في مارس/آذار من عام 2021 وقع صندوق مصر السيادي، اتفاقية مع مجموعة “جیمس مصر” للتعلیم، لتطویر وإدارة مدرستين غرب القاهرة، مستفيدًا من أصول الدولة المنقولة إليه. ذلك بغرض تفعيل استراتيجيته الهادفة إلى تعظيم العائد من تلك الأصول. والهدف هو تدشین مدرستین بطاقة استیعابیة 2500 طالب لكل منھما، على مساحة 30 ألف متر مربع.
بالتزامن مع تلك الخطوة، أعلن الصندوق السيادي تشاركه مع المجموعة المالیة ھیرمیس في “صندوق التعلیم المصري”، المُدار من قبل الأخيرة، في اكتتاب بقیمة تتجاوز 250 ملیون جنيه.. وكانت تلك الخطوات الأولى.
مع حلول نوفمبر/تشرين الثاني من ذات العام، أي بعد 7 أشهر تقريبا، وصلت شراكات الصندوق في قطاع التعليم إلى 4 شراكات مع شركات تعليمية مختلفة. وكان آخرها إطلاق مدرستين جديدتين في القرية الكونية بإجمالي استثمارات تبلغ 350 مليون جنيه.
الرئیس التنفیذي لصندوق مصر السیادي، أیمن سلیمان، أكد أن قطاع التعلیم في مصر يعد “قطاعًا واعدًا ومستقرًا”. ما یوفر مقومات جاذبة للمزید من رؤوس الأموال المحلیة والدولیة خلال المرحلة القادمة”. بينما يعبر عن توجه الدولة في الوقت الحالي في هذا القطاع.
أي طبقة وسطى؟
يشدد سليمان في أكثر من تصريح على أن الاستثمار في المجال التعليمي موجه إلى الطبقة المتوسطة. وأن الصندوق يسعى إلى تقديم أفضل الخدمات التعليمية بجودة تراعي المعايير العالمية وبتكلفة مناسبة للأسر متوسطة الدخل.
ولكن من الصعب تخيّل أن مدرسة واحدة قيمة الاستثمار فيها تُقدّر بـ 175 مليون جنيه ستكون أسعار مصاريفها مناسبة للطبقة المتوسطة المصرية التقليدية. أو ربما هي ذات الطبقة المتوسطة المُستهدفة، التي تحدث عنها رجل الأعمال ياسين منصور لشراء فيلا بـ4 مليون جنيه.
اقرأ أيضا| ثقافة الكومباوند تطارد الطبقة الوسطى
يشير سليمان، الذي كان مخططًا استراتيجيًا في شركة أوراسكوم وأحد صانعي أرباحها الضخمة، في اجتماع مع رئيس الوزراء، إلى تولي الصندوق إنشاء مجمع تعليمي يتضمن جامعة، ومجمع مدارس، ومجمع رياضي. ذلك بالإضافة إلى سكن للطلاب والمدرسين، ومتنزهًا ومناطق خضراء، ومسرح، ومنطقة تجارية. مع إعادة استغلال المدينة العلمية الاستكشافية في إقامة مجمع تعليمي ترفيهي.
خطوات الصندوق السيادي جديرة بالملاحظة
تبدو خطوات الصندوق للاستثمار في التعليم جديرة بالملاحظة، في الوقت ذاته الذي يعلو فيه الحديث عن تراجع الخدمات العامة التعليمية. ويُلقي وزير التربية والتعليم باللوم دائمًا على موازنته الضعيفة. يقول إنها لا تساعده -بالفعل- على التوسع في بناء المدارس مع الكثافة الطلابية المرتفعة في الفصل الواحد. أو تعيين عدد جديد من المُدّرسين ليلجأ إلى نظام التطوع ذو العشرين جنيها في الحصة الواحدة.
