لا تزال الإشكالية قائمة إزاء المهرجانات، ذلك اللون الفني الطاغي حاليًا، المثير لحفيظة من يعتبره فاسدًا للأذواق، ومضيّعًا لمسرَّات الموسيقى. بينما في المقابل يجد موضعًا في صدارة الأذواق الشبابية ومرآة لأوضاع هامشية، على جانبي الاهتمام العام. وهي المعادلة التي تنتهي نتيجتها بأن هذا الفن لا يبرح موضع الصدارة لدى آذان المصريين، حتى وإن واجه محاولات التحجيم.

لفهم فلسفة هذه الإشكالية، يجدر الإشارة إلى مقدمتين، الأولى ما يعنيها مفهومي الجمال والقبح، وهما ضمن المصطلحات النسبية. وكذلك ما هو مقبول وما هو مرفوض نسبي أيضًا، تحددها معايير مختلفة بطبيعتها هي الأخرى نسبية كطبيعة المكان والزمان. والتقاليد المختلفة والأديان المتبعة، بل حتى الفهم المتغير للدين الواحد في نقطة زمنية محددة ومكان موحد.

الإشارة الأخرى، هي لافتة “الفن مرآة المجتمع”، وتلك جملة جدلية إلى حد كبير. في الحقيقة أن الأمر فيه شيء من المنطق أن الفن يعكس صور المجتمع. من الطبيعي أن الفنان إنسان منخرط بالمجتمع ويعبر عنه، فإن كان الفنان محملا بمجتمعه، فإنه يفرغ شيئًا من حمله في فنه، سواء لوحة أو كلمة. وإن كان الفنان يود أن يهرب من واقعه فإنه يخلق وهما يعيش فيه بفنه. وإذا كان الفنان منفصلا عن مجتمعه فيخلق فنا بما في دواخله. وهكذا تختلف الصور الفنية باختلاف معايير تلقي الفنان لمجتمعه. وفي الوقت نفسه المجتمع يتأثر بلا شك بالفنون بمختلفها، لذلك العلاقة تبادلية. وتبقى مسألة جدلية وضع على إثرها دراسات مختلفة لأبعاد متعددة.

من المقدمتين السابقتين ننطلق للفرضية الثالثة، وهي المهرجانات كنوع من أنواع الغناء الذي مضى على وجوده في مصر أكثر من عقد. نلقي نظرة عن بداياته ونضعه على منضدة غناء المهمشين في محاولة مبسطة لفهمه ودراسته. كما نرى محطات تطوره من حيث الآلات والكلمات وطرق التعبير.

استحوذت المهرجانات على اهتمام الشباب
استحوذت المهرجانات على اهتمام الشباب

محطات في غناء المهرجانات

الثقافة الشعبية تربط بين ظهور المهرجانات وثورة يناير عام 2011. ربما لأنها نوع جديد ومختلف، يرتبط في الأذهان بالثورة التي كانت هي الأخرى أمر جديد ومختلف بشكل كبير. كما أن أبطال غناء المهرجانات شباب كما كان البطل في الثورة من الشباب. ورغم خطأ هذه المعلومة، فإن المهرجانات وجدت انتشارا أوسع بعد الثورة بسبب فتح المجال العام للحريات خاصة حرية التعبير في الإعلام بأنواعه.

من 2007 وحتى 2011

ظهرت المهرجانات في مصر عام 2007. على الأقل فإن أول مهرجان جرى تسجيله ونشره كان أواخر 2007 لمجموعة من الشباب من منطقة الدخيلة في الإسكندرية. وانتشر بكثافة هذا النوع من الغناء وقتها في الإسكندرية.

ثم ظهر في القاهرة في منطقة السلام عام 2010 بأول مهرجان جرى تسجيله وهو “المنتخب”. وكان يتبع نفس أسلوب مهرجان الإسكندرية. كلمات ضعيفة تحتوي معاني القوة الفردية وإيقاع مسجل بدون لحن واضح.

من 2011 وحتى 2015

في عام 2011، شارك الشباب بأغانٍ عن شعارات الثورة. كما تطورت كلمات أغانيهم في تلك الفترة لتتحدث عن الفقر والفساد والطبقية. تلك الكلمات ساعدت في انتشارها بحد كبير وأصبحت تحمل معاني أنضج مما كانت عليه قبل الثورة. وفي عام 2012 شارك مغني المهرجانات بغناء ـغنية باسم (أنا نفسي بس في ريس)، كجزء من حملة المرشح الرئاسي خالد علي. واستمرت أغاني المهرجانات تنتشر بفرق مختلفة باستخدام النمط نفسه تقريباً من الكلمات والإيقاع في تلك الفترة.

من 2015 وإلى الآن

منذ 2015 تقريباً يمكن رصد تغيير واضح في تكوين “المهرجان” بشكل كام، سواء في الألحان أو الكلمات وحتى شكل انتشاره. بدأ يميل نحو فن “الراب” بشكل أكبر مستخدماً معاني أكثر شعبوية في الوقت نفسه. وهنا بدأ يظهر تداول قضايا الجنس والمخدرات باللغة الشعبية الدارجة، وهو الأمر المعروف في غناء الراب بشكل عام. وأيضاً له أصول في الثقافة العربية في فن الهجاء الشعري.

وبالتدريج أصبحت أغاني مغني المهرجانات مثل “حمو بيكا- عمر كمال- حسن شاكوش- محمد رمضان…” في قوائم الأكثر استماعاً على كافة تطبيقات إذاعة الأغاني على شبكات الإنترنت مثلا في أول عام 2020. حققت 7 مهرجانات الأكثر استماعاً على عدة تطبيقات. ووصلت أغنية “بنت الجيران” لعدد مشاهدات 63 مليون على تطبيق يوتيوب.

