واجه رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك معركة شاقة منذ توليه السلطة المدنية في بلاده. فاقم أحداثها افتقار الرجل إلى الفطنة السياسية. فضلاً عن عدم قدرته على تسخير وتحويل قوة الاحتجاجات في الشوارع إلى أجندة حقيقية للعمل الجريء. فسرعان ما أصبح البيروقراطي السابق في الأمم المتحدة سجينًا سياسيًا داخل نظام ساعد في تأسيسه. بات عالقًا بين قوى سياسية غير قادرة على الوصول إلى إجماع يمكنها من المضي قدمًا، ونظام عسكري عازم بشكل متصاعد على تقويض العملية الديمقراطية. وفي كل الأحوال، فقد انتهى انتقال السودان الرسمي إلى الديمقراطية، وفق ما يراه الباحث كاميرون هدسون، في تقرير منشور بموقع المجلس الأطلسي للأبحاث. ذلك رغم أن ثورة السودان لا تزال حية في قلوب الملايين من المحتجين السلميين المؤيدين للديمقراطية.
بالنسبة لأي شخص راقب القادة المدنيين في السودان وهم يحاولون انتزاع السلطة من أجهزة الأمن القوية في البلاد على مدار العامين الماضيين، لم تكن استقالة حمدوك فجر الإثنين الماضي مفاجأة. ومع ذلك، لا توجد خارطة طريق لما سيأتي بعد ذلك. فمنذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول كان التحول الديمقراطي في السودان قائمًا بالاسم فقط. بينما الآن وبعد استقالة حمدوك في ظل انقسام القوى المدنية بات من الصعب الوصول إلى حل ديمقراطي سريع.
الجيش ومعركة وأد الديمقراطية في السودان
يستعرض “هدسون” فترة ما بعد الانقلاب العسكري في السودان. يقول إنه منذ استيلاء العسكريين بقيادة عبدالفتاح البرهان على السلطة، كدس الجيش مؤسسات الدولة بالجنرالات والحلفاء. بينما فكك اللجان المدنية التي تهدف إلى الاستيلاء على أصول النظام السابق. وأيضًا أعاد صلاحيات أجهزة المخابرات المحلية للاعتقال والاحتجاز. والأهم من ذلك، زاد من الضغط على المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية. وقد قُتل منذ الانقلاب أكثر من خمسين متظاهرًا غير مسلح. فيما تعرض العشرات للاغتصاب، وجرح مئات آخرون واحتُجزوا بشكل غير قانوني.
المجلس الأطلسي هو مؤسسة بحثية غير حزبية مؤثرة في مجال الشؤون الدولية. تأسست عام 1961، ويوفر المجلس منتدى للسياسيين ورجال أعمال ومفكرين عالميين. وتدير المؤسسة عشرة مراكز إقليمية وبرامج وظيفية تتعلق بالأمن الدولي والازدهار الاقتصادي العالمي. يقع مقرها الرئيسي في واشنطن دي سي بالولايات المتحدة.
استغل الجيش السوداني الأزمة الاقتصادية في البلاد وانقسام التيار المدني ومفارقته مطالب الشارع المحتج، بانقلاب أراد له أن يكون خاطفًا، يزيح به المدنيين من اتفاق 2019. لكنه رضوخًا أمام الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في الداخل رفضًا للانقلاب على الديمقراطية، أعاد إحياء الصفقة السياسية مع حمدوك. بعد أن أخضعه البرهان منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول للإقامة الجبرية.
عاد حمدوك رئيسًا للوزراء وفق اتفاق نوفمبر/تشرين الثاني مع البرهان. إلا أن عودته تلك لم تحظ بإجماع الحركة المدنية. صحيح أن الغرب سارع بالترحيب بها -كضامن وحيد لبقاء مسار التحول للديمقراطية- لكن الحركة المدنية رفضتها، متهمةً حمدوك بمساعدة الجيش في الحفاظ على ستار أن السودان لا يزال يشهد انتقالاً بقيادة مدنية لا انقلاب.
