ظهرت أسس علم المناخ الحديث في القرن التاسع عشر، وتطورت تطورا كبيرا خلال القرنين الماضيين، وربما لا يعرف الكثيرون أن امرأة أمريكية اكتشفت الاحتباس الحراري بالتجربة العملية عام 1856م، سقط اسمها من التاريخ لأكثر من قرن ونصف القرن، ونسب فضل الاكتشاف إلى العالم الأيرلندي جون تيندال الذي يعتبره الكثيرون الأب المؤسس لعلم المناخ الحديث.
في البداية ينبغي الاتفاق على أن علوم المناخ تقوم على أسس علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات، وأن الابتكارات الحديثة في هذه المجالات، مثل اختراع الترمومتر وجهاز قياس الضغط “البارومتر”، وفرت الفرصة لإجراء التجارب، وقدمت الديناميكا الحرارية والميكانيكا الاحصائية الأسس النظرية والطرق الدقيقة للحسابات. وكانت البداية عام 1824 مع عالم الفيزياء والرياضيات الفرنسي جان باتيست جوزيف فورييه (1768- 1830)، الذي جاء إلى مصر مع الحملة الفرنسية وعاش فيها لسنوات.
في ضوء المعلومات المتاحة عن كمية الإشعاع الشمسي والمسافة بين الأرض والشمس، قام فورييه بحساب درجة حرارة الأرض، وكانت النتيجة التي توصل إليها هي، أن درجة حرارة الأرض الفعلية أكبر من تلك المحسوبة من المعادلات، أي أن الأرض أدفأ في الواقع، ولتفسير ذلك، افترض أن الغلاف الجوي للأرض يتصرف كغلاف حاجز، أو بطانية، تمتص الحرارة وتحبسها، ما يجعل الأرض أسخن في الواقع مما هي عليه في المعادلات. لم يدرس فورييه تركيب الغلاف الجوي وخواصه، وكان على آخرين أن يكملوا المهمة، وهنا يظهر اسم السيدة الأمريكية المناضلة التي قامت بالخطوة الأولى نحو فهم الاحتباس الحراري وتغير المناخ.
وُلدت يونيس نيوتن في جوشون بولاية كونتيكت الأمريكية في 1819، والدها إسحق كان قريبا لعالم الفيزياء البريطاني الأشهر إسحاق نيوتن، ولها عشرة من الأخوة والأخوات، والتحقت بمدرسة معهد “تروي” للبنات، التي أصبحت مدرسة “إيما ويلارد”- الداعية والمناصرة لحقوق البنات في التعليم ودراسة العلوم.
قاست يونيس تأثير حرارة الشمس على الغازات المختلفة، الهيدروجين والأكسيجين وثاني أكسيد الكربون، مقارنة بالهواء، ووجدت أن جميع الغازات زادت درجة حرارتها بعد تعرضها لأشعة الشمس.
في عمر 22 تزوجت من أليشع فوت، كان محاميا ومخترعا، وعمل لفترة مفوضا عاما لمكتب براءات الاختراع، ثم أصبح قاضيا لفترة قبل أن يتقاعد ويرحل في 1883. عاش الزوجان في “سينيكا فولز” بولاية نيويورك، وأنجبت ابنتين، هما ماري و أوجستا. كانت الأسرة صديقة للسيدة “إليزابيث كادي ستانتون” رائدة الحركة النسوية المطالبة بحقوق النساء، وشاركت في الإعداد للمؤتمر الأول لحركة حقوق النساء، والذي انعقد في المدينة في يولو 1848. وقعت يونيس، وزوجها أليشع، على الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر باسم “إعلان المشاعر”، والتي تطالب بحقوق النساء في التصويت وبإلغاء عقوبة الإعدام.