الوزير طارق شوقي قال سابقًا أمام أعضاء لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، في الاجتماع المخصص لمناقشة موازنة وزارته إن “كل ما نطلبه من مبالغ مالية نحصل على ما هو أقل منه، وأعداد الطلاب تتضاعف، ووضع المناهج وتأليفها يكلفنا ملايين الجنيهات”. وأضاف: “لو أردنا أن يستمر التطوير يجب أن نضخ أموالاً، ولو ما أخدناش اللى عايزينه المرة دي، مشروع تطوير التعليم هيقف، ودا مش تهديد، عايزين 11 مليار جنيه فوق المعتمد من المالية، مش هكمل من غيرهم، والوزارة هتقفل”.
ووفق مقال سابق للكاتب الصحفي محمد سعد عبد الحفيظ على “مصر 360” فإنه وتماهيًا مع التوجهات السائدة، كشف الوزير دون أن يدري أو متعمدًا، عن نوايا تضرب أساس مشروعية الجمهورية التي تأسست قبل نحو 70 عام. هي نوايا تنسف ما تبقى من إرث دولة يوليو. وذلك حينما تساءل خلال حديثه في لجنة التعليم بالبرلمان قبل شهور عن ضوابط التعليم المجاني “التعليم المجاني لمين، للكل ولا لمن يستحق؟”، قالها شوقي في سياق حديث عابر.
“حديث شوقي العابر عن مستحقي التعليم المجاني، يتسق مع توجهات الحكومة بالوصول إلى الدعم الذي تقدمه الدولة للمواطن في شكل سلع وخدمات إلى حده الأدنى، ويُمهد لأفكار طرحت على استحياء عن تقسيم المواطنين الذي يحصلون على تعليم مجاني إلى شرائح تحصل كل شريحة على قدر من الخدمة التعليمية يتناسب مع ما تدفعه من مصروفات”، بكلمات عبد الحفيظ.
الصحة تحت أنظار الصندوق السيادي
التعليم ليس القطاع الوحيد الذي يوجه الصندوق أنظاره نحوه. فالمدير التنفيذي تحدث أن الصندوق يبحث عن فرصة لتحقيق مكاسب استثمارية، أيا كان هذا القطاع. وأوضح أنه لا يُشترط أن يكون للصندوق الحصة المالكة من الأسهم -ما يسمح بتولي الإدارة. وإنما قد يكتفي بنسبة قليلة من الأسهم. المهم أن يحقق هذا القطاع ربحًا.
وبحسب تعبيره فـ “الصندوق كيان ينحاز تمامًا لمشاركة القطاع الخاص ومستهدفات التنمية المستدامة لمصر من خلال العمل على استدامة وتعظيم الربحية والموارد الاقتصادية”.
وهنا تظهر الخدمات الصحية كوجه آخر يمكن أن تتحقق فيه هذه الربحية.
وحول استثمارات صندوق الخدمات الصحية والصناعات الدوائية، وهو أحد الصناديق الفرعية المتعددة للصندوق السيادي، أوضح سليمان أنه يسعى في قطاع الصحة إلى الاستفادة من أصول الدولة. ذلك لإتاحة الخدمات الصحية وزيادة عدد الأسرة المتاحة بالتزامن مع تحسين جودة خدمات الرعاية الصحية. فضلاً عن الاستثمار في مستشفيات عامة ومتخصصة مختلفة، وتطوير قطاع الرعاية الصحية عن طريق الشراكة مع القطاع الخاص.
والحديث عن قطاع الصحة الحكومي مشابه أيضًا للحديث عن أوضاع التعليم، في ظل تدني المخصصات المالية بالموازنة العامة للدولة، مع زيادة أعباء الأطقم والكوادر الطبية؛ بسبب تدني الأجور والخدمات الحكومية.
