لم تكن وحدها شادية التي افتتنت بمنير مراد وهو يغني لها مفاجئا ناظرًا لها بلا مازيكا: “أنا وحبيبي ما حدش قدي.. والدنيا ديه على قدي وقدي”. ثم يبتعد بنا عن العالم -أنا وشادية-  حين يكمل ببطء وهو يعني كل كلمة حقًا يقولها: “كل اللي فيها أنا وحبيبي نتهنى بيها أنا وحبيبي”. ثم تصدح الموسيقى فيبتعد عنها مجبرًا لتدخل الراقصات حولهما لينهيا الأغنية..

هذه الوقفة التي يتحدث فيها حين تتوقف الآلات عن العزف اعتبرتها أعذب كلمات حب وغزل حين كنت صغيرة. أسرني هذا الفتى الخفيف اللطيف ذو الرقصات التي يحاول بها ألا يتفذلك ليبدو مثلنا. “بيحاول ينبسط وهو بيرقص عادي”. وفي نفس الوقت تلمح بها الكثير من الخفة والخبرة ومهارة شخص متمرن..

ظل هذا الممثل هكذا “بس”، ممثل فيلم “أنا وحبيبي” وفقط. لم أكن أعرف شيئا آخر عنه، وظللت أنتظر إعادة الفيلم لأستمتع به وبغزله الصادق وأجزم بسذاجة مراهقة أنه بالتأكيد كان على علاقة عاطفية بشادية، على الأقل أثناء تصوير الفيلم.. “شكله كان بيحبها طبعا واضح جدا من بصاته لها”.

(1)

حين كبرت وظهر ” جوجل” في حياتنا، بدأت أبحث عن ملحني بعض الأغاني التي أعجبتني.. وكثيرًا ما كنت أجد أنها من تلحينه. كان يقترب بإيقاعه السريع من بعض ألحان محمد فوزي وكنت أشعر بتأثره بالألحان الغربية كالجاز في بعض أوبريتاته. كذلك اكتشفت أنه لحن لمها صبري ولشريفة فاضل التي كنت أظن لفترة طويلة أنها فقط مطربة تغني في كباريه الليل الذي تمتلكه. فبدأت اكتشف منير واكتشف مساحات أخرى من عالم شريفة ومها. كنت جاهلة وحين عرفت انبهرت.

من خلال المذكرات التي كتبها صالح مرسي عن ليلى مراد عرفت أنه كان صبي مشاكس.. يهرب بعود أبيه ويتسلق الدولاب ويجلس فوقه ويلعب مازيكا حتى لا يستطيع أحد الإمساك به.

“وكان منير مهملاً في الدراسة، أقصى أمنياته أن يسرق العود ويتسلق الدولاب وأن يجلس فوقه ليعزف ويغني غير عابئ بصيحات التهديد والوعيد التي كان يتلقاها من تحت..”؛ صالح مرسي عن ليلي مراد في كتابه عنها.

كنت أضحك وأنا أتخيله يفعل، وتخيلت لو كنت جارته التي يلعب معها ويهرب معها من المدرسة الفرنسية ليريها حركات رقص جديدة تعلمها من فيلم أجنبي شاهده أمس يبهرها بها..

(2)

“التياترجي البهلوان” هكذا لقبه أبوه في فيلم “نهارك سعيد”. وهذه ربما أكثر صفة ارتبطت به وبنوع فنه. برع في الدويتوهات وفي الاستعراضات في الأفلام والموسيقى التصويرية لأفلام أخرى. لم يقترب أحد أبدًا من هذه المنطقة وانفرد بها في خفة وشطارة مثله. أوبريتات “أنا وحبيبي” خاصة “هنا القاهرة”، وأوبريتات “نهارك سعيد”، ودويتو “تعالي أقولك” لشادية وعبد الحليم وهم صغيرين في بداية مشوارها. ثم “حاجة غريبة” بعد أن نضجا فنيا. تبنيه لأصوات صعب التلحين لها مثل عفاف راضي التي عرف عنها في بداية محاولاتها للغناء أنها تغني طبقات مرتفعة فقط ولن تجيد الغناء. حينها منحها بليغ حمدي الفرصة وتبناها وتناول منه الطريق منير مراد فغنت له “ابعد يا حب”. مها صبري وليلى جمال وعايدة الشاعر. لحن موسيقى لترقص عليها تحية كاريوكا ونعيمة عاكف. قدم كل أنواع الألحان.

