الثورات لا تنهزم بالضربة القاضية أبدًا، فما تحدثه من تغييرات في بنية المجتمع النفسية وفي أفكاره أكبر وأعمق من الهزيمة..

والثورات -أحيانًا- لا تنتصر بالضربة القاضية أيضًا. بل تنتصر بمقدار ما تملكه من رصيد في التنظير والتنظيم..

حققت ثورة 25 يناير بعد 11 عامًا على قيامها الكثير على صعيد التنظير..

11 عامًا واصل فيها كل المؤمنين بالثورة رسم معالم الطريق، واستمر الجميع في وضع التصور الأنسب والأفضل لشكل الدولة التي قامت الثورة من أجلها..

11 عامًا كانت كافية لتترجم شعارات 25 يناير الكبرى في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية إلى تصورات ورؤى واضحة..

تيار شاب وواسع بات اليوم يؤمن إيمانًا راسخًا بمدنية الدولة، أي بالدولة التي لا تسحق الإنسان وكرامته باسم الدين أو الوطنية، دولة تقوم على المواطنة والحرية والعدل والكرامة والمساواة، دولة لا تقصي أحدًا ولا تضطهد أحدًا، ولا تخاصم إلا دعاة العنف والتطرف، باتت الشعارات التي رفعها جمهور 25 يناير منذ 11 عامًا أكثر وضوحًا في العقل الجمعي، وأكثر رسوخًا في ضمير ووجدان الملايين الذين لا زالوا يرون في جمهورية يناير الأمل القادم لغد أجمل..

على صعيد التنظير أيضًا بات هناك رفض مبدئي وواسع لكل السياسات التي تتنافى مع القيم والمباديء “الإنسانية” التي نادت بها ثورة يناير، صدامًا فكريًا وضميريًا دخله آلاف الشباب مع تلك السياسات، بعد أن وصلوا ليقين كامل حول الدولة المنشودة، هذه الدولة التي يرونها تحقق الأحلام وتحمي الحقوق وتحترم الكرامة وتحقق العدالة..

في “التنظير” لشكل الدولة المنشودة بات هناك ما نستطيع أن نطلق عليه “تيار يناير“: مواطنون متفرقون تنظيميًا ولا يربطهم رابط مباشر، ولكنهم يتشابهون بدرجة كبيرة جدًا فيما يحملونه من أفكار، تيار واسع وحالم ومخلص وغاضب ومحبَط أيضًا، تكشف عن وجوده تطبيقات التواصل الاجتماعي وأدوات التواصل الحديثة حتى تظن أنه حزب سياسي واحد، يتوحد في القناعات العامة حتى لو اختلف في التفاصيل، وفي الاختلاف في بعض الأحوال رحمة..

وبقدر ما تكشف السنوات الأخيرة نجاح “التنظير” السياسي في بناء ملامح تيار “مدني” واسع يجتمع ويتفق على شكل وأدوات دولة المستقبل؛ تؤكد نفس السنوات فشل المنتمين لهذا التيار في بناء “تنظيم” سياسي وحزبي يجمعهم ويوحد جهدهم وحركتهم وتصوراتهم عن المستقبل..

نجح “التنظير” في الحفاظ على 25 يناير وطور الأفكار ووحد الرؤى، وفشلت السياسة والسياسيون في الانتقال من “التنظير” إلى “التنظيم”..

صحيح أن هناك أحزابًا تؤمن وتدافع عن ثورة 25 يناير، لكنها فشلت بشكل كبير حتى الآن في بناء التنظيم السياسي الحقيقي الذي يصل لآلاف المؤمنين بالثورة ويوحدهم بشكل قانوني وسياسي..

قد يكون المناخ العام مانعًا بدرجة كبيرة لحرية العمل السياسي، وقد تكون القبضة الأمنية على الحياة العامة عائقًا حقيقيًا أمام بناء تنظيم حزبي وسياسي يضم كل المؤمنين بالثورة، ويضيف إلى هذا التيار الواسع نجاحًا جديدًا على صعيد “التنظيم” يوازي ما تحقق على درب “التنظير”، ومع ذلك ليس أمام من يمارسون السياسة إلا البحث عن سُبل وصيغ تمكنهم من بناء حزب 25 يناير، باستخدام الوسائل القانونية المتاحة، مهما كانت درجة التضييق التي يتعرض لها المجال العام، ومهما كانت درجة القمع التي قد يواجهها من يمارسون السياسة في هذا الوقت..

نجحت 25 يناير في تغيير الوعي العام بدرجة كبيرة، وضخت شعاراتها الكبرى تصورات لدى المواطن عن المستقبل الذي ينشده وعن الدولة التي يريدها، لكنها تبقى شعارات وتنظيرًا فقط ما لم تتحول إلى التنظيم، هذا التنظيم السياسي والحزبي الذي يقدّم البدائل ويطرح البرامج والحلول للمشكلات القائمة، ويوحد الرؤى والمواقف، ويصل للناس باعتباره حاضرًا بتصوراته وخططه وبدائله..

نجح المؤمنون بـ 25 يناير على مدار 11 عامًا في وضع التصور النظري لدولة جديدة، دولة مدنية ديمقراطية ناهضة، وبقي فقط إيمانهم بأهمية التنظيم، تنظيم سياسي وقانوني، يستكمل ما حدث خلال ال ١١ عاماً ويبني عليه خطوات جديدة، ويوحد الرؤى ويطرح البدائل، وأظنها مهمة ملقاة على عاتق الأجيال الشابة وأجيال الوسط من المؤمنين بالثورة ومن الحالمين بأن تصبح جمهورية 25 يناير واقعًا..

مهمة أدرك ثقلها وصعوبتها في هذه اللحظة، وأدرك أيضًا الأثمان التي قد تُدفع فيها، لكنها تبقى الطريق الوحيد والمضمون لغد ينتظره ويستحقه المصريون..

ولنتذكر جميعًا:

الثورات لا تنهزم بالضربة القاضية أبدًا، فما تحدثه من تغييرات في بنية المجتمع النفسية، وفي أفكاره أكبر وأعمق من الهزيمة..

والثورات -أحيانًا- لا تنتصر بالضربة القاضية أيضًا؛ بل تنتصر بمقدار ما تملكه من رصيد في التنظير والتنظيم..