في هذا الوقت، كان العلم مجالا يهيمن عليه الذكور، وكان عدد الكليات التي تسمح للبنات بالدراسة في الجامعة قليلا جدا، لكن المدرسة كانت تؤهل الطالبات لحضور محاضرات مسائية في الكيمياء والأحياء والفيزياء في كلية قريبة للذكور. لم تحصل يونيس على تعليم جامعي رسمي، لكن تجاربها توضح أنها لا بد وأن تكون قد تلقت تعليما جيدا نسبيا خاصة في العلوم، كانت رسامة ماهرة، وعلى إطلاع دائم على الأدبيات العلمية المتاحة، لكنها كانت أقرب إلى الهواية منها إلى احتراف العلم.
في منتصف القرن التاسع عشر كان المجتمع العلمي مشغولا بدراسة نظريات الحرارة والديناميكا الحرارية وكيفية تسخين الشمس للأرض، ونشرت مجلة العلوم الأمريكية تقريرا يبحث في لماذا تكون قمم الجبال أبرد من الوديان، على الرغم من أنها أقرب إلى الشمس، كان البعض يعتقدون أن السبب هو اختلاف كثافة الهواء، وآخرين كانوا يفسرون الأمر باختلاف زاوية سقوط أشعة الشمس، ولحسم هذا النقاش، صممت يونيس تجربة بسيطة: وضعت موازين حرارة متطابقة، في أسطوانات زجاجية متطابقة، طول كل منها 30 بوصة وقطرها 4 بوصات، وباستخدام مضخة هوائية، تستنفد الهواء من واحدة، وتضيفة للأخرى، للوصول إلى نفس درجات الحرارة، ثم عرضت الأسطوانات لأشعة الشمس، وبدأت تسجيل درجات الحرارة كل دقيقتين إلى ثلاث دقائق.
على الرغم من بساطة الأدوات المستخدمة، كانت التجربة منضبطة. ويقول جوزيف أورتيز، عالم المناخ الذي راجع أبحاث فوت “ما أدهشني حقًا هو دقة وأناقة تصميمها للتجربة، لا سيما محاولتها تقليل الأخطاء التجريبية باستخدام مجموعات التحكم الضابطة، كررت يونيس التجربة مرتين، إحداهما في الشمس، والثانية في الظل، وأعادتها مرة باستخدام الهواء الجاف، ومرة باستخدام الهواء الرطب، وذلك عن طريق إضافة الماء إلى واحدة، وتجفيف الثانية باستخدام كلوريد الكالسيوم”.
قاست يونيس تأثير حرارة الشمس على الغازات المختلفة، الهيدروجين والأكسيجين وثاني أكسيد الكربون، مقارنة بالهواء، ووجدت أن جميع الغازات زادت درجة حرارتها بعد تعرضها لأشعة الشمس، ولاحظت أن التأثير الحراري يزداد بزيادة كثافة الهواء، وأن الهواء الرطب أكثر حرارة من الهواء الجاف، ومن بين الغازات التي تم اختبارها، وجدت أن التأثير الأعلى لأشعة الشمس يكون أكبر في حالة غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي احتفظ بدرجة حرارته المرتفعة، لفترة أطول من الغازات الأخرى. وكتب عرضا للتجربة والنتائج التي توصلت إليها، وقدمتها إلى الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم.
قدمت في صفحتين الأدلة التجريبية على احترار الغلاف الجوي للأرض، والذي نسميه الاحتباس الحراري، وتلخص الفقرة قبل الأخيرة من ورقتها استنتاجها الرائد: أن زيادة تركيز هذا الغاز في الغلاف الجوي من شأنه أن يزيد من درجة حرارة الأرض.. وأنه إذا سلمنا بفرضية أن في فترات سابقة من التاريخ كانت نسبة هذا الغاز أكبر مما هي عليه في الوقت الحاضر.. فإن الزيادة في درجة الحرارة لابد وأن تكون قد نتجت عن هذا الغاز، وكذلك، عن زيادة الوزن”.
