الجزء المعنون “قبل الأبد بقليل” من رواية “إفلات الأصابع” أشبه بتحية أو تمرين. هكذا يمكن أن يتصور قارئ “خبير” قد قرأ من قبل أحد أعمال فرانس كافكا (1883- 1926)، أو يتصور آخر قرأ (أو حتى سمع) عنها، فيردد كل واحد منهما: “هذه أجواء كفكاوية”، أو: “محمد خير (الروائي) يُجري تمرينا كفكاويا، أو يرسل تحية لصاحب: المسخ، المحاكمة، القلعة، وغيرها”.

الآن، قارئ الكلمات السابقة الذي لم تقع عينيه من قبل على اسم “كافكا” قد يجد نفسه محتاجا لبعض الإيضاح، وقد يسلك نفس الطريق الذي وصل به إلى هنا، فيستعين بصديقنا “جوجل” وقد تكفيه هذه الكلمات: “كافكا: كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، (وهو) رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة (و) تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية. عادة ما تتضمّن قصصه أبطالاً غريبي الأطوار يجدونَ أنفسهم وسطَ مأزِق ما في مشهدٍ سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النفسية التي يتناولها في أعمالِه مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة. وقد ظهر في الأدب مصطلح الكافكاوية رمزاً إلى الكتابة الحداثية الممتلئة بالسوداوية والعبثية”.

الذي دفع القارئ “الخبير” إلى المقاربة “الكافكاوية” سمات عدة في هذا الجزء، وهناك آخرى قد يجد معها قارئ آخر مقاربة آخرى.

النصب التذكاري لفرانز كافكا، للفنان التشيكي ياروسلاف رونا، من البرونز، بارتفاع 375 سم، وضع في  أحد ميادين العاصمة التشيكية، براغ، عام 2003. المصدر: ويكيبيديا
النصب التذكاري لفرانز كافكا، للفنان التشيكي ياروسلاف رونا، من البرونز، بارتفاع 375 سم، وضع في  أحد ميادين العاصمة التشيكية، براغ، عام 2003. المصدر: ويكيبيديا

**************

نحن (القراء: الذين يقرأون هذه الكلمات، الآن، والمفترضون؛ الذين سبق إرادهم واللاحقون، وأنا؛ ككاتب لهذه الكلمات)  بمواجهة شخصين: موظف (في جهة حكومية ما) يقدمه الراوي بهذه الكلمات: “بمضي الأيام صار يحيى متأكدا أنهم، في إدارتهم الهادئة الفخمة، لا يفعلون شيئا على الإطلاق”، وعازف كمان موهوب (حسام يسري) كان يعاني من مشكلة في بطاقة هويته. وموضوعنا هو: الوقت والبيروقراطية؛ وهما موضوعان “كافكاويان”، بامتياز.

وهكذا أصدر المدير أوامره: “دورك يا يحيى أن تلوي الطريق المستقيم ليدور حول نفسه ويدوم أطول،…، مهمتك أن تستمر إلى الأبد، فإن عجزت، فإلى ما قبل الأبد بقليل”. كانت الملفات تدور وتدور وتعود وتذهب وتجيء في دائرة. ذاك أن تقريرا سريا ذكر أن “ثمة فائضًا في الوقت لدى مجمل السكان سبّبه الكساد الاقتصادي وارتفاع تكلفة الترفيه بما فيه حتى الجلوس على المقهى، فائضًا يساوي بالمتوسط نحو ساعتين في اليوم من ساعات اليقظة، ساعتين لا يقضيهما المواطن في العمل ولا المواصلات ولا الفرجة على الكرة ولا ممارسة الجنس ولا الأكل ولا الشرب، تزيد الساعتان أو تقلان حسب المواطن وظروفه وعمره وطبقته لكنهما تبقيان هما المتوسط العام”.

ثم يقدم الراوي حسبة “التقرير السري”، الذي ضرب عدد البالغين من السكان في أيام الفراغ طوال السنة، فكانت المحصلة مليارين و160 مليون يوم فارغ في السنة. وبحسبة تقريبية، يمكن القول أن ذلك التقرير السري قد صدر في 2004، أو في السنة التي تليها.

