على نحو مفاجئ، غادر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم جيفري فيلتمان، مهمته في القرن الأفريقي، مخليًا مكانه للقادم من العاصمة التركية أنقرة، ديفيد ساترفيلد. وهي الخطوة التي طرحت تساؤلات بشأن ما إذا كانت واشنطن قد أخفقت طيلة الأشهر الماضية في المنطقة تلك المنطقة الاستراتيجية. أم أن الأمور تتهيأ لتغير فعلي في قادم الأيام.
الأنباء الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية تتسم بقدر كبير من الاقتضاب، الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام تنبؤات وتحليلات المراقبين. لكنها في كل الأحوال تحمل قدرًا من الرموز في حال مضاهاتها بالتطورات الميدانية سواء التي عمل عليها فيلتمان قبل المغادرة. أو تلك التي تستقبلها ساترفيلد بالقدر نفسه من الغموض.
إشارتان في مغادرة فيلتمان.. وأربع أزمات تنتظر ساترفيلد
ثمة إشارتين مهمتين في استقالة فيلتمان، الأولى أنه أحال قراره الشخصي بالاستقالة إلى”الإحساس بالمسؤولية” بعد حوالي 9 أشهر من المهمة. والثانية أن القرار جاء في خضم زيارات مكثفة للدبلوماسي الأمريكي شملت أديس أبابا والخرطوم والقاهرة. ماذا وجد لدى تلك العواصم دفع للقول إنه يشعر بالمسؤولية لكي يغادر؟ ثم هل استقال أم دُفع للاستقالة بينما كان يحاول اختراق الملفات؟ وهل حققت واشنطن ما تريد في القرن الأفريقي خلال الأشهر الماضية؟
على أية حال، غادر فيلتمان بعد أكثر من 25 عاماً من العمل الدبلوماسي في الأمم المتحدة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وجاء ديفيد ساترفيلد السفير الأمريكي المنتهية ولايته في تركيا لخلافته في المنصب. ويتسلم الأخير أربع أزمات متحجرة: الحرب الأهلية المتفاقمة في إثيوبيا، والانقلاب العسكري في السودان، وأزمة سد النهضة، الخلافات بين رأسي السلطة في الصومال.
مبارزة أمريكية صينية بالمبعوثين
اللافت أن وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” أعلن خلال زيارته لكينيا– الحليف التقليدي للولايات المتحدة- عن خطة بلاده تعيين مبعوث خاص لمنطقة القرن الأفريقي. وليس جديدا المبارزة الصينية في منطقة القرن الأفريقي، باعتبارها أظهرت هيمنة واسعة الناطق في مقابل الولايات المتحدة.
لكن خطوة بكين الجديدة، تشير إلى أنها تحاول ترسيخ وجودها وإبراز مهارات إدارة النزاع لديها في مناطق الحضور الأمريكي. كما أن التطورات الجارية على الأرض تشير إلى عدم قدرة فيلتمان على إحراز تقدم ملحوظ في الصراعات القائمة. بما يستدعي إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة القرن والآليات الحاسمة تجاه مجموعة الأزمات السياسية والأمنية والإنسانية.
دلالات تعيين مبعوث أمريكي جديد
باستثناء الصراع القديم الجديد بين الأقطاب الدولية على النفوذ في القرن الأفريقي فإن ثمة دلالات لتغيير واشنطن جلدها الدبلوماسي هناك:
عطب سفينة فيلتمان
واحدة من الدلالات المباشرة وراء استقالة فيلتمان، هي العطب الذي أصاب سفينته التي أبحرت وسط أمواج عاتية في المنطقة. اصطدم المبعوث الأمريكي بواقع مغاير للأجندة التي حملها من واشنطن، واتجهت الرياح عكس الشراع. وهو ما أسفر عن خيبة أمل، فمنذ تسميته في 23 أبريل الماضي، أي بعد مرور 6 أشهر من الحرب الأهلية المتفاقمة في إثيوبيا بين القوات الموالية لجبهة تحرير تيجراي والقوات الحكومية. لم تفلح الجهود الأمريكية في تخفيف حدة الصراع. وأسفرت الحرب عن مقتل 52 ألف مدني بعد مرور 3 أشهر من النزاع وفقا لوكالة “أسوشيتد برس”. بالإضافة إلى 42.880 ألف لاجئ في معسكرات الإيواء الدائمة بالسودان. وفي السودان لم تنقطع الاحتجاجات على مدى أسابيع، وفي ملف سد النهضة الذي كان هامشيًا بالنسبة للدبلوماسي الأمريكي لم يشهد إشارات إيجابية. بل ازداد الوضع سواء بتدهور الأوضاع السياسية في الصومال.
إخفاقات واشنطن.. وأزمات معقدة
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأزمات المتواصلة بمنطقة القرن الأفريقي لا تحمل أملاً في حل قريب. ففي السودان، تعقدت الأزمة في ظل انشغال الولايات المتحدة بإيجاد حلول لقائمة الصراعات المدرجة على أجندة فيلتمان. بعدما اندلعت توترات بين رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك في أكتوبر الماضي. بما شكل انتهاكًا لما نص عليه الإعلان الدستوري لعام 2019 واتفاقية جوبا للسلام لعام 2020.
