الواقع يؤكد أن السنوات الأخيرة شهدت تطورًا ملحوظًا في أرقام وأشكال العنف الأسري في مصر. وقد تداخلت صوره وتنوعت، فشملت ما هو نفسي وجسدي ولفظي، وكذلك تنوعت أسبابه. وهو في تطوره هذا إنما يضع المراقبين أمام تساؤلات ضرورية حول أبعاد الظاهرة، وما آلت إليه خلال العام 2021.
العنف الأسري.. سؤال عن الماهية والكيفية
اصطلاحًا، يُعرف العنف الأسري بأنه ذلك الفعل الذي يرتكبه شخص ما في الدائرة المنزلية للضحية. وهذا يشمل الشركاء والشركاء السابقين وأفراد الأسرة المباشرين، والأقارب الآخرين وأصدقاء العائلة. وهو سلوك من شأنه أن يثير الخوف أو التسبب بالأذى الجسدي أو النفسي أو الجنسي أو الاقتصادي. وفي أحيان كثيرة يستدعي الحاجة إلى التدخل الطبي لعلاج هذه الآثار.
تعد الأسرة المصدر الأول والرئيس في تعلم الأفراد سلوك العنف. ذلك باكتساب المعايير والقيم التي تبين أن العنف هو الطريق الوحيد للحصول على ما يريدون. ومن هنا، يمكن تعريف العنف الأسري بأنه نمط سلوك عدائي ينشأ في ظل وجود علاقات غير متكافئة في إطار نظام يقيم العمل بين الرجل والمرأة داخل الأسرة. ما يترتب عليه تقسيم وتنميط للأدوار بين أفراد الأسرة. ذلك وفقًا لإملاءات النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد. والعنف بهذه الكيفية ليس مقتصرًا على الفقراء فقط، ولكنه يشمل كافة الثقافات والأعراف التي نشأ عليها المجتمع.
ويرجع العديد من الخبراء العنف الأسري إلى أسباب متنوعة، تستلزم جميعها مواجهة اجتماعية، ونفسية، وإعلامية، تركز على نشر الوعي. بالإضافة إلى قوانين رادعة تكبح هذا التفشي لهذا النوع من الظواهر المجتمعية.
حقائق عن العنف الأسري عالميًا
تحتل النساء النسبة الأعلى من ضحايا العنف الأسري، وإن كان الرجال وبخاصة كبار السن والأطفال يمكن أن يقعوا أيضًا ضحايا لهذا النوع من العنف.
وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، تتعرض حوالي 736 مليون امرأة في العالم للعنف البدني و/ أو الجنسي. وفي معظم الحالات، يُرتكب هذا العنف على أيدي الشركاء داخل المنزل. بل ويُرتكب 38% من جرائم قتل النساء على أيدي الشركاء.
كذلك، تشير التقديرات إلى أن مليار طفل ممن تتراوح أعمارهم بين سنتين وسبعة عشر سنة (أي نصف أطفال العالم)، تعرضوا للعنف البدني أو الجنسي أو النفسي أو للإهمال في العام الماضي.
وترجح منظمة الصحة أن الأسباب التي تؤدي لارتكاب الأشخاص العنف المنزلي ترجع إلى عدم المساواة بين الجنسين. إلى جانب الأعراف التقليدية التي لا تعارض هذا النوع من العنف. فضلاً عن التعرض للعنف في الطفولة أو التحكم القسري في فترة البلوغ، أو تعاطي الكحوليات والمخدرات التي تدفعهم لارتكاب مثل هذه الأعمال.
ويشير تقرير المنظمة إلى تفاقم هذه الأعمال عند تعرض مرتكبها للضغط العصبي، كما ظهر بوضوح في فترة الجائحة (كوفيد-19). إذ أدى عزل الأشخاص في البيوت بسبب كورونا إلى تفاقم مخاطر العنف المنزلي بشكل مأسوي خلال العامين السابقين. وتزداد هذه المخاطر بالنسبة للشابات والمراهقات والنساء المنتميات للأقليات والمتحولات جنسيًا وذوات الإعاقة.