إذا، في يوم من أيام (2004- 2005) “اهتزت (كما يخبرنا الراوي) ركب المسؤولين لمجرد تصورهم ما يمكن أن تفعله أو تُستخدم فيه هذه الكمية الهائلة من الأيام من قبل الجهات المحرضة والمعادية أو العناصر الإثارية، وفي سرعة وسرية تم إنتاج عشرات التقارير لسد تلك الثغرة الزمنية”. وبدأت حرب الوقت “تم زراعة وتجنيد العديد من العناصر في الإدارات (البيروقراطية)، لتنفيذ التعليمات المطلوبة من أجل إشغال- بالأحرى هدر- اكبر قدر ممكن من وقت المواطنين، لسد هذا الثقب الزمني الأسود والتصدي المبكر لما أو من قد يأتي من داخله. ويقدم الراوي أمثلة “واقعية” تصب في النهاية في تقليل وقت الفراغ”.

حرب الوقت؛ التي كان يحيى (الموظف) نفسه (كما عرف فيما بعد) أحد جنودها، وكان حسام يسري (عازف الكمان الماهر) أحد ضحاياها، انتجت؛ كما في كل حرب، ضدها، فنشأت مقاومة عبر شبكة عنكبوتية امتدت دون إدارة مركزية.

بغبطة شديدة يصيح القارئ “الخبير”: أجواء كافكاوية، والله كافكاوية، والله العظيم..

*****************

أما صاحب “هناك آخرى” فإنه إذ “يستمتع” بما مضى من “قبل الأبد بقليل”، فإنه قد يتمحور حول هذه الفقرة منها: “وبطبيعة الحال سرعان ما انتبهت الأجهزة لمقاومي حرب الوقت “نشطاء الوقت” كما سمّوهم، من مصممي تطبيقات الوقت وواضعي أفكارها، كان يتم اصطيادهم واستجوابهم أحيانا، وفي أحيان آخرى كان يتم استهداف “أثرياء الوقت”، وتفريغ أرصدتهم، عن طريق احتجازهم في شبه غيبوبة لأيام أو حتى أسابيع، ثم رميهم على هذه الطريق أو تلك. أحدهم، وعلى سبيل منح الأمر لمحة سخرية ورعب، تم اختطافه يوم عرسه، وتصفية رصيده الزمني بتنويمه أيامًا، ثم إلقاؤه في قرية رحل جميع سكانها، لدرجة أنه حين استيقظ تصور أن العالم قد انتهى”، ويصيح (صاحب هناك آخرى/ المتمحور): “كافكاوية؟، أبدا، هذا واقعي جدا، إنها حيل روائية مفضوحة”.

ودفاعا عن رؤيته، وفي مواجهة تفنيدها المعتمد على أن المقصود بأحدهم هو صاحب “كنت فين يا علي”؛ الذي عرفنا طرفا من قصته، ولم نعرف وقتها ما، ومَنْ، وراء الحادث الغرائبي الذي وقع له، قد يقول: “هذا غير ذاك، هذه حرب، وبالتالي ضحاياها كثر”، ثم قد يبالغ في موقفه “الواقعي” فيقول: “لماذا نذهب بعيدا، الأستاذ عبد الحليم قنديل، يكفينا كدليل على الواقعية، وها هي بضعة عناوين فقط: عبد الحليم قنديل: سوزان مبارك دبرت حادثة خلع ملابسى …(2011)، عبد الحليم قنديل يروي قصة اختطافه من شارع الهرم (2013)، عبد الحليم قنديل: خطفت في عهد مبارك وتركت عاريًا في.. (2016)، هذه كانت حرب وانتهت، فواقعة الأستاذ عبد الحليم كانت في سنة 2004، يعني في المعركة الأولى من حرب الوقت، حرب انتهت، انتهت، ونحن في زمن آخر، يكتب محمد خير “نشطاء الوقت”، أما أنا فأمحو “الوقت” وأضع مكانه “فيسبوك، وغيره من الخزعبلات”، هذه حرب وانتهت، الدولة صححت الخطأ، عبد الحليم نفسه يصدح الآن، مبشرا بجهود الدولة المصرية في إعادة المخطوفين، ليس في مصر، فلا مخطوف واحد في مصر (المقصود الدولة لا تخطف أحدا)، الدولة ترعى مواطنيها، وتعيد مصريين مخطوفين في نيجيريا.

