تواجه المبادرة التي يشرع في الاضطلاع بها رئيس البعثة الأممية في السودان فولكر بيرتس تحديات ليست بالقليلة، ربما يكون من المطلوب اجتيازها في فترة لابد وأن تكون قصيرة، نظرا لدقة الموقف الراهن على المستويين السياسي والاقتصادي في السودان.

أول هذه التحديات، هو دعم البعثة الأممية، ومعها معظم العواصم العالمية والإقليمية لاتفاق 21 نوفمبر بين رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ورئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، فبينما انطلق المجتمع الدولي من أن هذا الاتفاق منصة مناسبة للتفاهم السياسي السوداني، فإن القوى السياسية السودانية قد وجدته دعما لانقلاب كامل الدسم، واستطاعت بالفعل إسقاط هذا الاتفاق عبر تحريك الشارع السياسي ضده، والإصرار على أنه لا شراكة مع المكون العسكري بشخوصه الراهنة في المجلس السيادي بعد أن انقلبوا على معادلة أغسطس 2019، ومن هنا، فإن فولكر يبدأ عمله وهو محمل بعبء كبير أصبح مطالبا معه أن يوضح حقيقة موقف البعثة الأممية من المكون العسكري وطبيعة وزنه في المعادلة المستقبلية التي يسعي فولكر ومن خلفه كل من بريطانيا والولايات المتحدة لبلورتها.

وبطبيعة الحال فإن ممارسة العنف المفضي إلى قتل الشباب في المظاهرات وتجدد نهر الدم، من أهم الأمور التي تعد تحديا قويا، وتتطلب معالجات حكيمة من جانب فولكر، خصوصا وأن الدم المهدور يدفع نحو رفع مستوى الاستقطاب السياسي، حيث يتم التعبير عن ذلك بشعارات لا تقبل الحلول الوسطى خصوصا من جانب لجان المقاومة، والقطاعين الشبابي والنسوي الذين يعدان القطاعين الملامسين يوميا لمآسي إنسانية تشعل الصدور وترفع مستويات الغضب والأسى معا، ولعل مظاهرات الأمهات التي تجوب شوارع الخرطوم  لتدمي المشاعر والإنسانية تشكل أعلى دوافع التمترس السياسي لدى لجان المقاومة خصوصا.

وقد يكون طرح فولكر بأنه لا يحمل مسودة مسبقة لأي اتفاق يطرحها على الأطراف السياسية والعسكرية السودانية مناسبا تماما للوضع السياسي في السودان راهنا، ولكن هذه المشاورات قد تجعل البعثة الأممية حائط مبكى للجميع ضد الجميع، على النحو الذي شهدناه على الفضائيات خلال الأيام الماضية، وذلك من حيث ممارسة التراشق السياسي، وكيل الاتهامات بين الأطراف ضد بعضهم البعض، وطبقا لهذه الحالة فإن اقتراح المائدة المستديرة الذي ربما يكون في ذهن فولكر قد لا يكون مناسبا للحالة السودانية، بل إن هذه الآلية قد تكون سببا في انقسامات جديدة ومزيد من التشظي، وخصوصا وإن آلية المائدة المستديرة مستلهمة من تاريخ سوداني أصبحت معطياته غير موجودة لسببين: الأول، حالة الاستقطاب الحاد بين الأطراف، ثانيا، وجود جيوش الحركات المسلحة في الخرطوم، بما يفرضه ذلك من ضرورة وضع آليات جديدة.

في هذا السياق ربما يكون موقف الأطراف السودانية من المبادرة الأممية جدير بالنقاش، لاستباط ربما مستقبلها ومصيرها تحت مظلة الدعم الخارجي والنزاع الداخلي.

في الساعات الأولى من طرح المبادرة وجدت ترحيبا من كل الأطراف داخليا وخارجيا ولكن بعد مضي عدة ساعات بدأت الأطراف الداخلية حساباتها، وأيضا تحركاتها على الأرض.

وقد بدا المكون العسكري الأكثر حذاقة في ترحيبه بالمبادرة الأممية، والأكثر فعالية في فرض معطيات المشهد الجديد، وأيضا الأكثر إدراكا لأهمية عنصر الوقت حيث طالب بإدماج الاتحاد الأفريقي في المبادرة الأممية، بما يعني ضمان ممارسة الأطراف الأفريقية ضغوطها طبقا لثقافاتها السياسية، التي لا يشكل الانحياز للديمقراطية فيها تراثا عميقا ولا التزاما مبدئيا، كما ستظهر حاجات دول الجوار في الاستقرار السوداني بوزن أعلى، من الالتزام بمطالب الشارع السوداني في تأسيس حكم مدني، وانتقال ديمقراطي، من هنا استقبل الفريق أول شمس الدين الكباشي، عضو المجلس السيادي غداة طرح فكرة إدماج الاتحاد الأفريقي في المبادرة الأممية سفير الاتحاد في السودان السفير محمد بلعيش، وذلك فضلا عن صدور قرار من المجلس السيادي بتعيين مالك عقار عضو المجلس السيادي مندوب اتصال بين المكون العسكري والقوى السياسية المدنية بشأن مناهج التفاعل مع المبادرة الأممية في الفترة المقبلة.