وتخالف مخصصات وزارة الصحة في الموازنة الاستحقاق الدستوري، الذي يشترط بلوغها 3% من الناتج القومي الإجمالي. بينما حددت موازنة العام المالي الجديد 2021/2022، مبلغ 108.8 مليار جنيه لقطاع الصحة، تمثل حوالي 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
اقرأ أيضا| منظومة الصحة في مصر.. اختراق محدود لأزمات مزمنة
ما هو المخطط للمياه؟
والمياه أيضًا جزء من هذه الخطوات المتسارعة لتعظيم الاستفادة من أصول الدولة وزيادة أرباحها. ويخطط المسؤولون لإنشاء 17 محطة جديدة تعمل بالطاقة الشمسية وغيرها من المصادر الخضراء. حيث يتم بناء كل منها وتملكها وتشغيلها من قبل الصندوق السيادي. ذلك بالشراكة مع مجموعة من المستثمرين المحليين والأجانب، وفقًا لما قاله الرئيس التنفيذي سليمان، في مقابلة مع “بلومبرج”.
ويلفت سليمان إلى نقطة غاية الأهمية. وهي أن تلك الاستثمارات سيكون للصندوق فيها حصة الأقلية. “مصر حريصة على بناء قاعدة تكنولوجية مستدامة للسيطرة على مصيرها عندما يتعلق الأمر بالأمن المائي. الصندوق يستهدف الحصول على حصة أقلية في جميع المحطات إلى جانب مقدمي العروض الفائزين”. ما يعني تقديم المياه “بأسعار تنافسية” بحسب قوله.
وتحتاج مصر إلى حوالي 114 مليار متر مكعب من المياه كل عام لتلبية احتياجات أكثر من 100 مليون نسمة. ولا تحصل إلا على حوالي نصف ذلك من المصادر الطبيعية، وفقًا لوزارة الري. وهي تعالج النقص بخطوات تشمل إعادة تدوير مياه الصرف الزراعي والمياه الجوفية واستيراد أغذية إضافية بدلاً من ري المزيد من المحاصيل.
وذكر سليمان أن المحطات السبعة عشر، التي تهدف إلى إنتاج 2.8 مليون متر مكعب من المياه المحلاة يوميًا، هي جزء من خطة أوسع لإضافة 6.4 مليون متر مكعب من الطاقة اليومية بحلول عام 2050.
ما بين البيروقراطية والتشريع: فلسفة الصندوق السيادي مغايرة
يشرح الصندوق الكثير عن فلسفة الدولة في التعامل مع جهازها البيروقراطية، الذي يُنظر إليه على أنه ضعيف وعاجز ومليء بالتقييدات. وبالتالي استحداث جهاز إداري جديد وموازٍ يتمكن من تحقيق نمو اقتصادي.
ويرى عمرو عادلي، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن الصندوق أقرب إلى أن يكون جهة إدارية جديدة منها إلى صندوق سيادي. ويُؤمل أن يعرف المستثمر التعامل معه. وهو “مزيج بين وزارة الاستثمار ووزارة قطاع اﻷعمال لكن له ولاية قانونية أوسع”.
وبتعبير عادلي، فإن عملية “إعادة الترتيب اﻹداري” هذه ترتبط بإيجاد وسائل إدارية تسهل التعامل مع المستثمرين، عبر جهة إدارية تتمتع بولاية قانونية كبيرة، وتعمل كذراع ممركزة تتصل مباشرة بالسلطة التنفيذية وتملك من الموارد ما يتيح لها اتخاذ قرارات استثمارية.
على جانب آخر، يعبّر الصندوق السيادي عن فلسفة التشريع المتبعة في الأعوام الأخيرة. وهي قائمة على استحداث المزيد من الصناديق “المغلقة” (كصندوق تحيا مصر وصندوق الوقف الخيري). والتي لا يُعرف حجم أموالها بشكل شفاف وكذلك أوجه إنفاقها. وهو ما توفره البنود التشريعية في قوانين تلك الصناديق من غياب للرقابة البرلمانية والقضائية.
وأعفى القانون المعاملات البينية للصندوق والكيانات المملوكة له بالكامل من كافة الضرائب. ولا تسري هذه اﻹعفاءات على توزيعات اﻷرباح أو الصناديق الفرعية أو الشركات التي يساهم فيها الصندوق دون أن يمتلكها بشكل كامل.
