ما يجمع بين «مرزباخ»، و«الزمالك» معروف، فهو مؤسس النادي العريق، وأول رئيس له، أما ما يجمع «نجيب محفوظ» بالزمالك، فتلك قصة طويلة، تبدأ بأنه من مواليد السنة نفسها التي تأسس فيها النادي، السنة الأولى من العقد الثاني من القرن العشرين، أي منذ 111 سنة، تأسس نادي الزمالك في بداية العام، بالتحديد في 5 يناير 1911، وقبل نهاية العام نفسه وُلد «نجيب محفوظ» في 11 ديسمبر 1911، ولا تنتهي عند ذلك فصول الرواية، فالأديب الكبير له قصص تُروى مع كرة القدم، وأخرى تُذكر مع نادي «الزمالك».

«جورج مرزباخ» جاء إلى مصر بعد أن درس الحقوق في بلده بلجيكا، للتدرب على المحاماة مع صديق والده، أمام المحاكم «المختلطة» التي كان ينعقد لها الاختصاص بالنظر في القضايا التي تثور بين الأجانب أو بين المصريين والأجانب في زمن الاحتلال البريطاني، لكنه استقر في مصر حتى صار من كبار المحامين، واستطاع أن يحوز ثقة زملائه فتم انتخابه نقيبا للمحامين الأجانب، وذاع صيته وأصبح من القانونيين القلائل المقربين من النائب العام لدي المحاكم «المختلطة» وقتها البارون «فان دون بوش» الذي كان كثيرًا ما يسمع له ويأخذ بمشورته.

اندمج «مرزباخ» في حياته الجديدة في مصر، وكانت له علاقات مميزة في صفوف نخبة المجتمع، وتوطدت علاقته مع «البارون إمبان»، وكان بمثابة المستشار القانوني له إبان تأسيس وإنشاء «ضاحية مصر الجديدة»، وكان صديقًا مقربًا من «هوارد كارتر» وقد صاحبه هو وزوجته في رحلتهما إلى الأقصر التي تم خلالها الإعلان عن اكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون» عام 1922.

احتفظ «مرزباخ» بعلاقات مميزه مع دوائر الحكم العليا في مصر، ومنحه الخديوي «عباس حلمي الثاني» لقب «البكوية» تكريما له على المجهودات التي بذلها في تطوير القضاء المصري، إضافة إلى إسهاماته في النهوض بالرياضة المصرية، ومن بعد ظل «مرزباخ»، مقربًا كذلك من السلطان «حسين كامل»، وكثيرًا ما كان يدعوه إلى قصر «عابدين» في المآدب الرسمية أو يستدعيه للمشورة وإبداء الرأي، وظلت علاقته مستمرة بدوائر الحكم العليا في مصر، حتى صار محامي الملك «فؤاد»، في بعض القضايا.

**

إنشاء نادي «الزمالك» كان فكرة نبيلة من المستشار «جورج مرزباخ»، وكان وقتها يرأس أحد المحاكم «المختلطة»، وتؤكد روايات متعددة على أن الفكرة جاءت ردًا على تصرف استعلائي وعنصري قام به المعتمد البريطاني بمصر وقتها «لورد هيربرت كتشنر» الذي كان قد اعتمد سياسة عدم السماح بدخول المصريين إلى النوادي التابعة للجالية الإنجليزية، وهو الذي أمر بتعليق لافتة على مدخل نادي «الجزيرة» تحظر دخول غير الإنجليز إليه.

من هنا جاءت فكرة تأسيس نادي يفتح أبوابه للمصريين، والأجانب، وحاملي الجنسية البلجيكية، التي ينتمي إليها «مرزباخ»، وفي الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1910، في أثناء حضوره حفل عيد الميلاد على ضفاف نهر النيل رأى أن مكان استراحة شركة «الترام» التي استضافت الحفل، مناسبة كمقر لهذا النادي، الذي تم إطلاقه رسميًا يوم 5 من شهر يناير عام 1911.