وطبقا لهذه الفاعلية فإن التخلي عن الشخوص الراهنة في المجلس العسكري، من جانب الجانبين الأممي والأفريقي قد يواجه عقبات، خصوصا مع وجود دعم إسرائيلي لاستمرار البرهان باعتباره بطل السلام الإبراهيمي مع تل أبيب، التي قد تتخوف من عدم التزام شخوص بديلة بهذا الاتفاق.

أما على مستوى القوى السياسية، فإن القوى المحركة للشارع الممثلة في كل من لجان المقاومة وتجمع المهنيين قد بلورت موقفها في  حجب الشرعية عن شخوص المكون العسكري في المجلس السيادي، بينما يبدو موقفها من مؤسسة الجيش الرسمي ضبابيا بعض الشيء، ربما بسبب متطلبات التحريض والحشد لمليونيات ومواكب الشوارع التي تستهدف إزاحة رموز انقلاب 25 أكتوبر.

أما على مستوى قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة، المجلس المركزي فإنها قد اتخذت قرارا إيجابيا بشأن ممارسة نوع من التفاعل مع العواصم الإقليمية والعالمية بشأن توضيح موقفها من المبادرة الأممية، وإن كنت أشك أنها تملك تصورا منهجيا عن الفترة المستقبلية، وأغلب الظن أن هذا التفاعل سوف يطرح عدم إمكانية قبول رموز المكون العسكري في المجلس السيادي، ويقف عند هذا الحد.

وفي سياق مواز، يمارس الحزب الشيوعي السوداني نوعا من التصعيد غير المطلوب في هذه المرحلة الحرجة، والذي قد يساهم على نحو فعال في عدم تعاطي المكون العسكري مع فكرة التراجع عن واجهة المشهد السياسي السوداني، حيث يطالب الحزب بفتح ملف شخوص المكون العسكري على منصة الجنائية الدولية، وهو ما قد يشكل سببا للتمترس ومقاومة أي حلول من جانب المكون العسكري للمعادلة السياسية المأزومة أصلا في السودان.

في هذا السياق، ربما يكون المطلوب في تقديرنا من فولكر بيرتس المبعوث الأممي القفز على مناهج الأمم المتحدة الكلاسيكية، والقفز نحو معادلات عملية لحل الموقف، من هنا فإن إجراء مشاورات سريعة لا تستغرق وقتا قد يكون هاما، خصوصا مع خبرته التي تراكمت خلال أكثر من عام بطبيعة التعقيدات ومواقف الأطراف، وقد يكون التفكير في طرح هياكل انتقالية جديدة مهما وأيضا مطلوبا، فمثلا يمكن إلغاء وجود المجلس السيادي أصلا، وتشكيل حكومة تسيير أعمال تنفيذية من التكنوقراط حتى نهاية الفترة الانتقالية، يكون الجيش السوداني ممثلا فيها عبر منصب وزير الدفاع، بينما يتم تمثيل الأمن الداخلي بوزيري للداخلية والمخابرات، تكون مهامها تنفيذ اتفاق جوبا والترتيبات الأمنية، وكذلك تسيير الأمور الاقتصادية. في هذه الحالة يكون جهد فولكر الأساسي هو السعي نحو بلورة توافق القوى المدنية بكل مكوناتها على أسماء رئيس الوزراء والتكنوقراط من غير السياسيين لتولي مهام الوزراء.

هذه الخطوة في تقديرنا قد تنجي السودان من تراجع مستوى معيشة الناس، بما يعني تراجع مستوى السخط والغضب الذي هو وقود يومي للتظاهرات، كما يساهم في استئناف البرنامج الدولي لمساعدة السودان اقتصاديا، والمضي قدما في جداول إلغاء الديون.

على المستوى الدولي، فإن عدم صدور بيان عن اجتماع مجلس الأمن المتوقع بشأن الأزمة السودانية لا يعني في تقديرنا تصاعد الخلافات الصينية الروسية من جانب والأوربية من جانب آخر، فمصالح الجميع تتواضع عند ضرورة الخروج من المأزق السوداني الراهن، وضمان عدم انزلاقه إلى مواجهات مسلحة بين الأطراف، خصوصا مع وجود أطروحات قد تكون محدودة على وسائل التواصل الاجتماعي، تنادي بأنه لا سبيل لإزاحة العسكريين عن المشهد إلا بالعنف المسلح.