لم تبدأ الأزمة التونسية مع قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو من العام الماضي، إنما بدأت في أعقاب انطلاق المسار السياسي الذي خرج من رحم الثورة التونسية في 2010، واستمر ما يقرب من 10 سنوات، وتفاقم عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي شهدتها البلاد في 2019، وأفرزت منظومة سياسية غير قادرة على العمل والإنجاز. ليس فقط نتيجة الصراع بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية، وإنما لأن السلطة التنفيذية لم يكن لها رأس واحدة كما في كل النظم السياسية، فيكون رئيس الحكومة في النظم البرلمانية أو رئيس الجمهورية في النظم الرئاسية. خلق الدستور التونسي نظامًا برأسين: أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة؛ فأصيب بالشلل والعجز على الفعل والعمل.

عطب الأداء السياسي

ربما تكون أزمة كثير من المسارات التي أعقبت بعض الثورات الشعبية في العالم العربي ومنها تونس، إنها لم تحرص على بناء نظام فعّال، إنما ركزت على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ووسعت ليس فقط من صلاحيات البرلمان، وإنما صلاحيات رئيس الحكومة في مواجهة رئيس الجمهورية.

إن أي مقارنة بين الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية في الدستور التونسي وبين باقي النظم الرئاسية الديمقراطية مثل أمريكا وفرنسا ودول أمريكا الجنوبية، سيتضح منها ضعف الصلاحيات الممنوحة للرئيس التونسي مقارنة بهذه الدول.

والواضح أن الدستور التونسي نشأ بعيوب مرحلة “ما بعد الثورة”، التي اعتبرت أن مواجهة الاستبداد سيكون بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتحصين البرلمان، حتى وضعت صلاحيات الرئيس في منازعة مع رئيس الحكومة، وأصابت النظام السياسي بالشلل، دون أن ترى مخاطر بناء نظام سياسي بلا رأس تنفيذي واحد يقرر، وبرلمان يراقب ويشرع، فانتعشت المكايدات والمعارك السياسية الصغيرة على حساب القدرة على الإنجاز والتقدم.

وقد اتضحت تجليات هذا الدستور بشكل واضح في انتخابات 2019 التي حصلت فيها حركة النهضة على 54 مقعدًا من أصل 2017، وركزت تفكيرها على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية بدلاً من مواجهة تداعيات جائحة كورونا، فتقدم نوابها في شهر مايو من العام الماضي بمشروع قانون للبرلمان لتعديل القانون الانتخابي الحالي، وتحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو للاستفتاء، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة. وهو تحول يقضي على ما تبقى من الصلاحيات المحدودة لرئيس  الجمهورية، وتعني عمليًا التحول نحو النظام البرلماني رغم أن رئيس الجمهورية منتخب مباشرة من الشعب، بما يعني أنه يجب أن يتمتع بصلاحيات واسعة ومستقرة كما في كل النظم الرئاسية.

ودخلت البلاد في مناكفات سياسية في “عز” أزمة كورونا، أدت إلى تفاقم الوضع الصحي. فقد أمر الرئيس (القائد الأعلى للقوات المسلحة) الجيش بالتحرك من أجل مواجهة الجائحة. وهو ما حدث بالفعل، وبنيت مستشفيات ميدانية في أكثر من مدينة لمحاصرة انتشار الوباء، ودعمه في ذلك وزير الصحة الذي أقاله رئيس الحكومة السابق لأنه إنجاز لرئيس الجمهورية.

في نفس الوقت أقدم رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي على إجراء تعديل وزاري دون الرجوع للرئيس، أقال فيه وزير الداخلية توفيق شرف الدين المقرب من سعيد. وهو ما اعترض عليه الأخير، ودفعه إلى رفض استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستوري، وظل الأمر معلقًا حتى قرارات الرئيس في يوليو من العام الماضي.

يقينا حصيلة 2020 و2021 على المواطن التونسي كانت ثقيلة وسلبية، إذ شهد أمامه نظام عاجز عن العمل، وهي كلها تربة خصبة جعلت غالبية الشعب التونسي ترحب بقرارات الرئيس سعيد في 25 يوليو الماضي، رغم رفض حركة النهضة وبعض الأحزاب السياسية لها.