وشكلت هذه التوترات ضربة قاصمة لجهود فيلتمان في القرن الأفريقي، كما كشفت عن ثغرات واضحة في إدارته. حيث بدأت التوترات بعد أيام قليلة من اجتماع فيلتمان مع أعضاء السلطة في السودان، وما كان من فيلتمان إلا وصف هذه الأحداث بأنّ البرهان تصرف معه بسوء نية. وعلى الرغم من الحشد الدولي الذي بذله فيلتمان لحث الفاعلين في السودان على تصحيح المسار. إلا أن استقالة حمدوك منذ أيام كشفت عن عمق الأزمة، بما يهدد أي آفاق مستقبلية هادفة إلى تحقيق الاستقرار.
كما ثقلت المهمة على عاتق فيلتمان. خاصة مع تأزم التوترات السياسية في الصومال، في ظل إصرار الرئيس المنتهية ولايته عبد الله فرماجو منذ فبراير 2021 على التمديد لحكمه. وقيامه مؤخرا بتعليق مهام رئيس الوزراء محمد روبلي. وما تبع ذلك من موجة من الاحتجاجات السياسية مطالبة الرئيس فرماجو بالاستقالة. بالإضافة إلى انقسام داخل قوات الجيش بين المؤيدين والمعارضين. بما يزيد من مخاوف تحول الصومال إلى ساحة صراع كما في إثيوبيا، خاصة في ظل تدخل العديد من الأطراف الإقليمية.
ارتباك الموقف الأمريكي
الموقف الأمريكي لأغلب أزمات منطقة القرن الأفريقي شهد ارتباكا. بما ينم عن عدم إدراك أبعاد الصراع والسياقات المحتملة أو على الأقل فهم طبيعة الديناميكيات المتغيرة. وتدرجت أشكال التدخل الأمريكي من حيث بيانات التنديد، ومحاولة دفع جميع الأطراف الإثييوبية نحو حل سلمي للصراع وإجراء حوار وطني شامل. وتقديم الدعم لكافة الدعوات الدولية والأممية لإنهاء الاقتتال. ومع ذلك، تجاهل آبي أحمد دعوات فيلتمان للتفاوض على وقف إطلاق النار. ثم في 17 سبتمبر الماضي، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا أكثر تصعيدًا من خلال فرض عقوبات شاملة تستهدف أطراف الصراع. بالإضافة إلى إثناء أثيوبيا من برنامج التجارة المعفاة من الرسوم الجمركية، في محاولة لردع أديس أبابا، لكن العكس هو ما حدث.
إعادة هندسة الاستراتيجية الأمريكية
كشف بيان وزير الخارجية الأمريكي الخاص بإعلان المبعوث الجديد عن بعض التغيرات في إدارة الولايات المتحدة لأزمات المنطقة. على حد وصفه “تحديات المنطقة تتطلب تركيزا مستداما من قبل الولايات المتحدة”. وهو ما يعكس توجه الإدارة الأمريكية نحو مراجعة أدوارها في المنطقة، وإعادة الانخراط بشكل فعال. حيث تحتاج الولايات المتحدة إلى تبني استراتيجية جريئة متعددة الأطراف. وذلك في ظل المنافسة المحتدمة من جانب الأطراف الدولية على ممارسة دور أكبر في المنطقة. كما يأتي خبر تنحي فيلتمان أعقاب إعلان الصين تعيين مبعوث خاص لمنطقة القرن الأفريقي.
كما يبدو أن الولايات المتحدة عندما حاولت لململة أوراقها من مختلف مناطق الصراع كما فعلت بسحب قواتها من الصومال. وكذلك الانسحاب الفوضوي في أفغانستان، مثل ذلك في الوقت ذاته إنذارًا لمختلف الحلفاء خاصة في الشرق الأوسط مفاده عدم الاعتماد على الدعم الأمريكي والبحث عن داعمين آخرين. واتضح ذلك من عدم استجابة إثيوبيا للرفض الأمريكي، بل زادت من ترساناتها بعقد صفقة أسلحة مع تركيا بقيمة 51.7 مليون دولار. وفي المقابل، تحاول الولايات المتحدة إعادة توجيه جهودها نحو أفريقيا، وفقا لما أكده وزير الخارجية الأمريكي بلينكون في نوفمبر. أثناء زيارته لكينيا ونيجيريا والسنغال.
عقدة المبعوث أمريكي في القارة السمراء
هذا التغيير، يحيل المتابعين إلى الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة لم تستطع الوصول إلى ممثل بآليات تناسب المنطقة لتنفيذ مهمتها. خاصة أن فيلتمان تولى مهمة في منطقة هي بطبيعة الحال موالية لواشنطن، لاسيما إثيوبيا التي تخطو حطوات متسارعة نحو محور واشنطن تل أبيب.
