هو ليس مجرد فيلم سينمائي ممتع بثته شبكة نيتفليكس “Netflix” وحمل عنوان “لا تنظروا إلى أعلى/لا تنظروا إلى السماء Don’t look up“. إنما هو رؤية متكاملة لأزمة عميقة باتت تضرب مجتمعات كثيرة بما فيها البلاد المتقدمة، وتمثلت في هيمنة الهامشي والتفصيلي وركام المعلومات التافهة على القضايا المصيرية الكبرى بما فيها وجود الكرة الأرضية نفسه ومستقبل البشرية.

ويحكي الفيلم قصة اثنين من العلماء يكتشفون وجود مذنب فضائي ضخم تبلغ مساحته ما بين 5 إلى 10 كيلومترات، وعلى مسافة 6 أشهر و14 يوم ليصل إلى الأرض ويدمرها بقوة تفوق مليار مرة قنبلة هيروشيما.

ومنذ لحظة اكتشافهما لهذا الخطر الداهم يبدأ الفيلم في عرض أزمة العلم والعلماء مع المنظومة السياسية والإعلامية السائدة في البلاد، فهناك رئيسة أمريكية شعبوية تذكرك بترامب، تردد خطاب سطحي يدغدغ مشاعر الناس ولا يحل مشاكلهم.

وحين قررت إدارتها ترتيب موعد لها مع العلماء الثلاثة الذين تابعوا هذا الخطر الكبير وبعد أن استمعت لهم بطريقة لا تخلو من بعض السخرية وكثير من الجهل، قالت إن الانتخابات على بعد 3 أسابيع ويفضل تأجيل إعلان هذا الخبر على الشعب لما بعدها، حتى لا يخسر حزبها أغلبية أعضاء الكونجرس “بتخويف الناس”. وهو حوار يعكس كيف يتم التعامل مع خطر وجودي يهدد الكرة الأرضية والبشرية بمنطق الحسابات الانتخابية الصغيرة.

وحين تمت دعوة العالمين إلى أحد البرامج التليفزيونية، فشاهدنا حجم الجهل والسطحية الذي تمتع به محاوريهم وكيف أن قضية كبري تهدد وجود البشرية تحولت إلى نقاش سطحي يبحث عن “تريند” وسط عشرات الأخبار الصغيرة الأخرى.

التحول الكبير في التعامل مع هذا الخطر بدأ حين قررت الإدارة الأمريكية ممثلة في رئيستها اليمينة الشعبوية أن توقف عملية القضاء على المذنب بعملية عسكرية مهنية ومتقنة، لصالح خيار أحد كبار رجال الأعمال وصاحب واحدة من أكبر الشركات الخلوية تسمي “باش”، وأيضا أحد أكبر داعميها في الانتخابات. وهنا يصور الفيلم تداخل سلطة المال مع سلطة السياسية، حيث فرضت سلطة المال خياراتها وتبنت الإدارة تصورها بتفكيك المذنب عبر جهاز فضائي متطور أنتجته الشركة ويقوم بتفكيكه وهو في الفضاء إلى 30 قطعة يتم من خلالها الاستفادة من المعادن الكامنة فيه والتي قدرها رجل الأعمال وفريقه “العلمي” بحوالي 140 تريليون دولار.

الحوار الذي دار بين الرئيسة والعالم الحقيقي وصاحب الشركة كان متقنا حتى لو كان فيه بعض المبالغات، وإن طريقة حديث رجل الأعمال كانت مميزة حين تكلم مثل الرجل الآلي وهي رسالة مهمة من المخرج وموهبة واتقان فني رفيع من ممثل الدور حتى تصل الرسالة إلى المشاهد بأن الرجل ليس لديه أي مشاعر إنسانية وأن سطوة المال حولته إلى جهاز آلي.

اللافت أيضا تحول قضية تهدد وجود البشرية إلى صراع سياسي وانتخابي بدلا من أن تكون قضية إجماع وطني، فعرض الفيلم “خناقة” من يقولون من اليمين القومي الشعبوي “لا تنظروا إلى السماء” للتقليل من الخطر والاستخفاف من لغة العلم والعلماء، وبين من يقولون “أنظر إلى السماء” من الليبراليين والتقدميين للتأكيد على أن هناك خطر حقيقي. يهدد الكرة الأرضية.

