أتذكر أنه في مونديال ألمانيا لكرة القدم عام 2006 وأثناء مباراة غانا والتشيك فاجأ المدافع الغاني جون بنتسيل الجميع أثناء احتفال فريقه بإحراز هدف في مرمى الخصم بأن رفع علم إسرائيل وراح يطوف به أرجاء الملعب. ربما يكون ذلك تصرفاً عفوياً إذا ما رفع اللاعب علم بلده. لكن ما هي دلالة رفع العلم الإسرائيلي في هذه الحالة؟. صحيح أن اللاعب كان محترفا في ذلك الوقت في أحد الأندية الإسرائيلية، وأنه تعود أثناء لعبه في إسرائيل على رفع علم بلاده جنباً إلى جنب مع العلم الإسرائيلي. وبعد أن تأملت مليا في هذا الحدث وعلى الرغم من اعتذار اتحاد كرة الكرة الغاني بحسبان أن هذه الحالة فردية، فإنه يمكن النظر إليها في سياقها الموضوعي والتاريخي. ألم ترتفع نجمة داود في سماء أكرا حتى قبل حصول غانا على استقلالها؟

ترجع الاتصالات الإسرائيلية بغانا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال حيث كان يُطلق عليها اسم “ساحل الذهب” عام 1954 وذلك من خلال توطيد علاقة الدبلوماسيون الإسرائيليين بزعيم الحركة الوطنية كوامي نكروما. كان واضحاً أن هدف إسرائيل هو محاصرة النفوذ المصري في أفريقيا. ففي نوفمبر 1955 حصلت إسرائيل على موافقة السلطات الاستعمارية البريطانية على وجود تمثيل دبلوماسي إسرائيلي في غانا. وسرعان ما تحولت هذه البعثة الإسرائيلية إلى سفارة بعد حصول غانا على استقلالها عام 1957 حيث أصبح ايهود أفريل أول سفير إسرائيلي يقدم أوراق اعتماده في دولة أفريقية وذلك في أكتوبر عام 1957. ومن الطريف أن نكروما الذي كان يطمح في القيام بدور قيادي في حركة الوحدة الأفريقية وتزوج بعد ذلك من السيدة فتحية رزق المصرية كان قلقاً من علاقته مع إسرائيل وما يمكن أن تسببه له من حرج في إطار ارتباطاته بالقيادة المصرية. ولا أدل على ذلك من أنه همس في أذن السفير الإسرائيلي أفريل أثناء تقديم أوراق اعتماده في أكرا ليسأله النصح والمشورة من أجل تبرير علاقته مع إسرائيل إذا سأله جمال عبد الناصر عن ذلك! فهل يبدو ذلك تناقضا في سياق حركة الوحدة الأفريقية وقضية التحرر من الاستعمار؟ وكيف يمكن تبرير ذلك بالنسبة للقضية الفلسطينية بحسبانها قضية تحرر وطني؟

 الصهيونية السوداء

بمراجعة أدبيات حركة التحرر الأفريقي نجد أن عدداً من مثقفي ورواد هذه الحركة قد رأى في الصهيونية والقومية اليهودية نموذجاً يُحتذى من أجل نهضة وتحرر الشعوب السوداء في أفريقيا. وعادة ما تمت المقارنة بين سعي اليهود من أجل إقامة وطن قومي لهم والبحث عن جذورهم التاريخية بطموح الأفارقة الذين تقطعت بهم السبل في الولايات المتحدة ومنطقة الكاريبي وأملهم في العودة إلى أفريقيا وتحريرها من نير الاستعمار، بل الأكثر من ذلك، فقد دعا بعض رواد حركة الوحدة الأفريقية الأوائل إلى تبني مفهوم “الصهيونية السوداء”. ولعل من أبرز هؤلاء الرواد ادوارد بلايدن، ووليم ديبوا، وماركوس جارفي، وفرانس فانون.

ولا يخفى أن كثيراً من الآباء المؤسسين لحركة التحرر الوطني في أفريقيا بعد ذلك أمثال جومو كينياتا في كينيا وهوفييه بوانيه في كوت ديفوار، وكوامي نكروما في غانا قد تأثروا تأثراً بالغاً بهذه الأفكار حول معاناة الشعب اليهودي، ومن ثم أظهروا تعاطفاً واضحاً تجاه دولة إسرائيل.

