عرف التاريخ الإنساني المعاصر مدارس فكرية وسياسية مختلفة وأحيانا متصارعة، وتباينت طرق حل خلافتها من حقبة إلى أخرى، فمن المواجهة بالعنف أو بالثورة الشعبية أو المسلحة حاربت تنظيمات وجماعات متعددة المشارب السلطات القائمة منذ القرن الـ18، ونجحت أن تصل للسلطة في تجربتين كبرتين، هما: الثورة الشيوعية في روسيا والصين، وعاد العالم بعد الحرب العالمية الثانية واستقرت معظم نظمه في اتجاه بناء الديمقراطية ودولة القانون، حتى شمل في نهايات القرن الماضي كل أوروبا بشرقها وغربها، ودول أمريكا الجنوبية وكثير من بلدان أفريقيا وآسيا.

وظل الانقسام مستمرًا بين اليمين واليسار، وبين الأحزاب الاشتراكية والشيوعية من ناحية، والأحزاب اليمينية والليبرالية من ناحية أخرى، وفي داخل كل معسكر ظهرت تنويعات مختلفة؛ ففي اليسار كانت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية إلى جانب التيارات الاجتماعية الديمقراطية، وفي داخل اليمين ظهرت الأحزاب اليمينية المحافظة والتيار الليبرالي الاجتماعي.

وكانت الفوارق شديدة الوضوح بين برامج الأحزاب الاشتراكية اليسارية والأحزاب الرأسمالية اليمينية، وأي قراءة لأهم تجربة تداول سلطة حدثت في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عقب وصول تحالف اليسار الذي ضم أساسا الاشتراكيين والشيوعيين إلى السلطة في فرنسا عام 1981 بزعامة الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، واتضح فيها عمق التناقض بين “البرنامج الموحد” لتحالف اليسار وأحزاب اليمين، فقد تم تأميم كثير من الشركات الكبرى واتخذت سياسيات مختلفة في مجال التعليم والصحة والمهاجرين مقارنة بما كان عليه طوال حكم الرؤساء السابقين الذين أنتموا لأحزاب يمين الوسط.

ومع ظهور مشاكل البيئة منذ منتصف القرن الماضي وتعمقها في نهاياته، عرف العالم وخاصة في أوروبا أحزاب الخضر التي واجهت كل أشكال التلوث البيئي المرتبطة بكثير من الصناعات الرأسمالية الكبرى، وفرضت على العالم أجندة حوار سياسي واجتماعي جديدة تتجاوز الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يميز بين برامج أحزاب اليمين واليسار.

أما في عالمنا العربي، فقد عُرفت منذ منتصف القرن الماضي تيارات فكرية وسياسية متنوعة، منها التيار القومي والماركسي يسارا، والتيار الليبرالي والإسلامي يمينا، ولم يصل فصيل من هؤلاء للسلطة إلا ودخل في مواجهة عنيفة مع الفصائل الأخرى كانت حدودها القصوى في تجارب البعث في العراق وسوريا والحكم الشيوعي في اليمن الجنوبي في سبعينيات القرن الماضي.

وقد تغيرت صورة الانقسامات السياسية في العالم بظهور قضايا وملفات جديدة تجاوزت ثنائية اليمين واليسار والاشتراكية والرأسمالية التي ظلت حاضرة، ولكن فاقتها في الأهمية والاستقطاب قضايا المهاجرين ومفهوم السيادة الوطنية والعولمة، والجدل حول إمكانات التوفيق بينهما.

وفي العالم العربي، ظهرت تيارات جديدة من الصعب فهم جوانبها المختلفة على ضوء فقط التحليل الطبقي: هذا ينتمي للطبقة البرجوازية وهذا إلى الطبقة العاملة، أو هذا إسلامي وهذا علماني، إنما دخلت أيضا مفاهيم جديدة أكثر تعقيدا تتعلق بالتفاعل مع الخبرة التاريخية للوطن وعلاقته بالعالم الخارجي، وقيم العولمة وحقوق الإنسان في مقابل الخصوصية ومفاهيم السيادة الوطنية. وهو نقاش عالمي موجود في معظم دول العالم خاصة إذا اكتشفنا أن بلد مثل فرنسا انتقل تصويت قطاع كبير من الطبقة العاملة من الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى اليمين المتطرف رفضا للعولمة وسئما من المهاجرين الأجانب الذين تصوروا أنهم ينافسوهم في أرزاقهم.

