في أواخر تسعينيات القرن الماضي أطلقت الشركة الشرقية للدخان علبة سجائر تحت اسم “سجائر توشكى”. وهي العلبة الاقتصادية اللطيفة التي كانت تحتوي على 10 سجائر بسعر اقتصادي بلغ 85 إلى 90 قرش. سجائر توشكى إلى جانب كونها فكرة تسويقية جديدة كانت أيضًا جزءًا من دعاية الدولة للمشروع القومي الضخم، الذي أطلقه الرئيس الأسبق حسني مبارك. وكانت تملأ الجرائد والإذاعات والقنوات.

في 9 يناير من عام 1997، تم الإعلان عن مشروع توشكى كمشروع قومي عملاق، يهدف إلى نقل المياه من بحيرة ناصر إلى ترعة عرضها 200 متر وطولها 850 كم تقريبا كمرحلة أولى، على أن تصل في النهاية لتصب في منخفض القطارة، مما سيضيف قرابة 600 ألف فدان إلى الرقعة الزراعية تصل إلى مليون لاحقاً، وإقامة مجتمعات زراعية وصناعية متكاملة، وإنشاء مجتمعات عمرانية جديدة لتقليل الكثافة السكانية في الوادي والدلتا، هكذا تقول وزارة الري والموارد المائية على موقعها الرسمي.

إلى هنا لا أعتقد بأن أحدا يمكن أن يعترض على جمال ذلك المشروع “القومي” العملاق وعظمة الكلام السابق الذي دفع بعض المسؤولين وقتها بالقول بإن “من يهاجم توشكى كأنه يهاجم الأمن القومي المصري”، لكن خلف تلك الدعاية كانت الحقيقة المؤلمة أن ما يحدث هو عملية إهدار لموارد الدولة -الضعيفة بالأساس -في مشروع فاشل أحيط بهالة من الحماية السياسية بربطه باسم أعلى منصب في الدولة.

وفق تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات قد بلغت إجمالي المساحة المزروعة بالمشروع حتى 30 يونيو عام 2010 (أي بعد 13 عام) حوالي 23 ألف فدان، أي ما يمثل حوالي 4 بالمائة من إجمالي المخطط للمشروع في الوقت الذي بلغت حجم الأموال المنفقة في جملة الأعمال المنفّذة حتى التاريخ ذاته نحو 6 مليار جنيه بجانب المصروفات الأخرى -يُقدر حجم المبلغ الإجمالي بقرابة 17 مليار جنيه)، أضف إلى ذلك بأنه قد تم بيع الفدان الواحد للمستثمرين “الأجانب” بمبلغ 50 جنيه، واستهلاك مليارات الأمتار المكعبة من مياه النيل (كان المخطط أن يأخذ المشروع قرابة 10 بالمائة من حصة مصر من النهر).

وبالمثل، كانت ترعة السلام، المشروع الذي استهدف زراعة 620 ألف فدان منذ بداية العمل فيه قبل 28 عام، وبعد كل تلك الأعوام ومليارات الجنيهات المنفقة وآلاف المواد الدعائية من تقارير وأفلام وأغاني لم يبلغ المتحقق من المستهدف ولو 10 بالمائة حتى الآن. أضف إلى ما سبق عشرات، بل مئات، المشروعات التي لطالما تغنت بها الإذاعات ورقصت لها الصحف والقنوات.

والحقيقة أن فشل وعدم جدوى تلك المشروعات “القومية” لم تكن صدفة ولا غضب من ربنا ولا بسبب الشعب المايع الذي لا يحب العمل، بل كانت مسؤولية الأنظمة الحاكمة فقط، التي لم تستمع لأحد غير نفسها وان استمعت فكان ردها بالهجوم والتخوين.

في عام 1999، أجرى الرئيس لأسبق، حسني مبارك، حواراً مع عدة صحف وجرائد قام خلاله باستكمال تأكيده على أهمية وجدوى مشروع توشكى، كما أكمل هجومه على المعارضين للمشروع واتهامهم بعدم الفهم في جلسات خاصة وعامة.

قبيل هذا الحوار الرئاسي عقدت محاضرة بمركز دراسات وبحوث الدول النامية بجامعة القاهرة، كان المتحدث فيها الراحل الدكتور رشدي سعيد، الذي يوصف بإنه أهم جيولوجي عرفته مصر على مر العصور، والحاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1962، وجائزة الريادة لعام 2003 من الجمعية الأمريكية للجيولوجيا، وكانت تلك المحاضرة حلقة في سلسلة نداءات الراحل للمسؤولين في مصر بالتعقل ووقف إهدار موارد الدولة المالية والمائية، حيث كان من أوائل من حذّر من الشح المائي الذي ستعاني منه مصر، وملحاً بالتوقف عن إنفاق المليارات في مشروعات استصلاح الأراضي اعتماداً على مياه النيل أو على المياه الجوفية، وعارض مشروع توشكى منذ أول مرة أعلن فيها عنه بمذكرة رسمية سلمها للسفير المصري في واشنطن مطلع التسعينات ونشرها في الصحافة المصرية.

