تتصدر كلمة “العيب” المشهد اللغوي العام. فما يحكم سلوك الغالبية هو منطق العيب والحرام. كثير من السلوكيات والكلمات والتفاصيل يتم رفضها تحت شعار “عيب”، وليس هناك مرجعية للأمر. لم يقف أحد ليسأل ليه عيب؟ وغالبًا من يقف ويسأل لا يجد إجابة، ويتم التعامل معه بكونه متجاوزًا.

ما بين الخصوصية والعيب

كل شيء قابل للحكي بدءًا من الأمور العظيمة، حتى ما يدور داخل غرف النوم. المصريون حكاؤون، يتداولون كل شيء، قد يحكون من الغُلب أو الشكوى، أو السخرية. وبينما كل شيء يُحكى، تنمحي فكرة الخصوصية.

الكثيرون لا يعرفون حدود خصوصيتهم أو خصوصية الآخرين، ولذلك تحدث الكثير من المشاكل. إنه سوء التقدير، فإتاحة الأمر أو الحديث عنه أمر تقديري يعود للفرد الذي يملك الحكاية في اللحظة الحالية. وهذا الذي يملك الحكاية (شفاهية أو صور أو فيديو) يتعامل معها بوصفها مادة لاكتساب شيء ما قد يكون راغبًا للفت الانتباه، كسب التعاطف، إثارة غضب السامعين، كسب المال.

هناك دومًا مكسب من ترويج الحكاية، دون النظر إلى خصوصيتها وحق أطرافها في إتاحة ما يخصهم للآخرين من عدم رغبتهم في ذلك.

الحكاية دومًا تلعب دور عجلة الحظ التي تُدر مكسبًا على الراوي. فهل فكر الراوي في الخصوصية؟ المرجعية في الحكي هو مبدأ العيب. وهنا يُصبح الراوي وكأنه يمتلك كنزًا لأنه يملك حكاية عيب تتحكي، ويتم تداولها كونها سرًا. وهو ما يرفع من ترويجها وعدد العارفين لها. فالغالبية لا يحترمون فكرة الخصوصية وحق بطل الحكاية في ترويجها أو عدم فعل ذلك.

العيب

هو سيف له من البطش قوة القانون والأحكام الدينية. بل أنه أحيانًا يكون للعيب تأثير أقوى من القانون والدين. فموقع الفعل من سيف العيب هو ما يحدد صلاحية الفعل من عدمها. ولذلك ترتفع هذه الكلمة فوق كل تقييم، وتعتبرها الجماعة الشعبية أقوى تأثيرًا من أي شيء آخر. بل تُصبح قانونهم الفاعل والمؤثر.

هل الرقص عيب؟

بدأ الرقص كطقس ديني، واستمر كذلك. لكنه خرج من المعابد ليُصبح من طقوس البهجة للبشر. وإذا نظرنا إلى المجتمع المصري سنجد أن كل منطقة لها طريقة في الرقص. وهو ليس حكرًا على النساء، فكل من النساء والرجال يرقصون ويعبرون عن فرحتهم بالرقص.

دعونا نُفتش في أي منطقة في مصر سنجد لها رقصتها الخاصة وطريقتها في الرقص. البدو في سيناء غيرهم في مطروح غيرهم في سيوة والواحات. كذلك رقصات المدن الساحلية غير الريف والصعيد والنوبة. إذن نحن نتحدث عن فعل يمارسه الجميع فأين تكمن المشكلة؟

تُخضع الجماعة الشعبية طقس الرقص لسياقات محددة وتقبله في هذه المواقف، وتحاول نسيان الموقف بعد ذلك، ونسيان كل ما يخص الحدث. فهناك مزاوجة بين الرقص والعيب. ذلك أن الوعي الجمعي يربط الرقص بالغوازي، والغازية هي تلك التي احترفت الرقص وقدمته لمن يدفع مستغلة مفاتنها كأنثى.

