشاهد أسر فقيرة، على الطريقة التي ستتعامل بها الجهات الرقابية مع هذه النوعية من الأفلام. خصوصا أن وسائل الإعلام الرسمية استغلت هذا الفيلم في الهجوم على صناع السينما المستقلة. ومن بينهم محمد حفظي نفسه، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، باعتباره من الممولين الرئيسيين لهذه الأفلام.
إلى جانب مقصلة الرقيب، عرفت الأفلام المستقلة أيضًا الصراعات التجارية مثل أزمة فيلم “سعاد” لمخرجته أيتن أمين. الذي نال ترشيحا رسميا من لجنة المهرجانات بالمشاركة في مسابقة “الأوسكار”، وما زال ممنوعا من العرض. وذلك بسبب خلافات بين مؤلف الفيلم محمود عزت والمنتج المشارك مارك لطفي، الذي قام بتسجيل العمل باسمه. وصلت إلى حد التقاضي بينهما من أجل إثبات كلاهما أحقيته في كتابة السيناريو.
الترفيهي أيضًا لا يجد الممول
وعكس ما يتخيل البعض أن المتاريس تنصب فقط أمام الأفلام التي قد تمرر رسائل لا يراد لها أن ترسل. فإن إنتاج فيلم ترفيهي ليس سهلاً، كما تقول المخرجة نيفين شلبي: “إيجاد جهة إنتاج أمر صعب حتى على الفيلم الترفيهي. فلو كان هذا هو السر لكنت أخرجت عشرات الأفلام سنويا”.
تشير شلبي إلى أن هناك نموذجًا لا يختلف عليه أحد وهو سينما وحيد حامد. فقد استطاع الدمج بين السينما التجارية الناجحة الجاذبة للجمهور العادي وجمهور المثقفين أيضًا مثل أعمال “طيور الظلام” و”عمارة يعقوبيان” و”النوم في العسل”. وهي معادلة صعبة جدا لا يستطيع عليها الكثيرون.