**

في البداية سُمّى نادي «قصر النيل»، وذلك لكون مقر النادي في مواجهة نادي «الجزيرة»، بجوار أحد أكبر معسكرات الاحتلال الإنجليزي، ويسمى «ثكنات قصر النيل» ومكانه الآن فندق جامعة الدول العربية، وبعد ذلك انتقل النادي إلى مقره الجديد بالموقع الحالي لكل من نقابتي الصحفيين والمحامين و«دار القضاء العالي»، وبسبب قربه من المنطقة التي تقع فيها المحاكم «المختلطة»، تم تغيير اسمه، إلى نادي «القاهرة الدولي الرياضي» أو نادي «القاهرة المختلط»، وشاع اسم «المختلط» عليه، ومن بعد أطلق عليه اسم «نادي فاروق»، وأخيرًا وبعد قيام ثورة يوليو 1952 استقر على اسمه الحالي نادي «الزمالك».

استمر «جورج مرزباخ» رئيسًا رسميًا للنادي حتى 1915، وبدأت بعد ذلك رحلة تمصير النادي بعدما تداعى المصريون إلى الاشتراك في عضويته حتى صاروا أغلبية جمعيته العمومية وتم في 1917 انتخاب «محمد بدر» أول رئيس مصري، وثالث رئيس لنادي الزمالك.

**

حين تقرأ كتاب حياة «نجيب محفوظ» منذ الطفولة وحتى قرر أن يترك كل شيء خلف ظهره ويلتفت فقط إلى الأدب، تكتشف أنه وقف في صباه وشبابه الباكر أمام طرق كثيرة، على كل طريق لافتة تشير إلى محطة الوصول الأخيرة، كل طريق يتيح له فرصة أن يكون شخصًا آخر، له تاريخ مختلف، وفي كل فصل من فصول كتاب حياته كان مهيئا لكي يصبح شيئا آخر غير هذا «النجيب المحفوظ» الذي نعرفه ونحبه ونقدره، ونتفق جميعا على عبقريته الفذة وشخصيته الفريدة.

كان بالإمكان أن يمضي «نجيب محفوظ» في الطريق الذي تمناه له أبوه، وهو يسميه على اسم أشهر الأطباء في ذلك الوقت «نجيب باشا محفوظ» طبيب النساء والولادة الأشهر، وربما كان من حظنا أن يصبح لدينا فيلسوف كبير لو تيسر له أمر بعثته العلمية إلى فرنسا لدراسة «فلسفة الجمال»، وكان يمكن أن نفوز بموسيقي قدير لو أنه صبر على موهبته وراح يسهر على تنميتها، وهو الذي تعلم العزف مبكرا على «آلة القانون»، ودرس الموسيقى لمدة سنة في معهدها، ولكن الغريب في قصة حياة «نجيب محفوظ» أنه كان يمكن أن يصبح واحدًا من مشاهير الساحرة المستديرة.

**

قصة «نجيب محفوظ» مع كرة القدم، ومن بعد مع نادي «الزمالك» بدأت منذ الصغر، وكان الكابتن حسين حجازي (اللاعب الشهير الذي يسمى أبو الكرة المصرية)، هو الذي حبَّب إلى الصبي «نجيب محفوظ» لعبة كرة القدم، ثم كان هو السبب في أن يصير في شبابه من مشجعي «الزمالك».

كانت كرة القدم هي هوايته قبل أن يهوى الأدب، بدأت علاقته بالكرة منذ التحق بالمدرسة الابتدائية بحي العباسية الشهير، بالتحديد من اللحظة التي اصطحبه شقيقه لزيارة صديق حميم له، وهو الذي اقترح عليهما بعدما فرغا من تناول الغداء أن يشاهدوا معه مباراة في كرة القدم بين فريق مصري وآخر إنجليزي، وكانت الدهشة الأولى والفرحة الكبيرة حين انتهت المباراة بفوز الفريق المصري، يقول: «كنتُ أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنجليز لا ينهزمون حتى في الرياضة».