الكاتب عبد الحليم قنديل، 2017، المصدر: ويكيبيديا
الكاتب عبد الحليم قنديل، 2017، المصدر: ويكيبيديا

***********

وربما يكون هناك قارئ ثالث (وهناك آخرون، بالطبع) قد استمع إلى ما استنتجه كل مِنْ: “الخبير- الكافكاوي” و”الواقعي- التوثيقي” ورجع إلى ملاحظاته التي سجلها رجوعا إلى كل من هشام شرابي وماكس فيبر وكارل ماركس، فواجه الاثنين: دعكما من كافكا وقنديل وكنت فين يا علي، فأصدقائي الثلاثة يشيرون إلى أن الوجهة الصحيحة للاستمتاع بـ “قبل الأبد بقيل” هي الانطلاق من أن “الحداثة ظاهرة تتميز بأوروبيتها- وهذه حقيقة ترتب عنها عواقب وجودية مدمرة للعالم غير الأوروبي”، فمنشأ “الدولة” في حياتنا (كمصريين، وكعرب، وكمسلمين، وكأفراد في هذه البقعة من العالم) كان مشوها، وربما كارثيا؛ فيبر اعتبر “الحداثة محصلة حتمية للرأسمالية.. العقلانية كانت القوة المسيطرة التي لا تتحكم فحسب بانتاج الحياة البرجوازية بل بكل نواحي تلك الحياة أيضا.. وعليه، فإن البيروقراطية و”عقلنتها كل الوظائف والعلاقات” هي العملية التي كانت تخضع العالم بأسره “لردّه إلى الصواب والرشد”، وقد افتقر فيبر إلى تفاؤل ماركس؛ ففي حين رأى ماركس أن أزمات المجتمع البرجوازي تؤدي حتما إلى تنام ثوري، اعتبر فيبر أن قوة البيروقراطية المتعاظمة تسيطر على مصائر البشر والمجتمع وتأسرهم في “قفص حديدي” لا فلات منه- وهذه رؤية رسخها في زماننا الحاضر فلاسفة شككوا في واقع المجتمع الصناعي المتقدم و”حقيقته” كما في الكتابات اللاحقة للبنيوية عند فوكو ودريدا ودليوز وغيرهم.

نسختنا المشوهة للدولة تضمنت أسوأ ما في التنظيم الرأسمالي لدورها، ثم نزعت منه أية أدوات لتصحيحه ونقده، والثورة عليه.

يقول هذا ويصمت.

************

استدعى “قبل الأبد بقليل” حشدا من العوالم الروائية، والاحصاءات، والأفكار، والوقائع، والتحليلات المتباينة، بشدة، ويستدعي الجزء التالي: “المحبة هي الموت أو كيف عرفت أنني لم أغرم بإيرين” حشدا آخر، تتقدمه: “عصفور من الشرق” (1938) للمصري توفيق الحكيم، “الحي اللاتيني” (1953) للبناني سهيل إدريس، “موسم الهجرة إلى الشمال” (1966) للسوداني الطيب صالح. روايات ثلاث نظرت إلى العلاقة بين جنوب وشمال المتوسط (باريس) وشمال المناش (لندن)، أو إلى ما هو أشمل: العلاقة بين الشرق والغرب، أو كيف رأى هؤلاء الرواد الثلاثة شخصياتهم في مرايا الغرب، أو الغرب في مرايا شخصياتهم (الروائية).

يخبرنا سيف بما قاله له بحر عن علاقته بـ “إيرين”: “أحببتُ الحياة كثيرا في أثناء علاقتي بـ إيرين، وتوقفت لأول مرة منذ زمن عن التفكير المزمن في الموت”. ومن ذلك نستنتج أن “المحبة..” يستدعي ذلك الحشد، ثم تتمايز عنه، أولا، لأن مسرح الروايات الثلاث كان أوروربا الغربية، ومسرحه بلد في أوروبا الشرقية، وثانيا، وهذا هام للغاية، لأن العلاقة (الشخصية، ومن ثم العامة) في الروايات الثلاثة؛ كما تصورها مؤلفوها، كانت “عقيمة”، بالمعنى الواقعي، وليس المجازي، فبحر، إذ تزوج، في “غربته/ تغربه/ فراره” بفتاة (إيرين) كانت مغتربة مرتين: مرة لأنها من أحد بلدان أوروبا (الشرقية)، حيث جرت حرب عرقية، تعيش في بلد آخر (أوروبا الشرقية، أيضا)، والثانية لأنها (بحسب توصيف بعض مَنْ يحيطون بهما) تساكن شخصا “ملونا”، أنجب ولدا، وبذلك يكون قد صادف (حقق) نجاحا، تفوق به على “محسن” (عصفور..)، وعلى “محمود سعيد” (موسم..)، وعلى الشخصية الرئيسية في (الحي..)؛ التي تجنب إدريس تسميتها (ربما للتعميم، أو للتغطية)، لكنه (بحر) يصادف مصيرا أبشع من الثلاثة: “فقدت إيرين وآدم، حبيبة وابن في لحظة واحدة”.

