في 2022 تمر مائة وعشرون عاماً بالتمام والكمال على وفاة عبد الرحمن الكواكبي المفكر السوري الشهير، وأحد رواد عصر النهضة العربية، 120 عاماً، مروا بعدما قال الكواكبي كلمته وأطلق توصيفه للواقع العربي، وكشف أصل الداء في كل ما نعيشه من “مصائب”، وكل ما تعانيه المجتمعات العربية من أزمات: الاستبداد السياسي الذي تطوَّر إلى الاحتكار الكامل للسياسة!
كرَّس الكواكبي حياته لتأكيد فكرة واحدة: لا تقدم إذا استمر الاستبداد، ولا أمل في غدٍ لا تبنيه وتحيط به حرية الإنسان وحقه في التفكير والكتابة والنقد ومساءلة الشعوب للحكومات.
ستندهش من عدم إدراك شعوب هذه المنطقة الموبوءة من العالم أن احتكار السياسة واقتصار ممارستها على الحكام ورجالهم هو ما أوصلنا إلى التخلف عن العالم
بنظرة سريعة على كتاب الكواكبي الأشهر: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” ستكتشف أنّ ما كتبه المفكر الشهير منذ عشرات السنين ما زال صالحاً لهذا الزمان، وستتعجب من قدرة الاستبداد السياسي في التحكم بالشعوب وخنق أنفاسها لمدة تزيد على المائة عام دون علاج، وستندهش من عدم إدراك شعوب هذه المنطقة الموبوءة من العالم أن احتكار السياسة واقتصار ممارستها على الحكام ورجالهم هو ما أوصلنا إلى التخلف عن العالم، هذا العالم الذي قرر منذ مئات السنين أن يبني حضارته على العلم والعقل والتنوع والحرية والجدل السياسي الذي يجدد شرايين المجتمعات، ويمنح الأمل لهؤلاء الذين أوشكوا على أن يفقدوا الأمل والحلم معاً.
يقول الكواكبي، الذي فارقنا منذ 120 عاماً، في كتابه العظيم “طبائع الاستبداد”: “الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها”.
هكذا يرى أنه لا أمل في سلطة تحتكر السياسة ولا تسمح للناس بحقهم الأصيل في رقابتها، وهو كما يرى لا يمكن أن تخرج سلطة عن الرقابة والمحاسبة دون وصفها بالاستبداد، فالأصل أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والأصل أن الحكومات تخضع للسلطة الأعلى، أي سلطة الشعوب في المساءلة والمحاسبة واتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بهذه الحكومة!
ثم يواصل وصفه لنفسية “المستبد” وخوفه من العلم والعقل قائلاً: “ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب وكيف النوال”.
الأوصاف التي كتبها الكواكبي منذ أكثر من مائة عام يمكن أن نترجمها ونلمحها اليوم في كتابات كل من يدافع عن حرية النشر والصحافة والإعلام والبحث العلمي والفن والسينما في أوطاننا
جمل شارحة تنطق بحصار قاسٍ يمارسه الاستبداد على العقل والعلم والقراءة والاطلاع، ووصف جامع وواضح وشجاع يتهم الاستبداد بأسر العقول واحتكار المعرفة والخوف من العلم والفهم والتدبر بالحقوق، هذه الأوصاف التي كتبها الكواكبي منذ أكثر من مائة عام يمكن أن نترجمها ونلمحها اليوم في كتابات كل من يدافع عن حرية النشر والصحافة والإعلام والبحث العلمي والفن والسينما في أوطاننا، وكل من يطالب بمساحات أكثر للعقل والمدنية والاستنارة في مواجهة كل الأفكار الرجعية والأحادية والمتطرفة والاستبدادية.
ولكن كما يسعى الاستبداد لتضييق الخناق على الحق في الفهم، وكما يحاول حصار السياسة؛ فإنه يكون في صدام دائم مع العلم ذاته، ومع العلماء وحقهم في “تنوير العقول”، يقول الكواكبي: “بين الاستبداد والعلم حرب دائمةً، يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام، ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلو”!
هكذا ومنذ أكثر من مائة عام، كان الاستبداد لا يسمح للعلم أن يسود ولا للعلماء أن يعملوا بحرية، فالاستبداد يدرك جيدا، حسب الكواكبي، أن العلم ينير العقول، وأن الناس “إذا علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا”، ارتباط عظيم وعبقري بين الفهم والوعي وبين رفض الناس للاستبداد، كشفٌ رائع لهذا الارتباط الشرطي بين “حصار العلم” “واستمرار الاستبداد”؛ بما يعني أن النتيجة الحتمية لغياب الوعي هو بقاء الاستبداد مرتاحاً مزدهراً “يمد قدميه”!
منذ أكثر من مائة عام، كان الاستبداد لا يسمح للعلم أن يسود ولا للعلماء أن يعملوا بحرية، فالاستبداد يدرك جيدا، حسب الكواكبي، أن العلم ينير العقول، وأن الناس “إذا علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا”
120 عامًا منذ رحيل صاحب “الطبائع” وما زال الاستبداد يمرح ويسيطر ويستحوذ ويتسلط على أوطاننا من أقصاها إلى أقصاها، 120 عامًا يقول الكواكبي: “ألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، والحمية حماقة والشهامة شراسة وحرية القول وقاحة وحرية الفكر كفراً وحب الوطن جنوناً”.
هكذا قال صاحب طبائع الاستبداد الذي مات قبل 120 عامًا، وهو يحذر الناس من بقاء الاستبداد، ويا للمفارقة فقد مات الكواكبي، حسب العديد من المصادر، مسموماً من أولئك الذين رأوا فيما يكتب وفيما يقول خطراً عليهم، فدفع عدو الاستبداد حياته ثمناً وهو يحاول أن ينقذنا من هذا الاستبداد، حتى لا ندفع جميعاً حياتنا وأعمارنا وتقدم أوطاننا ثمناً لبقائه!
اقرأ أيضًا|