كانت الكرة هي الميدان الوحيد الذي يمكن للمصريين ساعتها أن يضربوا فيه الإنجليز دون أن يتمكن المحتلون من ضربهم بالنار، يقول محفوظ: «كثيرًا ما كنا نسحقهم سحقا، وكان قلب الدفاع في الفريق المصري هو المرحوم علي حسني، وهو من فتوات بولاق، وكان يضرب الإنجليزي بالكتف فيتدحرج على الأرض، ولم تكن ضربة الكتف تعتبر «فاول» في ذلك الوقت، كنا نجابه المحتلين في الكرة بلا خوف، وكانت النتائج تفرح الشعب كما تفرحه اليوم عندما يفوز فريقنا القومي، ولكن في الماضي كنا ننتصر على «الإنجليز»، أما اليوم فنحن ننتصر على «أحزاننا».

**

رجع الصبي يوم هزيمة فريق الإنجليز إلى البيت وذهنه كله معلق بكرة القدم، وبأسماء لاعبي الفريق المصري، خاصة كابتن الفريق «حسين حجازي»، نجم مصر ذائع الصيت في ذلك الوقت، وطلب من والده أن يشتري له كرة، وألحَّ عليه حتى وافق، وبدأ يقضي وقتًا طويلًا في فناء المنزل يلعب الكرة بمفرده، محاولًا تقليد ما شاهده في تلك المباراة التي خلبت عقله، يقول: «بسرعة شديدة استطعت أن أتقن المبادئ الأساسية للعبة كرة القدم».

ثم انطلق يلعب الكرة في الشارع، حتى صار أشهر لاعب كرة قدم في شوارع العباسية، ثم لعب في فريق الصغار بالمدرسة، وظل يلعب كرة القدم لمدة عشر سنوات سواء في فرق المدراس، أم ضمن فريق شارعهم الذي كان ينافس فرق الشوارع الأخرى بشكل دوري، إلى أن دخل الجامعة، وكانت سمعته الكروية تسبقه فعرضوا عليه أن يشارك في فريق الكلية، يقول: «لكني كنت قد عرفت طريق المكتبة بالجامعة فأخذتني القراءة من الكرة، وربما لو استمر بي الحال في مجال الكرة لكنت لاعبا مشهورا في أحد النوادي الكبرى».

**

الدكتور أدهم رجب الصديق المقرب إلى «نجيب محفوظ» وواحد من أصدقاء طفولته والذي أصبح أستاذا ورئيسا لقسم الطفيليات بكلية طب قصر العيني، يشهد بأن «نجيب كان لاعب كرة من طراز نادر، لو استمر لنافس على الأرجح «حسين حجازي» و«مختار التتش» ومن بعدهما «عبد الكريم صقر»، ثم «الضظوي»، وأقول الحق، وأنا أشهد للتاريخ، وأنا مدمن كرة، أقول: لم أر في حياتي حتى الآن، لاعبا في سرعة «نجيب محفوظ» في التحول من الدفاع إلى الهجوم، فقد كان أشبه بالصاروخ المنطلق. وكان هذا يلائم الكرة في وقت صبانا، وكان اللاعب القدير هو اللاعب الفرد الذي ينطلق بالكرة كالسهم نحو الهدف لا يلوي على شيء، كان عقل نجيب محفوظ في تلك الأيام في قدميه».

**

«حسين حجازي» كان له أثر كبير على حياة نجيب محفوظ في صباه وشبابه، أحبه وعشق كرة القدم بسببه، وظل يتحدث عنه بعد مرور السنين بحميمية ومحبة ظاهرتين، يقول: «كان أسطورة سمعت عنها، ثم صار حقيقة رأيتها، وكان ذلك في أواخر حياته الكروية قبل الاعتزال، ونظرًا لشعبيته الرهيبة، وموهبته الفذة ظل يمارس اللعب حتى شارف الأربعين من عمره، وهي سن كبيرة بالنسبة للاعبي كرة القدم، ففي الغالب يعتزل النجوم بعد تخطي سن الثلاثين بقليل، وكان هو كابتن الفريق المصري كان قد لعب في أولمبياد سنة 1928 ونالت مصر المركز الرابع».