في أغسطس 2021، حدد تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء أهم العوامل المسببة للعنف الأسري في مصر بشكل عام في 9 نقاط. وقد شملت تدني مستويات التعليم. فضلاً عن الاضطرابات النفسية للشخصية المعادية للمجتمع. وكذلك تعرّض الطفل لإساءة المعاملة في السابق. بالإضافة إلى مشاهدة العنف الأسري، وتعاطي الكحول والمخدرات. وأيضًا تدني فرص العمل المتاحة للمرأة. إلى جانب المعايير المجتمعية التي تمنح الرجل امتيازات أو ترفع من قدره وتحط من قدر المرأة. وتدني مستويات المساواة بين الجنسين (القوانين التمييزية، وما إلى ذلك). وزيادة البطالة داخل المجتمع المصري منذ بداية الجائحة كوفيد-19.
تطور بأشكال البوح في مقابل عنف مبارك من الجميع
في استعراض أشكال العنف الأسري داخل المجتمع المصري يشير باحثون إلى أن العنف لم يتغير في طبيعته، وإن كانت أساليب البوح به هي التي تطورت. ذلك مع لجوء المعنفين/ات لطرق مختلفة في سبيل المطالبة بالحقوق، بداية من الجهر والبوح عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وانتهاء بإجراءات قانونية مختلفة لمعاقبة الجاني.
كذلك، فإن تغيير تركيبة المجتمع نتيجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وأيضًا غياب الأمن داخل التجمعات الشعبية والمهمشة، أديا إلى ظهور عنف ذكوري مبارك من الجميع، ضحاياه الزوجة والأبناء، وفق ما يرى الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس. وهذا العنف الذكوري إنما يمثل آلية حماية لمكتسبات تشكلت عبر السنين، وباتت مهددة الآن بخروج الفتيات والنساء بشكل متزايد إلى التعليم والعمل، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
ولا يقف العنف الأسري داخل المجتمع المصري عند أتباع هوية ثقافية أو دينية محددة. وإنما هو نابع من موروثات مجتمعية تسيطر عليها الأعراف والتقاليد والسلطة الأبوية، والتي تظل مع ممارسي العنف حتى وإن هاجروا إلى دول متطورة وتقدمية. تقول السيدهم الباحثة بالمركز المصري لدراسات السياسات العامة ماريان سيدهم إن الأمر الذي يستلزم ضرورة تطوير أداء المؤسسات الدينية في معالجة هذه الظاهرة. ذلك من حيث الخطاب السائد والأدوات المستخدمة، انطلاقًا من أهمية الأسرة الصغيرة كنواة لمجتمع خال من العنف، الذي يُحمّل الأسرة والدولة تكاليف اقتصادية باهظة.
أرقام عن العنف الأسري داخل المجتمع المصري
أنشأت مؤسسة إدراك للمساواة والتنمية مرصدًا لحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات داخل محافظات مصر. وقد كشف تقريرها عن الربع الأول لعام 2021 (يناير – مارس) عن نسبة تقارب 38% من جرائم العنف الأسري، تنوعت بين قتل، وشروع في قتل، وضرب مبرح، وختان الإناث.
وطبقًا للتقرير، فقد تصدر معدلات القتل من قبل الأخ أو الزوج أو الأب دفاعًا عن الشرف، وبلغت 27.8%. بينما جاء الختان في المرحلة الأخيرة بنسبة 1.4 على الرغم من تكرار تغليظ العقوبات بنص المادة 242 عقوبات.
أما في الربع الثاني من عام 2021، فقد رصد التقرير وجود طفرة وزيادة مقلقة في معدلات العنف. ذلك بواقع 191 جريمة عنف خلال 3 أشهر بشكل عام. سجلت فيها جرائم العنف الأسري نسبة 39.7% من جرائم العنف ضد النساء والفتيات من قبل أسرهن. فيما تصدرت جرائم القتل لأسباب متنوعة أعلى نسبة 28.2%. وبحسب المؤسسة غالبًا ما يدعي مرتكب الجريمة أنه ارتكب فعلته بغرض الدفاع عن الشرف للحصول على أحكام مخففة.
أيضًا بلغت حالات الشروع في القتل نسبة 9.4%، أما حالات التشوية بالكيماويات والابتزاز فقد بلغت كل منهما 0.5%.
