ونحن في بداية العام الجديد، لا مفر عن مواجهة ما تعانيه حرية الرأي والتعبير من تعقيدات ومواجهات قضائية حيث تم التحقيق مع الأستاذ / خالد البلشي، رئيس تحرير موقع درب الصحفي، وذلك على خلفية بلاغات مقدمة ضده تتهمه بنشر أخبار كاذبة وما إلى ذلك من تهم أصبحت مسطرة جاهزة للتضييق على ذوي الرأي ومصادرة حرية القول، وكان قد سبقه في ذلك المسلك الدكتور / أيمن ندا والذي تمت إحالته للمحاكمة الجنائية على إثر بلاغات قدمت ضده، بعد نقده لحالة حرية الرأي والصحافة بشكل عام، وقد تم حبسه احتياطيا، ثم تم الإفراج عنه، كما تمت إحالته للمحاكمة التأديبية كذلك. فهل سنستخدم سلاح التجريم كنصل حاد لقطع أي ممارسة لحرية الرأي والنقد العام.
ومن أجل ضمان استقرار المعاملات داخل المجتمع كان لابد من تحديد نطاق ممارسة حرية الرأي بحيث أنه لو مورست هذه الحرية وفق هذا النطاق لا يمكن معاقبة ممارسيها على أي جريمة، حيث تمثل حرية الرأي والنقد من الحريات العمومية التي تكفلها الدساتير، وتضمنها كافة مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان، حيث يمثل الحق في النقد سبب من أسباب الإباحة في الجرائم القولية وأهمها القذف والسب، ويعنى ذلك أن الفعل ينطبق عليه بداءة وصف التجريم باعتباره مشكلا للقذف أو السب أي أنه ينطوي على إسناد واقعة تستوجب عقاب المسند إليه إذا كانت صحيحة أو تؤذي سمعته.
والنقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به والحط من كرامته، وكما ورد في حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن 42 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية أن الحق في النقد – وخاصة في جوانبه السياسية – يعتبر إسهاما مباشرًا في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديمقراطية، وحائلا دون الإخلال بحرية المواطن في أن “يعلم”، وأن يكون في ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومي، قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه. على أن يكون مفهوما أن الطبيعة البناءة للنقد – التي حرص الدستور على توكيدها – لا يراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التي تعارضها لتحدد ما يكون منها في تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق في الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة. وما رمى إليه الدستور في هذا المجال هو ألا يكون النقد منطويا على أراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة.
كما تقتضي المصلحة العامة كشف حقيقة الشخصيات العامة غير المؤهلة للقيام بالعمل العام أو تمثيل الجمهور. وممارسة الحق في نقد القائمين على العمل العام من هذه الشخصيات هو نوع من الرقابة الشعبية. وقد أكدت المحكمة الدستورية في مصر على ذلك بقولها: «انتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه، هو حق متفرع من الرقابة الشعبية من يقظة المواطنين المعنيين بالشؤون العامة والحريصين على متابعة جوانبها السلبية وتقرير موقعهم منها». لذا، فقد قضى بأنه «من الخطأ افتراض سوء القصد بمجرد القذف ولمحكمة النقض أن تبحث جميع ظروف الدعوى لتتبين إذا كان ناشر المقال المشتمل على الطعن قد أراد منفعة البلاد أو أنه لم يرد إلا الإضرار بالأشخاص الذين طعن عليهم”. ومن هنا فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الفعال الذي يلعبه النقد المباح حيث يساهم في تصحيح العديد من الأوضاع المجتمعية على اختلاف أنواعها، وتوجيه أولي الأمر إلى الأوجه الصائبة التي يجب عليهم فعلها.
لكن لابد من أن تكون سهام النقد المباح المفيد للمصلحة العامة تقف عند حد التعرض فقط لأعمال الوظيفة، ولا تتطرق إلى الحياة الخاصة للمواطنين بما يمس سمعتهم أو شرفهم، وهو ما يعتبر من قبيل ممارسة حرية الرأي والتعبير، إذ أن لحرية الرأي والتعبير قيمة عليا في حياة الناس، وهي من مصادر الخلق والإبداع وتنمية الخيال الأدبي والفني في كل الاتجاهات الممكنة، فضلاً عن انها تعطي الأمل والثقة للناس في قيام نظام اجتماعي وسياسي سليم يحترم الفرد ويقدر مشاعره وضميره الأدبي. وتعطي حرية التعبير للإنسان قدرة المشاركة بإخلاص وفعالية في الحياة الاجتماعية العامة والمساهمة في دفع التقدم الاجتماعي إلى الأمام مما لا يفسح المجال أمام نمو النفاق الاجتماعي وطغيان الانتهازية وسيادة العلاقات المزيفة القائمة على المصالح الشخصية البحتة التي تجد ضالتها في عهود الظلام وكبت الحريات.
وبناء على ذلك فلابد من إتاحة الفرصة كاملة للمنابر الصحفية وذوي الأقلام لممارسة حقهم وما يتماشى مع طبيعة مهنتهم الراقية وحقهم الطبيعي وما تقتضيه طبيعة العمل الصحفي الحقيقي والفعال والذي يعود بالنفع على المجتمع بأثره، إذ أن طبيعة الحياة لا تسير في فيلق أو فصيل أو حزب واحد، حيث أن إتاحة الفرصة لتعدد الآراء ومنافذ حرية التعبير يعود أثره بشكل مباشر على جميع المواطنين وعلى تحقيق المصلحة العامة كذلك، وبالتالي يجب تفعيل النصوص الدستورية بشكل صريح وعدم توجيه الاتهامات لكل من يسعى لنقد الأوضاع مطالبا بالتصويب، هادفا للتطوير.