أمام هذا الضغط، أعلن حمدوك استقالته من منصبه كأول رئيس وزراء للسودان بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018. استخدم خطابًا هادئًا كرجل دولة. لكنه في غمرة الحديث عن الأزمة السياسية في بلاده، كان حريصًا على التأكيد على انتمائه لثورة ديسمبر، وعلى دفاعه عنها، وعن كونها الطريق الوحيد الذي سيفضي إلى “سودان مدني ديمقراطي ناهض”.
حان الوقت لدعم الثورة في السودان
يقول “هدسون” إن واشنطن وحلفاءها مطالبون الآن بدعم الثورة في السودان واتباع نهج أكثر تشددًا تجاه الجيش السوداني، لمسؤوليته عن انقلاب أكتوبر/تشرين الأول، والجرائم المرتكبة بحق المحتجين السلميين. وهذا يعني فرض عقوبات على شخصيات مثل ياسر محمد عثمان مدير المخابرات العسكرية. وكذلك جمال عبد المجيد مدير المخابرات العامة. وأيضًا عبد الرحيم دقلو نائب قائد قوات الدعم السريع (سيئة السمعة). ذلك لأن كل منهم لعب دورًا مباشرًا في تنظيم حملة القمع المميتة ضد المتظاهرين.
يقول تيودور ميرفي، مدير برنامج إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنه لكبح شره الجيش نحو الاستيلاء على السلطة يجب أن يكون الدعم الدولي المستمر للسودان مشروطًا بإعادة تشكيل المكون المدني للحكومة الانتقالية. على أن يوجه تحذير جاد بضرورة أن يحظى التشكيل الحكومي القادم بدعم قطاع عريض من حركة الاحتجاج الأوسع والأحزاب السياسية المرتبطة بها. ذلك لضمان ألا يختار الجيش رئيس وزراء مدنيا “دمية”، أو يتحكم في من يحق لهم الترشح.
وهو يتفق مع “هدسون” في ضرورة أن يحدد صانعو السياسات الغربيين “العصي” التي سيتعاملون بها مع الوضع السوداني. إذ يجب أن تستهدف العقوبات الأفراد الذين يمكّنون الجيش من التخريب السياسي. وكذلك الشركات المرتبطة بشبكة الأمن الاقتصادي العسكري الأوسع.
المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية هو مؤسسة فكرية تأسست في أكتوبر 2007 لعموم أوروبا ولها مكاتب في سبع عواصم أوروبية في برلين ولندن ومدريد وباريس وروما ووارسو وصوفيا. يُعنى بالأبحاث حول السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية ويوفر مساحة اجتماعات لصناع القرار والنشطاء والمؤثرين لتبادل الأفكار.
ما تحتاجه واشنطن لمواجهة انقلاب السودان
بعيدًا عن الإجراءات العقابية، تحتاج واشنطن -وفق “هدسون”- إلى الضغط نحو مخرجات أكثر نشاطًا تلبي مطالب الشعب السوداني. وكذلك تدعم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة. بينما تعكس التزام الرئيس جو بايدن المزعوم بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
يقول “هدسون” إن إدارة بايدن مطالبة بأن تعلن عن مرشح للعمل كسفير للولايات المتحدة في السودان. بينما في غضون ذلك، عليها أن ترسل المبعوث الخاص للقرن الأفريقي إلى الخرطوم، برسالة من بايدن يشرح المنطق الكامن وراء العقوبات الأمريكية ويعطي الجنرالات خيارًا: إما الانخراط في حوار سياسي موثوق وشفاف وشامل لاختيار رئيس وزراء جديد. بالإضافة إلى الامتناع عن أي انتهاكات أخرى ضد المتظاهرين السلميين. وأيضًا العودة إلى التنفيذ الكامل للإعلان الدستوري لعام 2019. أو مواجهة موجة جديدة من العقوبات التي تستهدف قادة النظام وشبكتهم الواسعة من المصالح المالية والشركات العسكرية.
