مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعيّ على حياتنا، تبدو ثقافة الترند trend اليوم هي مادة السّجال اليوميّ، بما تفرضه من قضايا -جادة أو غير جادة- تُجْبر شريحة واسعة من المتابعين والمهتمين على الانخراط فيها والتدوين حولها. والمعضلة هنا أن طبيعة الترند لا تسمح بتعمق الفكرة المطروحة؛ فالترند يدفعك إلى اتخاذ موقف بأكثر مما يطلب منك الفهم والتدقيق. يطلب منك الانحياز إلى الترند أو ضده: (مع أم ضد)، (صح أم خطأ)؛ لأن “الترند” له طبيعة خاصة؛ فهو: يوميّ واختزاليّ.. ولا يمنح أحدًا وقتًا للتفكير أو المراجعة، وبمجرد طرحه أمامك على الشاشة الزرقاء يحفزك على الانشغال به، ويحثك على إبداء رأيك هنا والآن.

لقد وقع الوعي العام -بكل أسف- في قبضة الترند، ولا أحد يعرف لماذا قد يصبح حدث ما أو عنوان ما (تريندًا)، فقد يكون الترند حدثًا كبيرًا، يهم كثير من الناس، مثل قرار اتخذه الرئيس في أحد لقاءاته، أو تصريح لأحد المشايخ الكبار، وقد يكون موقفًا عابرًا لشخص عابر التقطته الكاميرا وجعلته في مركز الضوء..!

لا أحد يمكنه الوقوف على السبب المباشر الذي يجعل أمرًا ما يقفز من دائرة المعتاد والعابر ليشغل الرأي العام على مواقع التواصل، وتكتب فيه أو حوله ما لا يحصى من التدوينات، بالتأكيد يمكننا فهم الأمر فيما يتعلق بالقرارات الكبيرة التي تتصل بحياة الناس ومعاشهم بشكل مباشر، أو تتصل بشرائح واسعة منهم، كقانون الضريبة العقارية أو المصالحة على مخالفات البناء، أو ما يتعلق بالدعم.. وقل الأمر نفسه عن القضايا الدينية ذات الطابع العام، كوقوع الطلاق الشفهي من عدمه..الخ

ولكن ما لا يمكن فهمه هو أن يُسلّط الضوء على تصريحات عادية، كأن تكشف فنانة عن استعدادها للتبرع بأعضائها بعد موتها، أو أن تقوم راقصة غير معروفة بتأدية رقصة خاطفة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة في محل كوافير، مجرد رقصة عفوية، لا غاية من ورائها سوى التعبير عن الشعور بالبهجة، فيصبح هذا المشهد “تريندًا” يشغل الناس، وتنتقل به الراقصة من الصف الثاني أو الثالث إلى نجمات الصف الأول..!

قد يتصور البعض أن (الترند) يقوم بما كانت تقوم به برامج “التوك شو” الفضائية في نهاية التسعينيات والعشرية الأولى من هذا القرن. وهذا تصور يُجانبه الصواب؛ فبرامج “التوك شو” -رغم كثير مما يمكن أن تأخذه عليها أو على ثقافة بعض مقدميها- أكثر رصانةً وعمقًا؛ فهناك جهة واضحة تقوم بإنتاجها والإعداد لها، ويمكنك -أنت المتلقي- أن تعرف أغراضها ومراميها، وقد تتفق أو تختلف معها، كما أنها جيدة بقدر ما تناقش من قضايا مؤثرة على نحو عميق، وهي تفعل ذلك -غالبًا– من خلال استضافتها للمختصين والمهتمين، وهي قبل ذلك وبعده أكثر هدوءًا، وقد تجد لديك الفرصة للتفكير والمراجعة إن أحببت..

وهذا كله لا يمكن مقارنته بثقافة “الترند” و”الهشتاج” الذي يومض ثم يتلاشى، يتحدث فيه الجميع إلى الجميع، يتحدث الذي لديه معرفة بالموضوع ومن ليس لديه به معرفة، فلا أنت استبصرت من خلاله شيئًا خفيًّا، ولا أرحت عينك من بريقه اللّامع.. لقد أدى ذلك الوضع إلى أمرين على درجة كبيرة من الخطورة:

الأول: أن الترند يرسّخ (حالة ثقافية) زائفة، حيث ينشغل الناس بأمور كثيرة لا فائدة منها، أو يقدم ثقافة سطحية قشرية؛ فلا يوجد وعيّ ملموس يمكن البناء عليه والتقدم به نحو غاية محددة، كما أنه -أي الترند- لا يمنحنا الفرصة لمناقشة الموضوع المطروح أو تتبع فكرته والنظر فيما يمكن أن تنتهي إليه. فالترند -حتى لو كان جادًا يشير إلى قضية حقيقية- شديد الخداع؛ إنه يختزل أفكارًا مهمّة في شعار أو عنوان محدود، يوجّه عقلك وجهة معينة، تهيمن عليك روح الجماعة وسطوة التفكير من خلالها، فلا فرصة لديك للتفكير المستقل أو المراجعة.. فالترند يبرق ثم يختفي سريعًا ليفسح المجال للذي يليه، وقد لا يستغرق الترند الواحد أكثر من يوم أو بعض يوم..!