فلسفة المهرجانات وتطورها

الكلام عن المسكوت عنه

ربما أبرز ما يميز كافة مراحل غناء المهرجانات، والتي ربما يجدر بنا الإشارة إلى أنها تنوعت بشكل كبير في الوقت الأخير واتخذت ألوانًا مختلفة من الموسيقى، يوجد نوع “موسيقى التراب”. وهي خلط بين الراب والمهرجانات مثل ما يقدمه “مروان بابلو وويجز”، بالإضافة إلى مزج بين فن الغناء الشعبي التقليدي والأداء الخاص بمغنيي المهرجانات مثل الدويتو بين “عبدالباسط حموده وعمر كمال”. ويظل الكلام عن المسكوت عنه وتحدي كافة القوالب المجتمعية القديمة وتكسيرها أبرز ما يميز هذا النوع من الغناء. سواء في الكلمات وتناولها لمواضيع مسكوت عنها وموجودة بالفعل مثل انتشار للمخدرات والجريمة أو استخدام إيحاءات جنسية وكلمات وألفاظ خارجة. وأيضاً في الصورة من فيديوهات يظهر بها الرقص والإيحاءات الجنسية والقمار والخمر وغيرها من الأمور الموجودة بالفعل في المجتمع بطبقاته المختلفة. هذا النوع من التعبير الغاضب والمتحدي واضح في أغلب قوالب هذا النوع من الغناء الذي ظهر في البداية من مجموعات يمكن وصفها بالمهمشين. وانتشر مع الوقت حتى كاد لا يخلو احتفال أو مكان للسهر من أغانيهم.

سواء كانت لهدف الربح أو تعبيرًا عن أحوال الشباب فإن المهرجانات انتصرت في النهاية
سواء كانت لهدف الربح أو تعبيرًا عن أحوال الشباب فإن المهرجانات انتصرت في النهاية

أنا موجود” … “لا يوجد غيري

بين صرخة “أنا موجود” إلى صرخة “لا يوجد غيري” مسافة طويلة بشكل غالب يسير إليها المهمشين حينما يحصلوا على الانتباه. فإن كل من هو يعاني داخل مجتمع من التهميش. حينما يحصل على انتباه ويشبع حاجته إلى الوجود يتحول في الغالب مع الوقت لنوع من التحدي والعناد مع من رفضوا وجوده في الأصل. ويتحول القالب التعبيري له إلى محاولة للتعويض عن شعوره بالرفض.

أموال سريعة وشهرة سهلة

في العامين المنصرمين، ثمة نوع قليل من أغاني المهرجانات ظهر منحرفا بشكل كبير عن كونها وسيلة للتعبير. ويهتم بشكل أساسي بتحقيق الثراء والشهرة، وكلاهما في عصر الرقمنة مرتبط ببعض بشكل أساسي. كما أن المهرجانات كأي وسيلة تعبير أخرى تأثرت بالنظام السياسي بشكل عام والوضع الاقتصادي بشكل خاص، ففرغت محتواها من أي معاني قد تعرقل وجودها أو تسبب أية مشاكل مع أي فئة وبحثت عن التواجد لتحقيق مكاسب مادية.

لذلك، عكس مهرجان شيماء الذي لا يحتوي على أية كلمات أو لحن أو إيقاع أو حتى إثارة لشهوات، وكمحتوى ترفيهي أو كوميدي فهو ضعيف البنيان والمجهود. إلا أنه لاقى ترويج إعلامي كبير له حتى حصل على 30 مليون مشاهدة على موقع اليوتيوب. هذه الشهرة السهلة كانت مصحوبة بلا شك بثراء أيضاً سهل.

– المهرجانات ضجة تستحق كل تلك الضجة؟

– إيقاع سريع يحث على الرقص وصوت عالي يقتل دوشة الرأس

– لا أسمع الكلمات لكني أرقص عليها بلا شك

– مللت من أغاني الحب والغزل، كلمات المهرجانات أقرب للحقيقة التي أحياها

– يشبهونني. كما أني أشعر أن هناك أمل أن أكون موجود

اللون الذي انتصر

ما سبق يعتبر مختصر آراء عشرات الشباب عن غناء المهرجانات ولماذا يستمعون إليه. ربما وضحنا بشكل مختصر أبرز محطات هذا النوع من الغناء وكيف ظهر وتطوره النسبي. بين فلسفة القوة الفردية وبروز الحاجة للمادة بشكل سهل وتسطيح الثقافة العامة. وبين الخلاف والاختلاف على ما هو قبيح، وما هو جميل وما هو مرفوض وما هو مقبول، كلها خلافات واختلافات نسبية، إلا أنه على أية حال الأنواع المختلفة من وسائل التعبير التي تظهر تحت بند فن الغناء أو التمثيل أو غيره في فنون التصوير. كلها يمكن اعتبارها ظاهرة ودراستها والتأويل حولها والإعجاب بها أو النفور منها. لكن يبقى الأساس أن الغناء جزء أصيل من حرية التعبير بمفهومها الصحيح حتى وإن تضمنت كلمات مغايرة لثقافة ما عند فئة غالبة سواء دينية أو اجتماعية. لذلك تبقى القاعدة التي يدافع أصحاب إتاحة المسرح للجميع، أن من حقهم أن يغنوا ومن حق غيرهم ألا يسمع، ذلك أن هذا النوع من الغناء انتصر مجتمعيا، وأصبح منعه غير مقبول.