وفي أعقاب خيبة أمل إسرائيل بعد فشلها في حضور مؤتمر باندونج عام 1955 قررت وزارة الخارجية الإسرائيلية تكثيف حركتها في أفريقيا حتى قبل استقلال دولها وذلك من أجل مراقبة الأوضاع هناك والتعرف على قادة المستقبل في هذه الدول. فتم إيفاد يهودا بن ديفيد إلى السنغال وكلاً من نحميا أرغوف ويروحام كوهين إلى نيجيريا وياكوف دورى وآشر نعيم إلى كينيا. ويلاحظ أن السلطات البريطانية والفرنسية الاستعمارية قد راقبت أنشطة هؤلاء المبعوثين الإسرائيليين عن كثب. وتعطي مهمة رافائيل روبين مثالاً نموذجياً للتحرك الدبلوماسي الإسرائيلي في أفريقيا في سنوات ما قبل الاستقلال. فقد أرسل روبين إلى تنجانيقا قبل استقلالها وعندما انخرط في أنشطة سياسية من بينها مقابلة القادة السياسيين مثل جوليوس نيريري أمره الحاكم البريطاني بمغادرة المستعمرة. وبعد مفاوضات طويلة مع وزارة الخارجية البريطانية تمكن رافائيل روبين من البقاء والاستمرار في عمله. وحينما حصلت تنجانيقا على استقلالها وأصبح جوليوس نيرري أول رئيس لها تم تعيين روبين كأول سفير إسرائيلي لديها. وبالفعل في الستينيات، كان لدى إسرائيل علاقات دبلوماسية مع ما يقرب من نحو 33 دولة أفريقية، وزادت أنشطة مساعداتها التنموية في جميع أنحاء القارة وجلست كمراقب في منظمة الوحدة الأفريقية، التي سبقت الاتحاد الأفريقي. بعد ذلك تم تهميشها من القارة لأكثر من عقدين من الزمن، على أن التوقيع على اتفاقيات أوسلو في عام 1993 أدى إلى قيام إسرائيل باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع غالبية دول القارة ولو بخطوات بطيئة.

نتنياهو وإعادة فتح أفريقيا

في ظل قيادة بنيامين نتنياهو، تمت صياغة استراتيجية العودة إلى أفريقيا وذلك بعد تطبيع العلاقات مع العديد من الدول، ومواصلة تل أبيب تطوير تعاونها الأمني والاقتصادي مع الدول الأفريقية. كما تأمل إسرائيل تأكيد حصولها على وضع المراقب في الاتحاد الأفريقي. في عام 2016، أصبح نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إفريقيا بعد نحو ثلاثة عقود، حيث قام بجولة شملت أوغندا وإثيوبيا وكينيا ورواندا.  وفي عام 2017، حضر نتنياهو اجتماع رؤساء دول الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) في ليبيريا. وخلال هذا الاجتماع وقّع المسؤولون الإسرائيليون مذكرة تفاهم لاستثمار مليار دولار بحلول عام 2021 لتعزيز مشاريع الطاقة والتنمية الاقتصادية في الدول الأعضاء الخمسة عشر في الايكواس. وعلى الرغم من القطيعة الدبلوماسية التي أعلنتها بعض الدول الأفريقية بعد حرب أكتوبر 1973 ، فإن الاتصالات من وراء ستار لم تنقطع يوما واحدا مع أفريقيا. في نوفمبر 2017 سافر نتنياهو إلى نيروبي لحضور حفل تنصيب الرئيس الكيني أوهورو كينياتا. ونتيجة لهذه الجولة، فُتحت أربع سفارات أفريقية جديدة في إسرائيل. وفي سبتمبر 2018، قرر نتنياهو والرئيس الرواندي بول كإجامي ‏بدء الرحلات الجوية المباشرة بين تل أبيب وكيغالي وفتح بعثات دبلوماسية في كلا البلدين.‏ في يناير2019، حدث تحول دراماتيكي في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية حيث أقامت اسرائيل علاقات مع تشاد في أعقاب زيارة نتنياهو للعاصمة نجامينا.