يقول الدكتور الراحل -ولاحظ أن هذا الكلام كان قبل أكثر من 30 عاما- في محاضرته: يجب أن تضع مصر خطة عاجلة للتحديث تعتمد على التصنيع وليس الزراعة فقط. كما تعتمد على ترشيد استخدام مياه نهر النيل لان مصر ستواجه بعد 20 عاما ندرة شديدة في المياه، حينما تطالب دول المنبع إما بإعادة تقسيم حصص المياه أو بيعها لمصر. يجب ألا نتصور أن لدينا وفرة من المياه بوجود نهر النيل.. أبدًا: إن مصر تقع في منتصف حزام الصحاري.

ويضيف قائلاً: لا يجب الاعتماد على المياه الجوفية لأن المخزون منها يتناقص ولا يمكن تعويضه بسبب ندرة مياه الامطار التي تسقط على مصر. إن المياه الجوفية الموجودة الآن هي مخزون أمطار من عصور سابقة كانت الأمطار فيها كثيرة وعندما نستنفذها فلن يحل محلها مياه أخرى. وإذا كان البعض يعتقد أيضا ان المياه الجوفية تتجدد فإننا عندما حفرنا آبارا في المناطق الجنوبية وجدنا أن معدلات انسياب المياه محدودة جدا وتحتاج لآلاف السنين حتى تحل محل ما يتم سحبه في عشرات السنين، وفي الستينات تم حفر آبار كثيرة في المناطق الصحراوية فكانت المياه تخرج من البئر بمعدل 160 مترا في الساعة. وقد تراجع الآن هذا المعدل الى 20 مترا في الساعة ثم 12 مترا في الساعة كما أن هناك آبارا جفت وأخرى اختفت.

وقد وصّى الدكتور باعتبار الوادي والدلتا محمية طبيعية للحفاظ على أراضيها وإقامة تجمعات حضارية في الصحراء، حول صناعات معينة وليس زراعتها لأنها مكلفة وعائدها لن يكون اقتصاديا والاستفادة بالمخزون الهائل من الغاز الطبيعي في الصناعة وليس تصديره.

الغريب أنه بعد أكثر من ثلاثين عاما من حديث العالم الراحل، تأكد بعض المسؤولين من صدق كلامه، منهم وزير الري السابق حسام مغازي الذي قال بكل صراحة ووضوح إن النيل لا يكفي لزراعة أراضٍ جديدة. ورغم ذلك لا تزال الخطط توضع والمشاريع تفتتح والوعود تتجدد، حول إعادة الحياة لمشروع توشكى، وترعة السلام، ومشروع مليون ونصف فدان جدد وغيرها من المشروعات الزراعية التي تملأ الإعلام والبرامج والقنوات، وتُذاع لقطات الافتتاح مع الأناشيد والأغاني، وستبتلع عشرات المليارات قبل أن ندرك فشلها وعدم جدواها

وليست المشاريع الزراعية وحسب، ولكن هناك المئات من المشاريع التي يصرخ المتخصصون بعدم جدواها أو بخطورتها أو بعدم أولويتها الآن، في ظروف مصر الاقتصادية الصعبة التي تستنزف جيوب الناس، وتعصرهم عصراً، وتراكم ديون بعشرات المليارات مثل المفاعل النووي الذي يُبنى حالياً لتوليد الكهرباء في الوقت الذي بلغ فائض الكهرباء المتولدة في مصر العام الماضي قرابة 20 ألف ميجا وات، في الوقت الذي تعمل دول العالم على تخفيض الاعتماد على الطاقة النووية أو الاستغناء عنها تماما بسبب خطورتها. بجانب تكلفة ذلك المشروع مئات المليارات (قرابة 330 مليار جنيه)، في وقت لا يجد التلاميذ مقعداً في صفوفهم، ويتم رفع سعر زجاجة زيت الطعام على بطاقة التموين.

والحقيقة أن آلاف التجارب السابقة علمتنا أن المشاريع “القومية” حقاً، بعيداً عن الدعاية الكاذبة والطبول والأفراح والليالي الملاح هي إحدى ثلاث، إما الاستثمار في البشر بالإنفاق على التعليم الذي هو حقاً أساس نهضة الأمم، أو بتحسين معيشتهم وتوفير حقوقهم من الخدمات وجعل حياتهم أقل عذابا وشقاء، أو ببناء ديمقراطية حقيقية تجعل الأجيال شركاء فعليين في وطنهم ومراقبين على ثرواتهم ومواردهم من العبث والاهدار والاستهتار، وما دون ذلك فهو كسجائر توشكى التي اندثر دخانها واختفت ونُسيت بعد أن ذهبت المليارات في الهواء.