ويضيف “هدسون” أنه لكي يكون هذا الاختيار ذا مصداقية، يجب أن يحظى بدعم شركاء السودان الدوليين الآخرين، من الرياض وأبو ظبي إلى القاهرة وأنقرة.
وفق “هدسون”، فإن الولايات المتحدة بات عليها أن تلقي بثقلها دون خجل وراء الحركة المؤيدة للديمقراطية في البلاد. وذلك بطرق ملموسة وذات مغزى من شأنها أن تبدأ في تغيير ميزان القوى أكثر لصالح المحتجين. وأن يتضمن ذلك تحويل بعض المساعدات المالية المجمدة حاليًا إلى لجان المقاومة ولجان الأحياء لمساعدتها على التنظيم والتواصل وتطوير برنامجها السياسي بشكل أفضل، ولتصبح جزءًا أكثر رسمية من العملية السياسية.
في النهاية، سيقرر شعب السودان كيف يبدو الطريق. لكن يمكن لواشنطن أن تمنحهم فرصة قتالية من خلال رؤية لحظة الخطر هذه على حقيقتها: فرصة لإعادة التوازن إلى نهجه، وإعادة الالتزام بالمثل العليا للثورة، وفضح الجيش وممارساته.
محاولة أخيرة.. مبادرة الأمم المتحدة لوقف تدهور السودان
أول من أمس السبت، قالت البعثة الأممية “يونيتامس UNITAMS” إنها بدأت مع الشركاء المحليين والدوليين في إطلاق المشاورات الأولية لعملية سياسية بين الأطراف السودانية. على أن تتولى الأمم المتحدة تيسيرها. وهي تهدف إلى التوصل إلى اتفاق للخروج من الأزمة السياسية الحالية، والتقدم في مسار مستدام نحو الديمقراطية والسلام. وبينما من المقرر أن يكشف مكتب رئيس البعثة الأممية في السودان، فولكر بيرتس، قريبًا عن تفاصيل هذه المبادرة. ذكر موقع “سكاي نيوز عربية” أنه توصل لهذه التفاصيل.
وفق ما أورده “سكاي نيوز”، تتضمن المبادرة 4 عناصر أساسية: إلغاء مجلس السيادة والاستعاضة عنه بمجلس رئاسي شرفي يتكون من ثلاثة أعضاء مدنيين. ذلك بالإضافة إلى منح العسكريين مجلسًا مقترحًا للأمن والدفاع، ولكن تحت إشراف رئيس الوزراء الذي سيمنح سلطات تنفيذية كاملة تشمل تشكيل حكومة كفاءات مستقلة بالكامل مع إعطاء تمثيل أكبر للمرأة. فيما قد تفتح المبادرة الباب أمام مشاركة القيادات الحزبية ولجان المقاومة وعناصر الحركات المسلحة في المجلس التشريعي الذي سيشكل لاحقًا.
هذه المبادرة التي لم تتكشف تفاصيلها بعد، وكذلك ما طرحه كاميرون هدسون في تقريره بالمجلس الأطلسي للأبحاث، وما استعرضه تيودور ميرفي في مقاله بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كلها تحليلات ورؤى تتفق على ضرورة كبح جماح الجيش السوداني المتصاعد نحو السيطرة على البلاد. وأن يتضمن ذلك ضغطًا غربيًا وأمريكيًا على منفذي الانقلاب وداعميه لصالح حركة الاحتجاج الشعبية التي تنادي بمسار ديمقراطي ينقذ البلاد من العودة إلى ما هو أسوأ من نظام البشير. ولا سبيل إلى ذلك أفضل من تركيز الضغط الغربي على العقوبات ووقف المساعدات وتوجيهها في مسار دعم المقاومين للانقلاب.