لم يدخر نتنياهو أي جهد لرؤية بلاده تستعيد على الأقل نفوذها في أفريقيا خلال فترة ما قبل حرب أكتوبر عام 1973حينما حظيت الدولة اليهودية بقدر معين من التعاطف من الدول الأفريقية المستقلة حديثًا وفقا لمبدأ الصهيونية السوداء الذي ذكرناه آنفا. استؤنف التعاون الأمني أولاً ثم الاقتصادي، في أعقاب المعرفة التكنولوجية التي قدمتها الشركات والمنظمات غير الحكومية الإسرائيلية. وبعد أن ركزت تل أبيب على التعامل الرسمي مع القارة، تم تحقيق بعض النتائج الجيدة في رصيدها الدبلوماسي، مثل علاقاتها مع غينيا و رواندا وتشاد، والأهم من ذلك، دول إسلامية مثل السودان والمغرب. تقيم إسرائيل اليوم علاقات دبلوماسية مع حوالي أربعين دولة أفريقية، بما في ذلك 37 دولة جنوب الصحراء. ومع ذلك لا تزال جنوب أفريقيا تشكل معضلة أمام السياسة الأفريقية لإسرائيل نتيجة محورية القضية الفلسطينية، حتى وإن ظلت جنوب أفريقيا الشريك الاقتصادي الرئيسي لإسرائيل في القارة.

ماذا تريد إسرائيل من أفريقيا؟

لا يبدو أن وصول نفتالي بينيت إلى رئاسة الوزارة يؤثر سلبا على التوجه الإسرائيلي صوب أفريقيا. على العكس من ذلك، يستفيد رئيس الحكومة الجديد بالفعل من نجاحات سلفه، كما هو الحال في المغرب، حيث تم توقيع اتفاق إطاري للتعاون الأمني – الوحيد من نوعه في أفريقيا – في 24 نوفمبر 2021. وعلى المستوى المؤسسي يأتي على رأس وزارة الخارجية يائير لبيد الذي يسعى إلى استخدام الميزانية التي أقرها الكنيست لتطوير سياسته الخارجية ولاسيما تجاه أفريقيا. ويبدو أن رهانات الدولة اليهودية بعيدا عن الانتهازية السياسية والاقتصادية ظلت كما هي منذ دافيد بن غوريون: ضمان منفذ استراتيجي رئيسي على البحر الأحمر والحصول على دعم الدول الأفريقية في المحافل والمنتديات الدولية الكبرى.  كما أن تغلغل إيران في أفريقيا والحرب ضد الإرهاب في القارة قد أسهم، منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في زيادة التوجه الإسرائيلي نحو أفريقيا. يقول بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء السابق، “تمنحك القوة الأمنية والقوة الاقتصادية قوة دبلوماسية”. أي أنه بالإضافة إلى الضرورات الأمنية والسياسية، هناك منافع اقتصادية للقطاع الخاص الإسرائيلي الذي وجد طريقه سريعًا إلى القارة. ولعل ذلك يلخص الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة في أفريقيا.

 أين حدث التغيير: إسرائيل أم أفريقيا؟

لقد أضحت العديد من الدول الأفريقية نتيجة تغير الظروف الإقليمية والدولية على استعداد للقيام بنوع من المقايضة السياسية “البراغماتية” للحصول على المكاسب. ربما يتحقق ذلك، من خلال التصويت على قبول انضمام إسرائيل إلى الاتحاد الأفريقي، حيث تتوقع بعض الحكومات الأفريقية عائدًا على استثماراتها السياسية، وهو عائد ستحصل عليه من واشنطن، وليس من تل أبيب. وللأسف الشديد، مع نمو تطبيع أفريقيا مع إسرائيل، أصبحت فلسطين على نحو متزايد قضية هامشية على جداول أعمال العديد من الحكومات الأفريقية، التي تبنت بشكل متزايد سياسة واقعية – أو ببساطة البقاء في المنطقة الدافئة بجوار واشنطن- ضاربة عرض الحائط الميراث الطويل لشعوبهم من أجل التحرر من الاستعمار.