يتمايز، أيضا، “المحبة..” تمايزا دالا، ففي حين يمكن وصف الشخصيات الثلاث بأنها “مثقفة”، تسعى للمعرفة والتقدم، والنهل من “معارف” الغرب، فإن “بحر” كان يعمل نقاشا.

وأخيرا، يقطع، بحر” بكونه “فار” من ما يسميه “مرحاض العالم”، ما يضعه في موقف مختلف للشخصيات الثلاثة في “عصفور.. موسم.. الحي..”، فقد كانت تمتلك “حلم” تضعه في “خدمة” أوطان تعتز بها، وتقدر واقعها، في حين كان “بحر” مطلق اليأس، لكن حدث ما جعله يراجع موقفه.

يعتبر بعض مؤرخي الفن هذا العمل معلمًا رئيسيًا في فن القرن العشرين، وقد أثار عاصفة من النقاش: هل هي نافورة أم مبولة؟ وكان الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (1887- 1968) قد جهزها للعرض في معرض فني يقام في نيويورك، نظمته جمعية الفنانين المستقلين، وبعد الكثير من الجدل تم رفضها، وكان التعقيب: “قد تكون شيئا مفيدا جدا في مكانها، لكن مكانها ليس معرضًا فنيًا”

***********

لا مجازفة في القول أن “بحر” حدثت له هذه “المراجعة” في لحظة ما بين مطلع 2011 وصيف 2013.

نحن، بلا شك، في الربع الثالث من السنة الأخيرة، وبحر ينقل لسيف ما حدث له في “موسمه” الأوروبي، فسيف (الراوي في هذا الجزء)، يخبرنا بذلك: “وقفنا في “الميدان الجديد”، (حيث) أسلاك شائكة وعربات مدرعة يستريح فوقها عساكر شاردون”. نجزم (سبق تفصيل لمن تعود الـ “ن”) بأن ذلك جرى بعد صيف 2013 بقليل، لأن الراوي (سيف) يضيف: “لم نقترب منهم ولم تشجعنا الممرات الصامتة وراءهم على الاقتراب”، ولأننا، لابد، نتذكر أن الممرات والميدان والشوارع (بحسب ما عرفنا مما سبق من “إفلات الأصابع“) كانت “سكرانة”، وكان العساكر منهمكين.

**********

في الروايات الثلاث مشتركات كثيرة، وبينها اختلافات أكثر، وهي مجتمعة تحمل “وجهات نظر” مغايرة، كثيرا لما قد نتوصل إليه من التفكير في “المحبة..”، ففي “موسم..” نقرأ: “نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه”، بلاغة “شعرية” ترسخ “حاجزا متخيلا” بين (نا) وبين الغرب، “المحبة..” يزيل، إلى حد ما ذلك الحاجز، وإن تضمن “بلاغة” و”حيلا” أخرى: “اسمه آدم. هكذا اخترت الاسم مع إيرين لفظًا يسهل على كلينا نطقه”، جلى، إذا، “الدليل” فهو يكمن في المسافة/ المعنى التي يحيل إليها كل من محمود وبحر، ذاك “يرجع” إلى الجد، وهذا “يذهب” إلى الابن.

******

يقول بحر: “كم هي شر مطلق تلك الحياة. هذه المرة لعبتها الحياة بذكاء. كان الموت وراء الزجاج يتأمل صيده الجديد، لكنه انتظر حتى صرنا ثلاثة (بحر، إيرين، آدم)”. هكذا يتمايز، بالمطلق، “المحبة..” عن الروايات الثلاث، ففيه يعرض، بحر، لموقف وجودي من الحياة، لا مكان فيه لحاجز تفرضه الاختلافات “الاقتصادية، التاريخية، الثقافية”؛ فالإنسان “مطلقا” مقذوفا “بطبيعته” إلى وجود ملغز، قاس، مفترس.

وهكذا يلخص، بحر، “موسمه” الأوروبي: “جرت السنتين الأوليين على خير ما يرام، الاتباط والحمل والانجاب،…، جاءت الضربة من فتى لم يتجاوز المراهقة كان يضايق إيرين في الطريق،…، بمزيج من الغزل والتحرش والعنصرية،..، كان ينعتها بـ كلبة الأسود، وقررت أن أنهي المسألة،..، كان الفتى ذاته.. وكانت معه فتاة في مثل سنه وكانا يدخنان شيئًا ما…فكرت أن أبتعد، ولكن الفتى رآني، وناداني بصوت مخدر: هيييه! يا أسود،…، كانت نيتي..أن ألقنه درسًا، أن أضربه بقوة أستمدها من بكاء إيرين لكن من ذا الذي يعرف ما سيحدث بعد دقيقة واحدة من لحظته الحاضر؟”.