خريطة ما بعد 25 يوليو

أدت قرارات قيس سعيد إلى حدوث “انقسام ثلاثي” داخل المجتمع ونخبته السياسية: الأول هو الشارع التونسي وجانب من النخب السياسية والحزبية، وهؤلاء أيدوا بدون تحفظ قرارات الرئيس، والثاني يعبر عنه جانب من النخب السياسي والحزبية، ويقوده الاتحاد التونسي للشغل، وقدم دعمًا مشروطًا أو مساندة مشروطة للرئيس وقراراته أو كما قال رئيس الاتحاد “لن نعطي صكًا على بياض لأحد”، فدعم الإجراءات الاستثنائية، ورفض العودة لما قبل 25 يوليو أي عودة البرلمان، ودعم تشكيل الحكومة الجديدة، ورفض فكرة الحوار المباشر مع الشعب التي طرحها قيس سعيد، دون مشاركة القوى المجتمعية الوسيطة من اتحادات وروابط ونقابات وأحزاب. أما التيار الثالث فتقوده أساسًا حركة النهضة، التي كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء أزمة النظام الحالي، وتمثل أساس القوى المعارضة للرئيس، وإلى جانبها هناك 4 أحزاب مدنية عارضت الرئيس ورفضت في نفس الوقت التحالف مع حركة النهضة وأسست “الجبهة الديمقراطية”، وتضم الاتحاد الشعبي الجمهوري، حراك تونس، حزب الإرادة الشعبية، وحركة وفاء.

المؤكد أن خريطة هذه القوى وأوزانها ليست ثابتة وستتغير تبعًا لعوامل كثيرة، أهمها قدرة الرئيس قيس سعيد على تقديم بديل للمنظومة القديمة التي بسببها اتخذ إجراءاته الاستثنائية، وإنه لن يستطيع أن يستمر في العام الجديد كما فعل في العام الماضي مكتفيًا بالحديث عن مساوئ المنظومة القديمة ومساوئ البرلمان، إنما لابد أن ينقل البلاد خطوات للأمام بإجراء حوار مع القوي الفاعلة اجتماعيًا وسياسيًا ونقابيًا، حول التعديلات المطلوبة في دستور 2014 وعرضها على الاستفتاء الشعبي من أجل تأسيس نظام رئاسي ديمقراطي يتمتع بالكفاءة والقدرة على الإنجاز.

سيناريوهات العام الجديد

أعتقد أن عام 2022 سيكون عام الحسم في الأزمة التونسية؛ فإما سينجح الرئيس التونسي في إجراء الإصلاحات الدستورية والسياسية المطلوبة، أو يتعثر وتعود البلاد إلى المربع الأول، أي إلى نظام سياسي مأزوم (وربما أسوء من السابق) وعاجز على تحقيق أي إنجاز.

وستصبح تونس أمام سيناريوهان:

السيناريو الأول نجاح الرئيس قيس سعيد في أن يجري حوارًا مجتمعيًا حول التعديلات الدستورية المطلوبة، يضم القوى الفاعلة والمؤسسات الوسيطة سياسيًا ونقابيًا، ثم يعرضها على استفتاء شعبي قالوا إنه سيكون قبل 25 يوليو المقبل.

وإذا نالت هذه الإصلاحات ثقة أغلب التونسيين ستدخل البلاد مرحلة جديدة تؤسس لنظام رئاسي ديمقراطي مثل معظم دول الجنوب وخاصة أمريكا اللاتينية التي اختارت النظم الرئاسية الديمقراطية وليس البرلمانية أو المختلطة.

ولكي ينجح الرئيس فإن عليه التخلي عن بعض أفكاره الشعبوية عن الحوار مباشرة مع الشعب ومع الشباب، دون وسيط سياسي أو نقابي، أو حديثه عن الديمقراطية المباشرة والشعبية التي تستدعي تجارب فاشلة عربية (ليبيا القذافي)، ولا علاقة لها بالسياق التونسي والثقافة السياسية التونسية.

رغم كل مساوئ الديمقراطية التمثيلية إلا أنها تظل أفضل نظام سياسي مطروح، وهي الأنسب لتونس وتاريخها، وهي أيضًا التي انتخب من خلالها قيس سعيد رئيسًا للجمهورية.

السيناريو الثاني أن يتعثر الرئيس ويفشل في تعديل الدستور ويصر على التحليق في العموميات بجمل من نوع “تطهير القضاء خير من ألف دستور” وغيرها، واستمرار حديثه عن المتآمرين والعملاء وليس الخصوم والمنافسين، ويصف المؤيدين بأوصاف غير سياسية، ويقول “إنهم الثابتين الصادقين”، أو يكتفي بالمشاورات الإلكترونية التي يجريها حاليًا مع بداية العام مباشرة مع الشعب، ويتجاهل القوى الوسيطة والحزبية حتى يبتعد أو يعجز عن مواجهة أزمات الواقع الحقيقية اقتصاديًا وسياسيًا ودستوريًا.

فشل الرئيس سيعني عودة النهضة بصورة أقوى مما كانت عليه من قبل، وستعتبر أن الوضع السيئ الذي عرفته البلاد في السنوات الماضية شهدت أسوأ منه في “عام قيس سعيد”.

وإذا كانت فرص نجاح الرئيس التونسي أكبر من فشله إلا أن كثير من الرؤساء أهدروا فرص نجاح تاريخية، حين أهدروا أوراق القوة التي يمتلكونها، ونتمنى ألا يكون الرئيس سعيد واحد من هؤلاء.