ومع ذلك، كانت هناك قوة دافعة أخرى وراء قرار إسرائيل “بالعودة” إلى أفريقيا، أكثر من مجرد الانتهازية السياسية والاستغلال الاقتصادي. لقد أوضحت الأحداث المتتالية أن واشنطن تتراجع عن الشرق الأوسط وأن المنطقة لم تعد أولوية قصوى للدبلوماسية الأمريكية ولاسيما في عهد بايدن باستثناء قضية المفاعل النووي الايراني.  الانسحاب الأمريكي من العراق وليبيا وعدم الالتزام في سوريا، كلها مؤشرات تشير إلى حقيقة لا مفر منها وهي أن إسرائيل لم يعد بإمكانها الاعتماد على الدعم الأمريكي الأعمى وغير المشروط وحده. وهكذا بدأ البحث المستمر عن حلفاء جدد. لأول مرة منذ عقود، بدأت إسرائيل في مواجهة عزلتها المطولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. قد يحمي حق النقض الذي تمارسه أمريكا في مجلس الأمن الدولي إسرائيل من المساءلة عن احتلالها العسكري وجرائم الحرب. لكن حق النقض الأمريكي لم يكن كافياً لإعطاء إسرائيل الشرعية التي طالما كانت تطمح في الحصول عليها. وعليه تحاول إسرائيل خوض ما يمكن تسميته بحرب الشرعية من خلال نقل ساحتها إلى أفريقيا وأجزاء أخرى من جنوب الكرة الأرضية. حاولت الرواية الإسرائيلية التوكيد على مفاهيم الصهيونية السوداء مرة أخرى لجلب التعاطف الأفريقي. في خطابه أمام قمة الايكواس في مونروفيا قال نتنياهو مخاطبا القادة الأفارقة “لدينا، من نواح كثيرة، تاريخ متشابه. شعوبكم كانت ترزح تحت الحكم الأجنبي. لقد شهدت حروبا ومذابح مروعة. هذا هو تاريخنا إلى حد كبير.” بهذه الكلمات، حاول نتنياهو ، ليس فقط إخفاء النوايا الإسرائيلية الحقيقية ، ولكن أيضًا سلب الفلسطينيين من تاريخهم وشرعية نضالهم كما فعل من قبل الزعماء المؤسسون للدولة اليهودية.

ومع ذلك لاتزال القضية الفلسطينية ذات بعد مركزي في الوجدان الأفريقي العام. كان نتنياهو الفاتح العظيم لأفريقيا يأمل  في تتويج إنجازاته السياسية والاقتصادية بعقد القمة الإسرائيلية الأفريقية، وهو الحدث الذي كان من المفترض أن يرحب بإسرائيل رسميًا ، ليس في تحالف إقليمي أفريقي محدد ، ولكن في أفريقيا بأكملها. كان من المقرر إقامته في لومي ، عاصمة توغو ، في الفترة من 23 إلى 27 أكتوبر  2017، ومع ذلك قرر منظمو القمة التأجيل إلى أجل غير مسمى نتيجة الضغط المكثف وراء الكواليس للعديد من الدول الأفريقية والعربية ، بما في ذلك جنوب أفريقيا والجزائر  . ومن جهة أخرى يوجد نحو 21 دولة أفريقية بينها جنوب أفريقيا والجزائر وزيمبابوي تعترض على منح إسرائيل صفة المراقب في الاتحاد الأفريقي. وعليه سوف تستمر المعركة من أجل أفريقيا بين إسرائيل وفلسطين قائمة لسنوات قادمة. وليكن معلوما أن إسرائيل تقدم نفسها للأفارقة باعتبارها المنقذ الأمين من خلال منح الامتيازات وتقديم التقنيات العلمية والتكنولوجية الجديدة للتعامل مع مشاكل حقيقية وملموسة. ونظرًا لكونها أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية والعلمية مقارنة بالعديد من البلدان الأفريقية، فإن إسرائيل قادرة على تقديم خدمات الأمن وتكنولوجيا المعلومات التي تحتاجها الدول الأفريقية. وهكذا تغيرت الأحوال في المعركة السياسية والأيديولوجية من أجل كسب أفريقيا.