(3)

بدأ حياته الفنية عامل كلاكيت في أفلام المخرج توجو مزراحي الذي أخرج الكثير من أفلام شقيقته ليلى مراد في بداية حياتها الفنية. ثم مساعد مخرج لكمال سليم. وفي فيلم “ليلة الحنة” الذي أخرجه أنور وجدي، كان يذهب بالعود ويجلس يعزف عليه ويلحن أمام أنور وجدي الأخبار وأخبار الوفيات حتى يقنعه بأن يسمح له بالتلحين لشادية، ولكن أنور بالرغم من أنه كان مخرجا شاطر يجيد التقاط المواهب وتسخيرها لحسابه، وكذلك بالرغم من حبه لمنير، إلا أنه لم يكن يؤمن به كملحن. وأمام إصرار وزن منير أعطاه أغنية “واحد اتنين” ليلحنها، بينما كان ينوي أن يعطيها لملحن آخر غير منير، إلا أن اللحن أعجبه. وكانت هذه أول أغنية يلحنها ذلك العفريت في عام 1951، ومن بعدها لحن لشادية أشهر أغانيها: إن راح منك يا عين، ألو ألو، اوعى تسيبني، اسم الله عليك، الدنيا مالها، تعالي أقولك، حاجة غريبة، دور عليه، سوق على مهلك، شبك حبيبي، ما أقدرش أحب اتنين، يا سارق من عيني النوم، يا دبلة الخطوبة، لسانك حصانك، يا دنيا زوقوكي، وعد ومكتوب، منايا أغني، يا حبيبي عد لي تاني، مش قلت لك ياقلبي..

لم تكمن براعته في التلحين بخفة ودلع ورشاقة وإيقاع سريع مثل محمد فوزي وفقط. بل أنه يعتبر الوحيد الذي برع في الاستعراضات، تياترجي حقا، يعرف مقومات المسرح وتوظيف الغناء مع التمثيل والرقص في مساحة محددة بالبث المباشر أمام الجمهور. كان يجيد خطف الاهتمام ورمي الإيفيهات بالكلمات واللحن..

لحن لأخته أغاني قليلة ولكنها جميلة: أنا زي ما أنا، راح الهوى، يا طبيب القلب، يا رايح على صحراء سيناء، بالاتحاد والنظام والعمل.

(4)

كنت أشعر به قريبا من روحي المنطلقة الخفيفة، وبكل غرور أظنني خفيفة الظل. حين أجلس مع أصدقائي لا يكف الضحك ولا تنضب الأفكار الجديدة في حواراتنا. في مرة واحدة فقط غضبت منه حين عرفت أنه لحن “بأمر الحب” وهي من أكثر الاغاني التي استشعر ثقل دمها. بينما في نفس الفيلم أحببت “ضحك ولعب وجد وحب” من قبل أن أعرف أنها من ألحانه. “بأمر الحب”؟ حقا يا منير؟ يا ساتر، لكن غضبي منه لم يستمر كثيرا فقد أرجعت كرهي للأغنية ربما لبرود زبيدة ثروت أو تمثيل عبد الحليم الثقيل.

(5)

هذا الأسبوع تحتفل دار الأوبرا المصرية بمرور مائة عام على ميلاد منير مراد. وقد ولد في 13 يناير عام 1922. مثل اليوم كان ليتم عامه المئة، ولكنه مات صغيرا بعد أن أثرى السينما والراديو بالكثير من ألحانه وأوبريتاته وظهوره الرشيق في أفلام قليلة.

في ذكرى ميلاده المئة، ابحثوا عن أغانيه واستعراضاته وأفلامه. أنا بدأت أمس وشاهدت فيلم “نهارك سعيد” إنتاج 1955، واستمتعت بالاسكتشات التي كانت في الفيلم، مثل أيضا في فيلم ” أنا وحبيبي” 1953، و”موعد مع إبليس”، وظهر ضيف شرف في أخرى مثل “بنت الحتة” و”اشهدوا يا ناس”..

عمل كمساعد مخرج في أفلام: مسمار جحا، ليلة الحنة، قطر الندى، غزل البنات، عنبر، حبيب الروح.

ألف موسيقى أفلام: مولد يا دنيا، البحث عن المتاعب، في الصيف لازم نحب، فتاة الاستعراض، الراهبة، الرباط المقدس، وأيضا موسيقى خفيفة كوميدية لثلاثة أفلام لإسماعيل ياسين وهي: إسماعيل ياسين س في الأسطول وفي البوليس الحربي، وعفريتة إسماعيل ياسين.

ولا تنسوا استعراض أو اسكتشات “قاضي البلاج” من فيلم أبي فوق الشجرة.

استمعوا لأغنية علمني الحب وعطشانة لصباح، ابحثوا عن أغنية بكرة وبعده وتعالى أقولك وحاجة غريبة لعبد الحليم حافظ وشادية، اكتبوا على يوتيوب: ” استعراض هنا القاهرة” و”تقليد منير مراد لكبار الملحنين”.. وستعرفون أنه ليس فقط عفريت ولا بهلوان ولا تياترجي، بل هو فنان حقيقي لم يشتهر ولم يوف حقه، ومات قبل أن يكمل عامه الستين.. ثم اختموا رحلتكم بين أعماله بمشاهدة أغنية “أنا وحبيبي” وهو ينظر لشادية ويكلمها ما بين الثانية 45 ولمدة 18 ثانية أخرى.. لتعرفوا أنني على حق.. ما هذه الخفة والحلاوة والذوبان.. رحمك الله.

https://www.youtube.com/watch?v=k4__qfYSN0s&t=1s