بل أن الصندوق السيادي مُحصّن كذلك من الطعن في عقوده.
تحرير من المساءلة يتصادم مع الدستور
يسلط المحامي طارق عبد العال الأضواء على تلك الجزئية، في مقاله المنشور على “مصر 360”. يوضح أن قانون الصندوق المصري في مادته الخامسة قد اعتبر المال المملوك للصندوق ضمن أملاك الدولة ملكية خاصة. وهو الأمر الذي يبيح للصندوق حرية التصرف في تلك الأموال على اختلاف أنواعها بكافة أشكال التصرف أو الاستعمال أو الاستغلال.
ويضيف “إذا ما أضفنا إلى أنه لا يوجد ما يحجب سلطة رئيس الدولة في تحويل المال العام المملوك للدولة ملكية عامة، إلى مال مملوك للدولة ملكية خاصة (..) فإن هذا يخل باعتبارات المال العام ويتصادم مع نصوص الدستور التي تضفي حماية على المال العام وثروات البلاد. وإذا ما أضفنا إلى ذلك القول ما جاء مستحدثًا بالقانون رقم 197 لسنة 2020، المعدل لقانون الصندوق، نصًا جديدًا ليؤكد فكرة خروج هذا الصندوق عن كافة معايير الرقابة، وتمتعه باستقلالية مطلقة حيث تم استبعاد الطعن على كل تعاقداته”.
ولم يكن ذلك سوى نتيجة لتجربة مريرة قاستها السلطة في مواجهة مجموعة أحكام متعلقة ببطلان تصرفاتها في بيع شركات القطاع العام (قضايا الخصخصة)، بتعبير عبد العال.
أصول ضخمة تتحول لسلطة الصندوق السيادي
يوسع الصندوق حاليًا من استثماراته في الصحة والتعليم والمياه والكهرباء والبنية التحتية والسياحة والآثار والطاقة المتجددة وصناعات السكك الحديدية وقطاع المصارف والخدمات المالية الإلكترونية و يسعى للدخول في القطاع الصناعي.
وقد استحوذ على العديد من الأصول مثل مبنى مجمع التحرير، ومبنى وزارة الداخلية. بالإضافة إلى مبنى الحـزب الوطني، وأرض ومباني المدينة الاستكشافية، ومبنى القرية الكونية بمدينة السادس من أكتوبر. فضلًا عن أرض ومباني ملحق معهد ناصر، وأرض حديقة الحيوان بطنطا. وكذلك تطوير “باب العزب” كحي أثري سياحي. إضافة إلى توليه طرح شركات تابعة للقوات المسلحة –”وطنية” و”صافي”- في البورصة.
وحول الاستثمار في التعدين والذهب، كشف سليمان أن التحدي الذي يواجه الاستثمار في صناعة الذهب سابقًا كان عدم وجود آليات محددة وتشريعات واضحة لدعم الاستثمارات الضخمة في الذهب. ويؤكد أن مصر تتمتع بوفرة في الثروات المعدنية بشكل عام والذهب بشكل خاص. وأن الحكومة المصرية أدخلت تعديلات مهمة في قوانين الثروة المعدنية أخيرًا. ما يتيح فرصًا استثمارية كبيرة للمستثمرين في الذهب لاستقطاب المستثمرين من كل دول العالم.
وتدرس عدة وزارات كالكهرباء والزراعة نقل بعض من أصولها إلى محفظة الصندوق، الذي يقول مديره التنفيذي إن “كل جنيه يضخه يجذب 10 جنيهات من المستثمرين”. بينما تضيف وزيرة التخطيط أن نقل الوزارات للعاصمة الإدارية سيرفع رأسمال الصندوق السيادي عدة تريليونات. إذ سيستفيد استثماريا من تلك المباني المخلاة التي تقع في أماكن حيوية بالقاهرة.
تريليونات ربما يجني ثمارها المواطن على المدى المتوسط أو البعيد. لكنه بالتأكيد لن يكون قادرًا على المساءلة أو الرقابة.