في فيلم “المساطيل”، كتب السيناريست الراحل وحيد حامد على لسان شخصية “عباس النص”، التي أداها ببراعة الفنان نجاح الموجي “أنت هتفضل تكتم في قلبك لحد ما تلاقي نفسك بتعيط عشان حد عمل لك الشاي من غير نعناع”. منذ عام 1991 وإلى الآن، يتداول المصريون الجملة التي صارت واحدة من أيقونات مواقع التواصل الاجتماعي. يراها الجميع تصلح لحالات فردية. لكن بعد ثلاثين عامًا صارت تُعبر عن وضع جماعي.

فقد شهد مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري -ماسبيرو- أزمة كبيرة أول أيام العام الجديد. حيث امتلأ الدور الأرضي بآلاف الإداريين، والذين تكدّسوا من أجل الوقوف أمام أجهزة البصمة الإلكترونية الجديدة في أول أيام عملها. لكن الشاشات الصغيرة لم تتحمل التقاط صور هذا العدد الضخم لتسجيل خروجهم فأصابتها الأعطال.

بدا جهاز البصمة وكأنه القشة التي قصمت ظهر البعير. تحوّل التكدس -بدون ترتيب مسبق- إلى وقفة احتجاجية ضخمة. طالب المساركون في هذه الوقفة بحقوق عدة، تجاهلها القائمون على الصرح الإعلامي الرسمي للبلاد طيلة عقد كامل. أبرزها لوائح الأجور والمكافآت التي تم تجميدها منذ 2011.

https://www.youtube.com/watch?v=qoFMGfzsF70

البحث عن حقوق أصحاب ماسبيرو

يبحث العاملون بالتلفزيون المصري -ماسبيرو- عن حقوق مهدرة منذ رحيل المهندس أسامة الشيخ، في أعقاب قيام ثورة يناير 2011. أعد قبلها الشيخ لائحة للعاملين والإداريين من أجل الزيادات السنوية والتضخم. لكن الأوضاع التي شهدتها البلاد حالت دون استمراره في منصبه. وبالتالي انتهى أمر تلك اللائحة إلى الأدراج.

كامل، أحد هؤلاء الذين يبحثون عن حقوقهم. يعمل مهندس بالتلفزيون، ويقبع في درجته الوظيفية -الثانية- منذ سبع سنوات زائدة عن المدة القانونية. يُشير إلى أن الوقفات الاحتجاجية التي بدأ العاملون في المبنى تنظيمها، جاءت “بعد أن فاض الكيل”. وهو يؤكد -في حديثه لـ “مصر 360”- أن الزيادات الوحيدة التي وصلت إلى العاملين كانت السنوية المقررة للعاملين بالدولة. وتتراوح قيمتها ما بين 60 وحتى 150 جنيه شهريًا.

ويُضيف -رافضًا الكشف عن هويته- أنه منذ عام 2017 لم يتم صرف الحوافز المتعلقة بالدرجات الإدارية. وهذه الدرجات تمثل فارقًا كبيرًا في الحوافز وغيرها. لكن الأمور هنا لا تسير على هذا النحو. “فمنذ 2017 لم أحصل على حقي في الدرجة الأولى”. حيث رفض المهندس حسين زين الترقيات أو تعديل الدرجات الوظيفية لعدم وجود ميزانية كافية للعاملين. وهو ما أكده في حوار عام 2020 مع الإعلامي وائل الإبراشي.

ويلفت “كامل” إلى أن رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أوقف كافة الحوافز التي أقرها الرئيس السيسي للعاملين بالدولة. “أصابنا الارتباك، ولم نعد نعرف أي علاوة تم صرفها وأيها تم حجبه. حسين زين خالف القرار الجمهوري، وصار التلفزيون الجهة الوحيدة بالدولة التي تمتنع عن صرف مستحقات عامليها”.

يُشير “كامل” أيضًا إلى أن ما أثير حول رفض العاملين “البصمة الإلكترونية” أمر غير صحيح. ويؤكد: رسميًا العمل 6 ساعات والبصمة تطلب ساعة أخرى. الإداريون يعملون من 9 صباحًا وحتى 3 عصرًا. المشكلة في التكدس وخروج آلاف البشر في نفس الوقت> وجميعهم مطالب بالوقوف أمام نفس الجهاز. بينما الأجهزة نفسها لم تتحمل، وأبواب المبنى في الدخول والخروج لم تعد مفتوحة كالماضي. وهذا يسبب حالة أخرى من التكدس.

