بغض النظر عن أن الإدارة الأمريكية الحالية أهملت تماما مشروع الإدارة السابقة لإقامة ما سماه الشركاء حينها بمشروع الناتو العربي، فإن الأسباب الداخلية في كل الدول العربية المرشحة للانضمام لمثل هذا التحالف المفتعل، وكذلك الأسباب الإقليمية في عموم المنطقة هي الحائل الأول دون تأسيس تحالف يضم دول الخليج والأردن (وقيل مصر أيضا) جنبا إلى جنب مع إسرائيل ضد إيران وحلفائها.. أو أذرعها كما يقال عادة، وضد التنظيمات الإرهابية، وسائر الجماعات المنشقة على حكوماتها أو دولها، بما في ذلك التنظيمات ذات الطابع الميليشيوي، كحزب الله اللبناني، والجماعة الحوثية في اليمن، وحماس في فلسطين، والحشد الشعبي في العراق. . وهي التي يطلق عليها عادة أذرع إيران في الإقليم، مضافا إليها تنظيم داعش، وفروعه المنتشرة في عديد الدول العربية والأفريقية.
إذا أردنا أن نلخص تلك الأسباب المحلية والإقليمية – التي وصفناها بأنها الحائل الأول ضد ذلك المشروع – فهي أنه في حقيقته تحالف ضد الشعوب بأكثر من كونه تحالفا ضد عدو خارجي، وأنه تحالف ضد التغيير السلمي في البلدان المرشحة بأكثر من كونه تكلفا ضد الإرهاب.
لا ينكر أحد ما تمثله إيران من مخاطر على الخليج، وعلى بقية شبه الجزيرة العربية والمشرق، ولا ينكر أحد تفاقم ظاهرة التطرف والانشقاق المسلحين، وانتشار التنظيمات والخلايا الإرهابية، ولكن ذلك الناتو العربي الذي يتجدد الحديث عنه الآن في بعض الدوائر الإسرائيلية والخليجية هو أسوأ وصفة لمواجهة تلك التهديدات الماثلة، وذلك من زاوية تغيير موازين القوي السياسية الإقليمية لمصلحة طرف واحد هو إسرائيل، التي تحرز أصلا تفوقا معروفا للجميع في موازين القوة العسكرية، ولا يحول دون انتقالها الي مرحلة الهيمنة سوى الحقائق السياسية المحضة، وفي مقدمتها معضلة احتلالها للأراضي الفلسطينية، واستمرار رفض الشعوب العربية للتطبيع الدافئ معها فضلا عن أن تقبل كقيادة إقليمية استراتيجية للمنطقة، ولو في مواجهة إيران.
ولعل ذلك من أسباب عدم الحماس المصري للمشروع منذ طرح لأول مرة في قمة الرياض الخليجية-الإسلامية / الأمريكية في مايو عام 2017.
من هنا يدرك الضمير العربي أن الفكرة في أصلها ومبتغاها -على هذا النحو- ليست إلا خطة للقفز فوق المشكلات الحقيقية دون أدنى جهد أو حتى التزام لحلها، أو وضعها على طريق الحل. وأنها خطة لإعلاء أمن النظم الحاكمة على مطلب بناء نظم سياسية منفتحة، وغير إقصائية، وقابلة للحياة دون أقسى أنماط السلطوية .
وكمثال تجريبي لقطع الشك باليقين، فكلنا رأينا أن الخلافات العميقة بين مصر وحركة حماس مثلا، لم تؤد في أية مرحلة إلى تضامن شعبي وحكومي مع إسرائيل في حروبها الكثيرة ضد الحركة وضد قطاع غزة، وكذلك لم يحدث أن تضامنت دولة عربية رسميا وشعبيا مع أي عدوان إسرائيلي على لبنان، بالرغم من وجود تحفظات، بل وتناقضات واسعة مع حزب الله.
وحتى فإنه في مواجهة توسع النفوذ الإيراني فما الذي يستطيع ناتو عربي تقديمه لنظم تقاتلها أو تصارعها كتلة كبيرة من شعبها نفسه كالحوثيين في اليمن، أو حزب الله اللبناني، أو الحشد الشعبي العراقي وغيره من التنظيمات الحليفة لطهران في الداخل؟ فهؤلاء جميعا ليسوا قوات غازية، أو حتى متسللين جاؤوا من وراء الحدود، وإنما هم كما قلنا كتلة أو كُتل من المواطنين الأصليين، وجدوا في إيران مصدرا للتسليح والتمويل والتدريب والمساندة السياسية، بناء على مصلحة مشتركة يسمونها الخلاص من المظلمة التاريخية للطوائف الشيعية علي أيدي الحكومات السنية.
من باب المثل القائل من فمك أُدينك، فإذا أردنا مجاراة أصحاب هذه الفكرة في استلهام نموذج الناتو الأصلي بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ضد الاتحاد السوفيتي بوصفه أنجح الأحلاف الدولية في التاريخ حتى الآن، فسنجد أنهم يغفلون الركيزتين المكملتين لسياسة العمل العسكري الجماعي الفوري ضد أي عدوان سوفيتي علي أي من أعضاء الحلف.. هاتان الركيزتان هما النظام السياسي الديمقراطي غير الإقصائي الذي يتسع للشيوعيين المحليين. وسائر اليساريين في كل دولة، ما داموا يلتزمون بالطريق الانتخابي لتولي الحكم، وبالطبع فأولئك الشيوعيون المحليون وبقية فصائل اليسار كانوا هم الحلفاء المحتملين للاتحاد السوفيتي، في داخل كل دولة ومجتمع أوروبي، أما الركيزة الثانية فكانت هي مشروع مارشال الأمريكي لإعادة البناء الاقتصادي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مقرونا بإقامة دولة الرفاه أو مايسمي بنظام السوق الاجتماعي، الذي يقي النظام ككل من عواقب الحرمان والظلم الاقتصاديين.
ولتبيان الأهمية القصوى لعدم الإقصاء السياسي، وللنمو والرفاه، فدعونا نفترض أن حكام أمريكا وأوروبا اكتفوا في مواجهة السوفيت بالأداة العسكرية فقط، فما الذي كان الناتو سيفعله إذا اندلعت ثورات وحروب أهلية في إحدى دول الحلف بسبب الفقر والحرمان والإقصاء السياسي؟. أجزم أن الإجابة هي: لاشيء .
إذن فالأحلاف تنشأ للدفاع عن قيم مشتركة ومصالح أشمل من مصالح الحكومات كحكومات بمعزل عن قيم ومصالح الشعوب، ومرة أخرى فهذا ما كفل النجاح والصمود لحلف شمال الأطلنطي، وما مزق محاولات استنساخه في حلف بغداد أوالحلف المركزي، وغيره من التحالفات المفتعلة في حقبة الحرب الباردة، بما في ذلك حلف وارسو الذي أقامه السوفييت، ليس لمواجهة عدوان غربي محتمل، ولكن لضمان بقاء شعوب أوروبا الشرقية في الأسر السوفيتي. وإذن فليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما يصنع عنوانًا للعلاقات العامة يتضمن محتوى حقيقيًا.