يلقي، بحر، على سيف هذا السؤال “الوجودي”، ثم يصف العراك: “كل منا يمسك بخناق الآخر، ثم وجدت أيدي صاحبته تحيط عنقي من الخلف وتضغط، كان يخنقانني معا،….”.

ويثبّت، بحر، سرده، عند هذه “الذروة” ليقول: “قرأت مرة، أن أكثر من 90% من سجناء “عنابر النفس”، أولئك المدانين في جرائم القتل، تكون تلك هي جريمتهم الأولى والأخيرة، معظمهم أناس عاديون جدا لمستهم لحظة من خارج العالم فجعلتهم وسيلة لانتزاع الأرواح، ثم انسحبت منهم اللحظة فعادوا عاديين مندهشين، يتطلعون إلى جثث ضحاياهم منذهلين محاولين إعادتها إلى الحياة، كأن هذا ممكن لأنهم لم يموتوا إلا من ثوان قليلة”.

ثم يواصل، بحر، “تثبّت سرده عند ذروتها” ليقول: “وفي تلك اللحظة عند البحيرة، بين خنقي له وخنقهما لي، تذكرت:”.

في الصفحتين التاليتتين، يتذكر، بحر، واقعة، يعرف أكثر مَنْ مر “بحبس السياسة” أنها “واقعية”، يحدث مثلها كثيرا، ليس بتفاصيلها، بل بمقاصدها، وبما تؤرثه لضحاياها.

أما عن “تفاصيلها” فمهم منها ذكر ما قاله بحر: “في إحدى ليالي استجوابي، يوم قبضوا عليّ في المظاهرة، طلب مني الضابط طلبا غريبا،…، قال لي الضابط: اقتل ذاك. نظرت، وإذا بالذي يطلبون منى قتله، فأر صغير كان حبيس مصيدة”. في حين تكمن المقاصد في هذا: “نظر إليّ الضابط وضحك قائلا: مش عارفة تموّتيه يا بيضا؟”.

*********

قد يصادف “المحبة..” قارئا “خبيرا” بالفلسفة والمسرح الإغريقيين، كما صادف “قبل..” قارئًا “خبيرا” بكافكا، فيقترح: كان بعض فلاسفة اليونان يقولون: “تلهو الآلهة بالإنسان، كما يلهو الأطفال بالذباب”، لكن أرسطو، وهو يدرس “الترجيديا” كي يكتب “فن الشعر” أراد “عقلنة” مصير البطل التراجيدي، فهو إذ يسلم أن “الأقدار” تقدرها “الآلهة”، و”ترسم” من خلالها مصير البطل التراجيدي، يؤكد أنها لا تفعل ذلك إلا لأن البطل التراجيدي قد وقع في “خطأ تراجيدي”، ولو إنه لم يفعل فلن يواجه ذلك المصير، بالتالي لن يصبح بطلا لموضوعا مسرحيا، ولأن أرسطو اعتمد في درسه على مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس، وعّد “أوديب” المثال الأعلى للبطل التراجيدي، فقد وجد أن خطأ أوديب “التراجيدي” كان “التجبر”، وربما كانت كلمات بحر صدى لهذا إذ يخبر بحر سيفا منظوره لـ “هشاشة الوجود الإنساني، إنه بالنظر إلى تلك الهشاشة فإن الغرور هو أشد مشاعرنا غرابة”، ويقر بالخطأ؛ وإن كان في صيغة سؤال: “إذا كانت الحياة قد عاقبتني على توقفي الطويل في هذا المكان، وهدمت ما أنشأت، فعلام كانت تعاقب الفتى؟ ليس على وقاحته فلا شأن لها بذلك، من يدري ربما عاقبته على جلوسه اليومي المستقر في المكان ذاته”.

وهذا ختام فاصل في تمايز “المحبة..” عن الروايات الثلاث، فهنا لا خطوط فاصلة كما في “موسم..” وكما عبرت عنها جملة محمود سعيد: “يا للسخرية.. الإنسان لمجرد أنه خُلِق عند خط الاستواء، بعضُ المجانين يعتبرونه عبدا وبعضُهم يعتبره إلها. أين الاعتدال!؟ أين الاستواء؟!”، هنا القاتل والمقتول “ضحية” لهو، محض لهو وإن كان “معقلن وموضوعي” كما اقترح أرسطو.