مستحقات متأخرة

يؤمن العاملون بمبنى الهيئة الوطنية للإعلام أن حل الأزمة لن يأتي سوى بتدخل رئيس الجمهورية شخصيًا. لذلك، أرسل بعضهم استغاثة إلى رئاسة الجمهورية تحمل كافة بنود مستحقات العاملين بالهيئة الوطنية للإعلام، التي لم تسدد حتى بداية عام 2022. وتشمل المستحقات مكافآت نهاية الخدمة لمن تم إحالته إلى المعاش اعتبارًا من شهر نوفمبر 2018. ورصيد الإجازات العادية اعتبارًا من شهر فبراير 2018. ورصيد الإجازات الوجوبية ما ورد بأحكام قضائية اعتبارًا من 5 مارس 2020.

وشمل التظلم أيضًا علاوات تم إصدارها بموجب قرارات رئيس الجمهورية، وجرت إضافتها إلى الأجور، وتمت تعلية صرف متأخراتها إلى حساب الأمانات. بينما لم تصرف بعد. وهي 9 شهور غلاء في 2017، و11 شهرًا علاوة في 2018، و13 شهرًا غلاء في 2018. بالإضافة إلى 5 شهور علاوة في 2019. وتبلغ 10% لم تتم إضافتها للأساسي. وذلك بمعدل 12 ألف جنيه لكل فرد.

كذلك تضم المستحقات المتأخرة علاوات تم إصدارها بموجب قرارات رئيس الجمهورية. لكنها لم تنفذ ولم تُضف إلى أجور العاملين كمستحقات مالية. وتشمل 30 شهرًا حافزًا شهريًا 150 جنيهًا اعتبارًا من يوليو 2019. فضلاً عن 18 شهرًا علاوة 2020 اعتبارًا من 1/7/2020 بنسبة 12% من الأجر الأساسي بحد أدنى 75 جنيهًا شهريًا. و18 شهرًا قيمة حافز رئيس الجمهورية اعتبارًا من 1/7/2020 مبالغ مالية مقطوعة قرين كل درجة وظيفية. وتشمل 150جنيهًا شهريًا للدرجات المالية الرابعة فما دونها. بالإضافة إلى 200 جنيه شهريًا للدرجة الثالثة. وكذلك 250 جنيهًا شهريًا للدرجة المالية الثانية. وأيضًا 300 جنيه شهريًا للدرجة المالية الأولى، و325 جنيهًا لدرجة مدير عام/كبير، و350 جنيهًا شهريًا للدرجة العالية. هذا غير 375 جنيهًا شهريًا للدرجة الممتازة، أو ما يعادل كل منها. وذلك بمعدل 20 ألف جنيه لكل فرد.

وهناك مستحقات أخرى طبقًا لقوانين الحد الأدنى للأجور تم تجاهلها. منها حوافز بعض العاملين بقطاعات (الاقتصادي، التليفزيون، الإقليميات، الأخبار، المتخصصة). وكذلك بدل طبيعة العمل المتوقف منذ عام 2015. فضلاً عن بدل التميز المتوقف منذ عام 2015. وأيضًا مستحقات صندوق التكافل الاجتماعي للمحالين إلى المعاش منذ عام 2018 رغم خصم الاشتراكات منهم.

هناك مستحقات أخرى طبقا لقوانين الحد الأدنى للأجور تم تجاهلها منها حوافز بعض العاملين وبدل طبيعة العمل وبدل التميز ومستحقات صندوق التكافل

معدات متهالكة

في نهاية عام 2020 توترت العلاقة بين وزير المالية محمد معيط ورئيس الهيئة الوطنية للإعلام حسين زين. كان ذلك بسبب تأخر الوزير في قرار منح ماسبيرو زيادة في التمويل الشهري. ورفعه إلى نحو 260 مليون جنيه شهريًا، بدلًا من 220 مليون جنيه. وقتها، أشار مقربون من زين إلى أنه تحدث كثيرًا مع وزير المالية. ورغم اقتناع معيط بأن التليفزيون لديه احتياجات حتمية في مخصصات العاملين إلا أنه “تهرب من إقرار الزيادة”، على حد تعبيرهم.

آنذاك، أوضح البعض أن الخلاف أوصل كلًا منهما إلى تجنب مقابلة الآخر في أي التزام أو مناسبة تحتم تواجدهما. بعد أن اعتادت قيادات مبنى الإذاعة والتليفزيون توجيه خطابات لمجلس الوزراء لطلب الدعم المالي.

ورغم الوضع غير المستقر ماليًا، تحمّل العاملون بالمبنى طيلة السنوات السابقة التضييق المالي تحت مزاعم التطوير. لكن “كامل”، الذي عمل لوقت طويل في أخطر قطاعات المبنى، وهو ستديو الأخبار، يشير إلى أن ذلك التطوير لم يتعد مزاعم رئيس الهيئة. يقول: أغلبنا يعمل بمعدات مُتهالكة تخلى عنها العالم. مثل الكاميرات ذات الشرائط، التي توقف إنتاجها منذ عام 2016، وفق خطاب وجهته شركة سوني المُصنّعة لها إلى ماسبيرو.