وفي الربع الثالث (يوليو – سبتمبر)، رصد التقرير حوالي 66 جريمة قتل للنساء والفتيات على يد أحد أفراد الأسرة، أو الزوج الحالي (السابق)، وكانت أعلاها في محافظة الجيزة. كما سجلت أعلى نسب هذه الجرائم في وجه قبلي، حيث بلغت 37 حالة قتل، منها 8 حالات قتل للنساء والفتيات تحت مسمى “جرائم الشرف”، اثنتان منها بسبب الخلاف على الميراث. بينما زادت خلال تلك الفترة معدلات جرائم العنف الأسري، وبلغت حوالي 46.6%. وقد تصدرت فيها معدلات جرائم القتل “بدافع الشرف” نسبة 27.7 %.
التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع ضد النساء والفتيات
وفقًا للبنك الدولي، يعد العنف القائم على النوع الاجتماعي ليس فقط مدمرًا للمتعرضين له ولأسرهم، ولكنه ينطوي أيضًا على تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة، وفي بعض الدول، فإن العنف ضد المرأة يكلف الدولة ما يصل إلى 3.7% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو أكثر من ضعف ما تنفقه معظم الحكومات على التعليم.
وبحسب آخر إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في 2015، فإن هناك أطفال لحوالي 300,000 أسرة تعاني من الاضطرابات النفسية بسبب العنف المرتكب على يد الزوج سنويًا، بينما يتغيب أطفال نحو 113,000 أسرة عن الدراسة بسبب العنف المنزلي على يد الزوج، ما يؤدي إلى فقدان 900 ألف يوم دراسي خلال العام.
وقد أوضحت الدراسات المنشورة على الصفحة الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أنه هناك حوالي مليون امرأة تترك منزل الزوجية نتيجة العنف على يد الزوج سنويًا، ما يؤدي إلى تكلفة قدرها 585 مليون جنيه مصري لإيجاد سكن بديل أو مأوى.
أيضًا، تشير الأرقام إلى زيادة في معدلات الإجهاض بنحو 3.5% بين النساء المعنفات مقارنة بغيرهن. وبين هؤلاء لا تصل منهن إلى أقسام الشرطة للإبلاغ سوى 75 ألف امرأة، ولا تسعى إلا 7000 منهن فقط للحصول على خدمات مجتمعية.
كما تفقد الدولة نصف مليون يوم عمل للنساء المتزوجات الناجيات من العنف و200 ألف يوم عمل للزوج سنويًا بسبب العنف الأسري.
من أجل قانون موحد لمناهضة العنف
في 2017، أعلنت 9 منظمات نسوية وحقوقية وناشطات نسويات مستقلة عن تشكيل “قوة عمل” من أجل قانون موحد لمناهضة العنف. ذلك بغرض تبني وطرح مشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء.
مشروع القانون هذا تضمن سبعة أبواب، تبدأ بتعريفات لأشكال من جرائم العنف المختلفة مستندة على التزام مصر بالمواثيق الدولية لحقوق النساء والدستور المصري. إضافة إلى إجراءات التقاضي. وكذلك تدخلات الحماية والوقاية المطلوب إلزامها بموجب القانون. وقد تم عقد العديد من الورش مع نائبة البرلمان السابق نادية هنري للوصول إلى الصورة الأخيرة من القانون. وأخيرًا تم عقد جلسة بين قوة العمل والبرلمانية نشوى الديب لمناقشة القانون في شكلة الأخير، ولا يزال المشروع دون إقرار أو رفض.
تقول الهام عيداروس، وقد شاركت كباحثة مستقلة داخل “قوة العمل”، إن القانون الحالي يعاقب على غالبية صور العنف الأسري في نصوص متفرقة. بينما تشير إلى محاولات متعددة لتقديم مقترحات موحدة خاصة بمكافحة العنف ضد النساء والفتيات. وقد بدأت منذ عام 2006، عندما أعلنت بعض منظمات المجتمع المدني عن خروجها بمشروع “لمناهضة العنف الجنسي”. والذي تضمن التعريفات الكاملة وآليات جديدة لمكافحة العنف. لكنه قوبل بالرفض في تلك الفترة. فيما استمرت المحاولات حتى تبنى عمرو حمزاوي هذا المشروع وتقديمة إلى برلمان 2012 الذي لم يوافق عليه أيضًا.