وللولايات المتحدة تاريخ طويل في تعيين مبعوثين في المناطق المضطربة في أفريقيا. فعلى مدار فترة قيادة الرئيس الأسبق بيل كلينتون جرى تعين 3 ثلاثة مبعوثين في أفريقيا. ومنذ عام 2001 توافد على منصب مبعوث خاص فقط في السودان ما يزيد عن 6 دبلوماسيين. وتحاول إدارة بايدن الاستقرار حول من يجب تعيينه لقيادة جهود حماية مصالحها في المنطقة.
محددات السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي
برزت أهمية منطقة القرن الأفريقي في أولويات السياسة الأمريكية منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. وذلك نظرًا لموقعها الاستراتيجي وقربها من البوابة الاستراتيجية الجنوبية للبحر الأحمر. وجاء تصريح كلينتون في 1998: “لقد آن الأوان لأن يضع الأمريكيون أفريقيا الجديدة على قائمة خريطتهم”، ليشكل خارطة طريق لنهج الإدارة الأمريكية في أفريقيا. ومنذ ذلك الحين، حاولت الولايات المتحدة التواجد بشكل أكثر فعالية في القرن من خلال نشر قواتها العسكرية في الصومال. وبناء القواعد العسكرية في كينيا وجيبوتي، وتعيين مبعوث أمريكي خاص للسودان. إضافة إلى حجم المساعدات الإنسانية التي قدمتها إلى إثيوبيا والتي تصل إلى أكثر من 4.2 مليار دولار.
ولا يمكن إنكار أن جزءًا كبيرًا من الاهتمام الأمريكي بالقرن الأفريقي يرجع إلى علاقات التعاون الأمريكية- الخليجية. فضلا على أن واشنطن تعد منطقة القرن الأفريقي العمق الاستراتيجي لقواتها الموجودة في الخليج. وكذلك حرص الولايات المتحدة على الظهور بصورة حامي الأمن في المنطقة إزاء التهديدات المتلاحقة لمصالحها في ظل الحضور الروسي. المتمثل في الحصول على قاعدة عسكرية في السودان على البحر الأحمر. وكذلك التغلغل الصيني في منطقة القرن بشكل خاص، حيث مشروع الحزام والطريق.
وتحاول الولايات المتحدة إعادة تفعيل دورها في أفريقيا لترميم ما طرأ على العلاقات من تدهور خلال فترة إدارة دونالد ترامب. على سبيل المثال، في 21 ديسمبر الماضي، رفعت الولايات المتحدة تمثيلها الدبلوماسي في السودان من قائم بالأعمال إلى سفير. كما قدمت حزمة مساعدات بقيمة 700 مليون دولار مشروطة. إضافة إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي بلينكين إلى أفريقيا.
مهمة ساترفيلد.. حافظة أزمات المنطقة
يتمتع المبعوث الأمريكي الجديد لمنطقة القرن “ديفيد ساترفيلد” بخبرة طويلة في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط. حيث عمل كسفير للولايات المتحدة في تركيا، وكذلك عمل في السعودية ولبنان وتونس وسوريا وليبيا. وهو ما يرشحه لتولي مهام المبعوث الأمريكي لمنطقة ذات ديناميكيات معقدة. وهذا ما أكد بلينيكن في بيانه: “ستكون خبرة السفير ساترفيلد الدبلوماسية التي امتدت لعقود من الزمان في خضم بعض أكثر الصراعات تحديًا في العالم مفيدة في جهودنا المستمرة لتعزيز السلام والازدهار في القرن الأفريقي وتعزيز المصالح الأمريكية في هذه المنطقة الاستراتيجية”.
كما تحرص الولايات المتحدة في اختيار مبعوثها في منطقة القرن أن يتمتع بخبرة جيدة في صراعات الشرق الأوسط. حيث عمل فيتلمان كذلك كدبلوماسي في إسرائيل، وفي تونس، ولبنان، ولجان إدارة النزاعات. وينتظر ساترفيلد العديد من الأزمات المتصاعدة التي تطلب آليات جديدة تتوافق مع طبيعة الخلافات الراهنة، وكذلك ظهور فاعلين منافسين في المنطقة.
أما فيما يتعلق بقدرة ساترفيلد على تحقيق الأهداف الأمريكية، فإنها تتوقف على عدة محددات أهمها:
– يتوقف الأمر على إدراكه خصوصية الأوضاع السياسية في منطقة تتسم بالطبيعة القبائلية ونزاعات إثنية مستمرة. وضحالة الثقافة السياسية لعدد كبير من المواطنين والنخب السياسية على حد سواء. وتهميش دور المؤسسات المدنية.
– تداخل دور الفاعلين الإقليمي مثل إيران وتركيا وكذلك الفاعلين الدوليين كروسيا والصين في مختلف ساحات الصراع.
– الاستفادة من تجربة فيلتمان، سواء نقاطها الإيجابية أو السلبية، لتصحيحها والبناء عليها، وليس البدء من الصفر.
– أهمية توظيف الخبرة السياسية الطويلة في صراعات الشرق الأوسط في إدارة أزمات دول القرن، وكذلك العمل مع الشركاء الإقليميين والمؤسسات الفاعلة مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.