اختار الفيلم الخيار الأسوأ على عكس معظم الأفلام العربية التي ينتصر فيها الخير في النهاية، واختار انتصار “الشر”، وفشلت مهمة جهاز رجل الأعمال في تدمير المذنب الذي اصطدم بالأرض ودمرها على من فيها.

لقد عرف العالم صراعات وتهديدات كبرى مثل الحروب الكونية والأوبئة وغيرها، وكان هناك ما يشبه الإجماع داخل كل بلد لمواجهتها، فوجدنا كيف توحد الجميع في بلدان كثيرة لمواجهة المحتلين والغزاة، كما أن التوافق السياسي ظل دائما ملمح للديمقراطيات الغربية في مواجهة التهديدات الكبرى من إرهاب وتغير مناخي وغيرها من القضايا المصيرية التي لم تؤثر فيها صراعات السياسة، بل ظلت معروفة بأنها محل إجماع وطني.

رسالة الفيلم تقول إن القضايا الكبرى سواء كانت تهديدات وجودية أو أخطار كونية منظومتنا السائدة في السياسة والإعلام غير قادرة على مواجهتها، وبعيدا عن تفصيلات كثيرة شهدها الفيلم تظل صالحة في أماكن كثيرة وسياقات مختلفة حول قضايا مفصلية يضيع فيها الجوهري والقيمي والمبدئي لصالح الجزئي والتفصيلي والسطحي.

فحين تسيطر ركام التفاصيل على القاعدة القيمية والمبادئ الأساسية، فهذا يعني أن المجتمع مهدد في وجوده، وأن التعامل مع خطر يهدد الكرة الأرضية بمنظومة سياسية غارقة في التفاصيل السطحية يمكن سحبها على قضايا كثيرة من خطر التغير المناخي إلى خطر الأوبئة إلي خطر التهميش وغياب القانون والعدالة.

لقد استدعت رسالة الفيلم في زاوية سيطرة الهامشي على الجوهري، ذكريات الفترة من 2016 وحتى 2020 والتي تداخل فيها الشخصي بالموضوعي، وتمثل في كيفية التعامل مع حكم قضائي بات ونهائي من أعلى سلطة قضائية في مصر وهي محكمة النقض من قبل المنظومة السياسية السائدة، فيفترض أن هذا الحكم يمثل القيمة العليا والأساس الذي ينتفض المجتمع ومنظومته من أجل تنفيذه الفوري تطبيقا للقانون الذي هو الضامن الوحيد لنجاح التنمية الاقتصادية وليس فقط الاستقرار السياسي، ومع ذلك رأينا تعليقات ذكرتني بحوارات المذيعين في فيلم “لا تنظر إلي السماء” من نوع أن لائحة البرلمان (التفصيلة الصغيرة) تتعارض مع حكم النقض (القيمة العليا) أو أن هذا الشخص الذي حكمت المحكمة لصالحه سيء أو ليس على الهوى، أو ترديد أكاذيب من أجل ترحيل حل المشكلة أشهر ثم سنوات أو نتيجة الخوف من الغوغائية والابتزاز.

قيم المجتمع الأساسية الدستورية والقانونية هي التي يجب أن تحكم المنظومة السياسية فتفرض عليها تطوير الديمقراطية واحترام القانون وحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية، مهما كان إغراء الحجج التفصيلية لتعطيل عمل هذه القيم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية أو نقص الوعي وارتفاع الأمية وغيرها.

رسالة الفيلم بهذا المعني قاطعة وتقول إن منظومة القيم الأساسية إذا صحت ووجدت نظاما سياسيا يلتزم بها، فإنها قادرة على مواجهة التهديدات “الصغرى” من مشاكل صحية واقتصادية وسياسية، وأيضا “التهديدات الكبرى” حتى لو كانت مذنبا قادما من الفضاء الخارجي.