يُضيف: الآن نتعامل مع المعدات التالفة باعتبارها قطع غيار لأخرى لازالت تعمل. نحن التلفزيون الوحيد الذي يقوم بالتصوير على شرائط حتى الآن.

يلفت “كامل” كذلك إلى أن زين استهلك ما وصفه بـ”جزء كبير من ميزانية المبنى”. ذلك بعد خروج 22 ألف موظف للمعاش، كان يُمكن استغلاله في تحسين أوضاعهم المالية. لكن رئيس الهيئة فضّل استقدام آخرين للعمل من الخارج بهذه المبالغ. “بعض المخرجين تحولوا إلى مديري إنتاج من أجل صرف بدل حلقات لهم”.

يقول ناظم -وهو مخرج آخر بالمبنى فضّل إخفاء هويته- أن العاملين بماسبيرو في الأساس هم دعامة أغلب القنوات الفضائية الناجحة حاليًا. “لكنهم يستقدمون من نتفوق عليهم ليعطوا لهم أموالنا”. بينما يحتاج ماسبيرو إلى عدالة في الأجور وتحديث في المرتبات ليعود إلى الأفضل، على حد قوله.

يُتابع: عندما كنا نأخذ حقوقنا كان الكثيرون يبقون أضعاف الوقت من أجل إتمام أعمالهم أو لزيادة الحوافز. كنا نعمل أكثر وأكثر لأننا نجد ما يوازي هذا التعب حتى وإن كان قليل. الآن لا شيء.

يُشير كامل إلى أن بعض المخرجين تحولوا إلى مديري إنتاج من أجل صرف بدل حلقات لهم.

ضبط النفس في ماسبيرو “قد لا يستمر طويلًا”

في نهاية ديسمبر الماضي، أوصت لجنة القوى العاملة بمجلس النواب بدراسة إتاحة تعزيز مالي للهيئة لسد فروق العلاوات المتأخرة للعاملين بالهيئة الوطنية للإعلام. وقررت دعوة وزير المالية ورئيس الهيئة الوطنية للإعلام، ومندوب من بنك الاستثمار القومي، ومسؤول تسويات الدين مع الحكومة في وزارة التخطيط في اجتماع لاحق لاستكمال مناقشة هذا الملف.

وطالبت اللجنة من ممثل الوطنية للإعلام بعض البيانات الخاصة بموازنات 2019/ 2020/2021، وبيان عن المديونيات المستحقة على الهيئة وإجراءات التسويات الخاصة بها، وبيان بالتصنيف الوظيفي للعاملين وجدول الأجور الخاصة بهم.

وقتها، قالت أمل الجندي، ممثلة الهيئة، إن العلاوات الدورية لم تصرف للعاملين ومتأخرة منذ سنوات وتصل لنحو 600 مليون جنيه، نتيجة الظروف المالية الصعبة في الهيئة والديون المتراكمة. وأشارت إلى أن الهيئة تحملت نحو 100 مليون جنيه للعلاج خلال فترة كورونا، وأن هناك حاجة لدعم مالي لسداد مستحقات العاملين في العلاوة الدورية.

وردًا على الوقفات الاحتجاجية، التي تعامل معها أمن المبنى برش الماء والصابون على العاملين. أصدر حسين زين رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، في الأيام السابقة عدة بيانات متلاحقة. وعد فيها بتوفير المال اللازم لصرف مستحقات العاملين. وكذلك أوضح أن الأزمة القائمة مع وزارة المالية في طريقها إلى الحل.

لكن صيغة البيانات، وفق كامل، ليست مُرضية بالنسبة للعاملين في المبنى. والذين اعتادوا مثل هذا الحديث، وفق مهندس الصوت الذي تجاوز خمسة عشر عامًا من العمل الحكومي. خاصة وأن الهيئة وصفت وقفاتهم الاحتجاجية بأنها “تؤثر سلبًا”.

يؤكد “كامل” أن جميع العاملين بالمبنى يتمتعون بمسؤولية كبيرة ولا يريدون سوى حقوقهم المهدرة “الجميع على قدر المسؤولية ولم يخط أحدنا خطوة واحدة خارج المبنى. التزمنا بالاحتجاج لكن مع عدم تعطيل سير العمل”. يُشير  أيضًا إلى أن هذا العدد الضخم من العاملين لا يُمكن السيطرة عليه “أحدنا قام ببث أول الاحتجاجات عبر هاتفه إلى قناة الشرق، وهو ما كاد يخلق أزمة. لكن الجميع ملتزمين بأن يظل الأمر شأن داخلي للعاملين بالهيئة”. مع ذلك، حذّر من أن هذا الوضع من ضبط النفس “قد لا يستمر طويلًا”.