والواضح أن تبلور المدارس السياسية الجديدة في مصر اتضح أكثر عقب ثورة يناير، وأصبح الإيمان بالديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان عابر للطبقات وعابر للتقسيمات الأيديولوجية القديمة، وفي نفس الوقت، فإن رفض الديمقراطية أو اعتبار أن لنا خصوصيتنا التي يجب أن تنتج ديمقراطيتنا الخاصة وليس الديمقراطية الغربية، أو أن الأولوية هي محاربة الإرهاب وتحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية ومواجهة الأمية وأزمة الوعي. وهي كلها تصورات باتت عابرة للأحزاب والتيارات السياسية، ولا يمكن القول مثلا إن كل اليساريين مع التيار الأول وكل اليمينين مع الثاني، إنما وجدنا ليبراليين ويساريين موزعين بين كلا الفريقين.

لقد تابع الكثيرون آراء ليبراليين ضد حرية السوق وفي مواجهة العولمة ودافعوا عن مفهوم منعزل للسيادة الوطنية، وبات من الصعب القول إن نفس الإطار المعرفي الذي كان يحلل الانقسامات السياسية في بلد مثل مصر لا يزال صالحا إلى الآن، وأصبحنا أمام ثلاث نماذج جديدة: أولها يمكن وصفه “المحلي المحافظ” وقد يكون قوميا أو إسلاميا أو يساريا أو ليبراليا. وهو الذي يرفض المنظومة العالمية بكل ما لها وما عليها، ويؤمن أن مصر ستبني نفسها وتتقدم كلما بنت تنمية مستقلة بعيدة عن الاستثمارات الأجنبية ويرفض عالمية مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويؤكد على الخصوصية المصرية أو العربية  أو الإسلامية في بناء نموذجها السياسي الخاص بها سواء كان هذا النموذج تحت مسمي الوطنية أو الإسلامية  أو القومية.

أما النموذج الثاني المناقض فهو نموذج المثقف أو الناشط أو السياسي العالمي أو “المتعولم”، وأمامنا كثير من النماذج السياسية التي عرفتها مصر عقب ثورة يناير ممن ينتمون لهذا التيار، فهو يعتبر نفسه مواطن عالمي إنساني أكثر من كونه مواطن مصري أو عربي وإن إيمانه بالقيم العالمية في الثقافة والاقتصاد والديمقراطية وحقوق الإنسان جعله في كثير من الأحيان لا يرى الواقع المحلي، وفي أحيان أخرى يمارس استعلاء عليه لأنه في الحقيقة ابن المشروع الكوني لقيم الحداثة الغربية ومنظومتها السياسية والثقافية والاجتماعية.

أما النموذج الثالث فهو نموذج “الوطني الحداثي” الذي يرتبط بالواقع المحلي والوطنية المصرية والعروبة ويؤمن بالقيم الإيجابية في التراث العربي الإسلامي ويفخر بها، وفي نفس الوقت يؤمن بالقيم الإنسانية العامة في العدالة والديمقراطية والمساواة مع القناعة باختلاف التطبيق والسياق الاجتماعي والسياسي لكل دولة، بشرط ألا يسقط في فخ خطاب الخصوصية المنفصلة عن العالم، أو نوع من الوطنية التي تكره الدنيا، وتعتبر أن تعذيب الناس وانتهاك حقوقهم جزءا من السيادة الوطنية.

يقينا التيارات الثلاثة حاضرة بقوة في المشهد السياسي أو على الأقل انتعشت في سنوات “فائض السياسة” عقب يناير، وسواء تراجعت السياسة أو حضرت، فإن المدارس الفكرية الثلاثة حاضرة في قلب المشهد ولا يمكن تفسير أبعادها المختلفة من خلال نموذج تحليلي قديم (يسار ويمين وغيرها).

إن المستقبل سيصعنه نموذج “الوطني الحادثي” وهو بالمناسبة مع اختلاف الزمن وأدوات التحليل كان هو نموذج حزب الوفد قبل ثورة يوليو ونموذج عبد الناصر بعدها، وكلاهما كانا أبرز مشاريع نهضة مصر في القرن العشرين.