وكان «نجيب محفوظ» يطلق على «حسين حجازي» لقب «المايسترو»، كان له ثقله في الملعب، يقوم بدور القائد أثناء المباريات خير قيام، كما أن لعبه كان نظيفًا، فلم يحدث أن ارتكب خطأ متعمدا ضد لاعب من الفريق المنافس، وقد أعجبته قوة تسديداته، يقول: «كان يسدد الكرة من منتصف الملعب فتدخل المرمى، ولا أنسى أنه كانت هناك ضربة لصالحنا، ولم تكن هناك دائرة في وسط الملعب كما هو الحال اليوم، فضربها «حسين حجازي» من قبل خط الوسط فدخلت المرمى على الفور، مثل هذه اللعبات الفذة كانت بالنسبة لحسين حجازي شيئا عاديا».

في أول مباراة بين الأهلي و«المختلط» بعد أن أنضم إليه عدد كبير من اللاعبين الذين اختلفوا مع النادي الأهلي فخرج منه حسين حجازي والسوالم وأباظة ومرعي، وذهبوا إلى «فريق المختلط» حرص «نجيب محفوظ» على أن يكون في الملعب ليشاهد المباراة مع شقيقه الأكبر، يقول: «كانت مباراة العمر، كنا جميعا نتابعها بأعصابنا قبل عيوننا، وكنت أخشى أن ينهزم «حسين حجازي» من الأهلي في هذه المباراة بالذات، وأعترف أنني من شدة انفعالي كان يمكن أن أموت لو حدثت الهزيمة».

**

انقطعت صلة «نجيب محفوظ» بكرة القدم لاعبًا منذ بدأت هواية الأدب تأخذه منها، ثم انقطع عنها مشاهدا بعد اعتزال نجمه المفضل «حسين حجازي»، أخذه الأدب من كرة القدم، بعد أن استمر لمدة عشر سنوات يمارسها بحماس وولع، لكن الأيام لم تستطع أن تأخذ منه محبته وولعه بالكابتن «حسين حجازي» نجم مصر وناديي الأهلي والزمالك الذي رسخ أولى قواعد الاحتراف باللعبة في مصر، وكان أول من انتقل بين قطبي الكرة المصرية، إضافة إلى كونه من أوائل المحترفين بالخارج، وبسببه صار «نجيب محفوظ» زملكاويا الذي يؤكد أن «انتماءه للزمالك انتماءٌ تاريخي، بدأ مع انتقال حسين حجازي إليه».

كان «حسين حجازي»، وظل أيقونة نجاح بالنسبة إلى «نجيب محفوظ»، وأسطورة كرة القدم المصرية، حتى إنه تمنى في يوم من الأيام أن يكون ابنه، وهو يذكر أنه أثناء عمله في وزارة الأوقاف أن قابله شاب عرفه بنفسه على أنه ابن «حسين حجازي»، يقول: «فصافحته بحرارة شديدة، وقلت له: تعالى لما أبوسك، دا أنا صفقت لأبوك لما إيدي اتهرت».

في ذكرى مرور 111 سنة، تحية إلى أرواحهم جميعًا، إلى روح المؤسس «جورج مرزباخ»، وإلى روح فيلسوف الرواية الزملكاوي الأشهر «نجيب محفوظ»، وإلى الأسطورة الكروية «حسين حجازي»، ويبقى «الزمالك» العنوان الرسمي والمحل المختار لمدرسة الفن والهندسة، وأحد قطبي الكرة المصرية مع النادي الأهلي العظيم.

**