هنا تكمن المشكلة، فالعامة تقبل الرقص كطقس فرح وبهجة خاص بالعائلة أو المقربين، وحين ينتشر ويصبح للجميع تُجرمه وتراه عيب وما يصحش. عندما يُفتش كل فرد في هذا المجتمع في تاريخه سيجد نفسه مارس الرقص، لا أحد على الإطلاق لم يفعل مهما كان عمره أو أيدولوجيته أو دينه أو تعليمه، الجميع رقص، ولأن فكرة العيب تكمن في اللاوعي هناك من ابتعد عن ممارسة طقس البهجة من باب العيب.

ولأن الراقصة والتي تكونت حولها الحكايات والأساطير من كونها تقديم مفاتنها مقابل المال، تغوي الذكور، بلا وازع أخلاقي، فإن الغالبية أصبحوا يرون الراقصات فئة دُنيا، ومكانة أقل مهما بلغت شهرة الراقصة، وينظرون لها بنظرة تقتطع من تقديرها وتقدير ما تقدمه. وربما لذلك يقبل الناس الرقص في حدث وفق سياق فرح، في حين يرفضونه في العام.

هوس النشر والإذاعة

من تابع حلقات الكاميرا الخفية للفنان الراحل إبراهيم نصر، سيجده في بعض الحلقات يسأل ضيفه نذيع؟ كان سؤال إبراهيم نصر قد نشأ من حالة رفض للإذاعة بدون موافقة الأطراف. ولعل ذلك السؤال كان يكشف عن أهمية أن يوافق الأطراف على نشر ما يشاركون فيه. وهو ما نعرفه الآن بقانون الملكية الفكرية.

المشكلة الحقيقية نشأت مع مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة تطبيقات مثل سناب شات وتيك توك وغيرها من التطبيقات التي تقدم مقابل مادي لصاحب الفيديو الأكثر مشاهدة، فبات كل شيء متاح. سقط العيب والحق وكل القيم التي يصنع منها الغالبية سيوفًا على رقاب من حولهم. لكنه أمام هوس أن يحصل على المشاهدات يسقط كل ذلك.

هل حقق فيديو معلمة المنصورة المشاهدات المرجوة؟

الرحلات طقس عادي ومعروف، وفي الرحلات يرقص الجميع، وربما تنافست الفتيات في إظهار مهاراتهن في الرقص. كل ذلك معروف سلفًا، وليس بجديد، الجديد هنا هو تصوير المعلمة التي ترقص والجمع بين الرقص ومهنتها ثم النشر. إنها حمى الترند والمشاهدات التي ستفسد حياتنا تدريجيًا. فمن نشر بحث عن الإثارة والترويج، ووضع الكلمات التي تُلهب المشاعر “معلمة ترقص”. لم يقل معلمون، وكان في الفيديو عدد من الرجال، ذلك لأننا تربينا أن الأنثى هي التي تدفع كل الفواتير حتى تلك التي لم تختارها أو تفعلها.

لو أن مصور الفيديو كتب عنوان المصريون في رحلة لم يكن سيجد المشاهدات التي يرغبها. لقد بحث صاحب اللقطة عن المكسب، ولم يراعِ حق الآخرين في أن ينشروا الفيديو أو لا.

هنا، ظهر التجريم للمرأة التي ترقص تحت منطق العيب. كنت سأنضم للحاكمين عليها لو أنها كانت ترقص في الفصل أثناء عملها كمعلمة، لكن اقتطاع الأحداث من سياقها هو الكارثة الحقيقية، أمر أشبه باقتطاع جزء من الآية “فويل للمصلين” دون أن نستكمل باقي الآية، وهو ما تم.

نصب الغالبية أنفسهم كجلادين ومنفذين لأحكام قانون العيب، فكما ذكرت بعض المواقع قام زوج المعلمة بتطليقها، وفُصلت من عملها، فهل قام الرجال الذين كانوا يرقصون بتطليق زوجاتهم؟ وهل فُصلوا من أعمالهم؟

هذه الواقعة تضعنا أمام عدد من التساؤلات:

متى تتم مراعاة خصوصية وحقوق الآخرين في إذاعة ونشر ما يخصهم؟

متى يتم المعاملة بالمثل بين الرجل والمرأة في نفس الواقعة؟

إلى أي مدى سيأخذنا هوس جمع اللايكات والمشاهدات؟

وحتى نقف على إجابات فإن رعب أكثر من هذا سوف يجيء للأسف.