وفي صباح يوم 23 أغسطس 1856، اجتمع المئات من العلماء والمخترعين والفضوليين في ألباني-بنيويورك لحضور الاجتماع السنوي الثامن للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم. كانت هذه الاجتماعات ملتقى لعرض البحوث والتجارب والاكتشافات، ومناقشة التطورات الجديدة في المجالات المختلفة. لكن اللقاء الذي حضره أكبر عدد من المشاركين، لم يقدم أوراقا أو اكتشافات هامة، باستثناء واحد فقط، هو ورقة يونيس فوت بعنوان: “الظروف المؤثرة في حرارة أشعة الشمس”.
على الرغم من أن لائحة الجمعية لا تميز صراحة ضد النساء، ولا تمنع حضورهن المؤتمرات، إلا أن قلة منهن فقط أصبحن عضوات في القرن التاسع عشر، وحتى هؤلاء، نادرًا ما سمح لهن بعرض أعمالهن، وكان الكثير من العلماء يعتنقون أفكارا ووجهات نظر متحيزة ضد النساء، فلم يسمح لها أن تقدم ورقتها، وجلست بين الحضور من العلماء المعروفين والمسئولين في الولاية، لتستمع إلى عرض للورقة قدمه جوزيف هنري، عالم الفيزياء البارز، وصديق العائلة، ومؤسس ومدير مؤسسة سميثسونيان، الذي استهل حديثه بكلمات قال فيها إن العلم ليس حكرا على بلد أو جنس بعينه، وقدم عرضا سريعا للورقة.
ربما يكون هنري قد قدمها حتى يأخذها الجمهور على محمل الجد، لكن المؤسف أنه لم يقدر أهمية العمل، ولا الآثار التي ترتبت عليه في فهم المناخ، وعلى الرغم من كونه عالما بارزا ، لم يكن أي من أبحاثه في هذا المجال، وقد يفسر هذا جزئيًا سبب عدم قيامه بالترويج له في أي مكان، وما زاد الطين بلة أن تقديم هنري للورقة، لم ينشر في الوقائع السنوية الرسمية للجمعية، كما أدلى هنري لصحيفة “نيويورك ديلي تريبيون” بتصريح قال فيه إنه على الرغم من أن “التجارب كانت قيمة وممتعة” لكن هناك صعوبات كثيرة في تفسير النتائج” الي توصلت إليها.
نشرت الورقة في المجلة الأمريكية للعلوم والفنون، ونشرت المجلة الكندية للصناعة والعلوم والفنون تغطية صحفية للعرض الذي قدمه هنري، ونشرت في كتب ديفيد ويلز السنوي للاكتشافات العلمية. وفي عدد سبتمبر 1856 نشرت مجلة العلوم الأمريكية تقريرا تحت عنوان “السيدات العالمات” ضمن تغطية شاملة للتجارب على الغازات التي تسعى إلى فهم المناخ، وأشادت المجلة بالورقة وقالت إن “تجارب السيدة فوت تقدم أدلة كافية على قدرة المرأة على دراسة أي موضوع بأصالة ودقة” وقالت إنه يسعدها أن من قام بهذا العمل “سيدة”.
كما ظهرت في أوربا ملخصات موجزة للورقة، الأول نشر باللغة الإنجليزية في مجلة “أدنبرا” الفلسفية الجديدة، لكنه نسب الورقة إلى زوجها إليشع فوت، والثاني نشر باللغة الألمانية في المجلة الألمانية “ياريس بريشت” (تقرير سنوي)، لكن كلا الملخصين يتجاهلان استنتاجاتها المباشرة حول الغلاف الجوي والمناخ.
كان العلم مجالا يهيمن عليه الذكور، وكان عدد الكليات التي تسمح للبنات بالدراسة في الجامعة قليلا جدا، لكن المدرسة كانت تؤهل الطالبات لحضور محاضرات مسائية في الكيمياء والأحياء والفيزياء في كلية قريبة للذكور.