الثاني: ويترتب على سابقه، وخلاصته أن الترند يدفعك دفعًا إلى التحيز أو التخدنق دون تفكير، وكل تحيز انتصار للذات ودفاع عنها بأكثر مما هو دفاع عن وجهة النظر، وكثيرًا ما تستنزف تحيزاتُنا منظومةَ القيم الأخلاقية والاجتماعية، والمفارقة أن ذلك يحدث في الوقت الذي تظن فيه أنك بموقفك (الترينديّ) المنحاز تدافع عن هذه القيم..!

ولا أريد أن أضرب لك الأمثلة هنا، وسأكتفي بمثال واحد، سأبتعد فيه عن التريندات الموسمية التي تأتي في أوقات محددة، مثل: ثورة يوليو أو هزيمة يونيه أو ثورة يناير.. إلخ. أو التريندات التي تصاحب موت أحد وجوه المجتمع من السياسيين أو الكتاب أو الإعلاميين المؤثرين، وانشطار الموقف إزاءها بين مترحِّمٍ مستغفر، ولاعِنٍ شامت يؤكد على سوء المصير (وهو ما يعد افتئاتًا صريحًا على الله) من ناحية أخرى..!

سأترك هذا كله، وأضرب لك مثالًا بتريند المُعلّمة التي التقطت لها (فوهة) الكاميرا دقائق معددوة وهي ترقص وسط جمع من أصدقائها على مركب نيليّ، وذلك ضمن رحلة ترفيهية نظمتها نقابة المعلمين، سأكتفي هنا بلفت انتباهك إلى (فوهة) الكاميرا التي انتهكت خصوصية المُعلِّمة، ليس بالتصوير فحسب، وإنما بتحميل تلك الدقائق على منصّات التواصل دون أن تأخذ موافقة المعلمة أولًا، ودون أن تأخذ موافقتها على النشر ثانيًا..!

وهذا انتهاك لأبسط حقوق الإنسان، وهو جرم أخلاقي وقانوني لا جدال فيه.. ولكن انظر كيف تناول التريند الموضوع من زاوية بعيدة تمامًا، متجاهلًا هذا الحق الذي لا خلاف عليه..! لقد انشغل التريند بالتساؤل حول: العلاقة بين التعليم والرقص..! رغم أنّ الحدث كلّه جرى على مركب نيليّ وليس داخل حرم المدرسة..! ثم انظر كيف أجبر التريند الجميع على التفكير في أمر المعلمة وحدها دون غيرها من المعلمين (الرجال) الذين اشتركوا معها في الرّقص..!

لا أريد هنا أن أنخرط في السّجال حول هذا التريند: (مع أم ضد)، ولا أريد أن أقع فيما أحذر منه، ولكني أودّ أن ألفت انتباهك إلى الطريقة التي يعمل بها التريند، وكيف يدفعك إلى اتخاذ مسارٍ معيّن وتجاهل سواه، فالتريند يقودك ويوجه عقلك، وقد تجد نفسك في النهاية متورطًا في انتهاك الدين والقانون في الوقت الذي تظن أنك تنتصر لهما..!

ما الأصولية؟

التريند -كما أشرتُ- يُدّعم فكرة التخندق؛ فلا تفكير معه ولا حوار، فأنت هنا إمّا أن تكون مع وإمّا أن تكون ضد، ولعلك وأنت تتابع بعض الحسابات أو المنصات الشهيرة على مواقع التواصل أصبحت تتوقع موقف صاحب الحساب من “الترند” قبل أن يدلي فيه بدلوه أو قبل أن يفصح عن رأيه، وهذا يعني أنك صرت على معرفة بخندقه الفكريّ والثقافيّ والحياتي بشكل عام.. وما الذي يعنيه هذا؟ يعني أننا لا نتحاور بما يكفي، وأن قدرتنا على التفكير ومساءلة قناعتنا لا تشغلنا بما يكفي، وأن نسبية (الحقيقة) ليست مطروحه بما يكفي، وأن “التريند” يدعِّم هذا النزوع الأصوليّ بأكثر مما ينبغي..!

ومهما كان الرأي في الترند وثقافته، ومهما كانت الجهة التي تقف خلف بعض التريندات، إلا أنه قد بات -الآن- واقعًا معيشًا وجزءًا من سلوكنا اليومي، وقد لا يكون انتقاده -في ذاته- الحل الأمثل، بقدر ما يجب تفكيك ما يضمره من أنساق فكرية قد تكون شديدة الرجعية.. وهي بالتأكيد آخر ما نرجوه لأنفسنا ولمجتمعاتنا..!