وصلت كلمات فوت إلى المسرح العلمي الدولي، لكن لم يكن هناك من يستمع، وبدا أن الأهمية الحقيقية لاكتشافها، قد مرت على الجميع دون أن يلاحظها أحد، وسواء أكان ذلك بسبب خطأ في تقدير هنري، أو بسبب التمييز ضد النساء، أو بسبب التمييز الأوربي ضد العلماء في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، فقد سقط اسم يونيس فوت من تاريخ علم المناخ.
في العام التالي، 1857، كتبت يونيس ورقة ثانية حول الإثارة الكهربائية في الغازات، عرضت فيها تجربة لقياس الكهرباء الساكنة- الاستاتيكية-في الظروف المختلفة، بعدها يبدو أنها تخلت عن سعيها وراء العلم، لكنها واصلت العمل في مجال حقوق المرأة، وحصلت على ثلاث براءات اختراع، في عام 1860 حصلت على براءة اختراع لحشو الأحذية بالمطاط لمنع صدور الصرير، وماتت يونيس عن عمر 69 عاما في ظروف غير معلومة يوم 30 سبتمبر عام 1888.
الآن نعرف أن تأثير الاحتباس الحراري سببه امتصاص الغلاف الجوي للأرض للأشعة تحت الحمراء، وليس الضوء المرئي. لم توضح يونيس في ورقتها ما إذا كانت الغازات التي استخدمتها، قد تم تسخينها مباشرة بواسطة أشعة الشمس، أو بطريقة غير مباشرة من خلال تسخين الزجاج الذي يشع بدوره الأشعة تحت الحمراء داخل الاسطوانة، ولم تقدم تفسيرا لآلية امتصاص الغازات للحرارة، ولم تقم بقياس الضغط، الذي يمكن أن يؤثر بدوره على درجة حرارة الغازات. إلا أن هذه الملاحظات، لا تطعن في حقيقة أنها أول من اكتشف خاصية امتصاص الحرارة للغازات، وعلاقتها المباشرة بالمناخ.
هناك تاريخ طويل في عدم تقدير عمل النساء وتجاهل أدوارهن عموما وفي تاريخ العلوم خصوصا، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وهنا أشير إلى كتاب “رائدات العلوم صفحات من تاريخ مجهول” الصادر عن دار ميريت للنشر 2017، وهو حافل بقصص المنسيات من النساء العالمات، ويكفي أن نتذكر أسماء مثل روزاليند فرانكلين في اكتشاف الحمض النووي، وليز ميتنر في اكتشاف ظاهرة الانشطار النووي، وجوسلين بورنل في اكتشاف النجوم النابضة…إلخ. إن سقوط اسم يونيس فوت ليس إلا فصلا صغيرا في سردية طويلة للتمييز ضد النساء وحرمانهن من حقوقهن في التصويت والتعليم والاشتغال بالعلم، لذلك، ليس من الغريب أنها كانت تناضل من أجل أن تستمع الحكومة إلى أصوات النساء، بينما كان المجتمع العلمي يتجاهل صوتها.
ينسب اكتشاف الاحتباس الحراري إلى عالم الفيزياء الإيرلندي “جون تيندال”، ويعتبره كثير من المؤرخين الأب المؤسس لعلم المناخ الحديث، لكنهم يختلفون حول ما إذا كان قد قرأ ورقة فوت، أم لا. في عام 2011 عثر عالم الجيولوجيا الكندي ريموند سورونسون على نسخة من عرض هنري لورقة فوت التي تسبق إعلان تيندال نتائج تجاربه بثلاث سنوات على الأقل. فهل سرق “أبو علم المناخ” اكتشاف يونيس، أم أن لعلم المناخ- أب وأم- كانا يعملان بشكل مستقل ومتزامن وتوصلا إلى نفس النتائج؟ وهل هناك آخرين عملوا على نفس الموضوع في نفس الوقت؟ هذا ما سنناقشه في مقال تال، وإلى أن نلتقي، يمكنكم مشاهدة فيلم قصير تم إنتاجه عام 2018 عن يونيس نيوتن فوت على الرابط التالي: