“إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟…”. مشهد عابر للحظات قصيرة، تمر فيه الكاميرا (close up) بسرعة شديدة على كلمات سفر المزامير 22. مشهد كفيل بأن يحكي عن طلاسم حبكة الفيلم الذي يترك أغلب مشاهديه في حيرة مذهلة، ويقين كامل بأنهم أمام عمل سينمائي ملحمي. قوة الكلب The Power of the Dog بمثابة درس للصانع الذي يريد التعلم، ومصدر إلهام للمشاهد العابر الذي يستهدف المتعة، وتساؤل فلسفي مفتوح للناقد الذي تجبره وظيفته على فك الشفرة.

الجائزة الملاحقة بالاتهامات

على مدار ما يقرب من ثمانية عقود من تاريخها إلى الآن اجتازت HFPA (المجموعة الصغيرة المكونة من 87 عضوًا من الصحفيين الدوليين يوزعون جوائز جولدن جلوب السنوية في هوليوود) سلسلة من الفضائح المحرجة والدعاوى القضائية وانتقادات لاذعة لعضويتها في كثير من الأحيان. المجموعة موضع نكات حتى من مرحلة حفل توزيع الجوائز الخاص بها.

ذات مرة استضافت الممثل الساخر وربما أشهر مقدم لحفلات الأوسكار في تاريخها ريكي جيرفيه. وقد رفض استضافتها ووصفها بأنها “لا قيمة لها”. قال تحديدًا في وصف ذكي وساخر: “الجائزة بمثابة نوع من المعدن الذي أراد بعض الصحفيين القدامى المرتبكين تقديمه لك شخصيًا حتى يتمكنوا من مقابلتك والتقاط صورة سيلفي معك”.

في مقابلة عام 2014، قال الممثل غاري أولدمان إن مجموعة صحفيي الجولدن جلوب “لا أحد بينهم يمارس الجنس”. ثم دعا إلى مقاطعة “اللعبة السخيفة” التي تمثلها جوائزهم.

هذا العام ووسط أجواء من المقاطعة والانتقادات وغياب المشاهير، ودون بث مباشر على الهواء، أو إذاعة لقطات من الحفل، وتجاهل حضور ضيوف أو مدعوين، تمت إقامة حفل توزيع جوائز جولدن جلوب لعام 2022. في بيفرلى هيلز بأمريكا كالعادة انطلق الحفل على أضيق نطاق حضور من أعضاء رابطة الصحفيين الأجانب في هوليوود (المانحة للجوائز). وأيضًا بعدد محدود من الفائزين بالجوائز. بعد اعتراض على اتهامات العنصرية وعدم التنوع في اختيارات المرشحين للجوائز. إلى جانب فضائح أخلاقية طالت بعض أعضاء الرابطة.

“قوة الكلب” تنقذ الجولدن جلوب

كشفت رابطة الصحافة الأجنبية بهوليوود عن جوائز نسختها الـ79، لأفضل الأعمال السينمائية والتلفزيونية لعام 2021. حيث فاز الفيلم الدرامي الملحمي من إنتاج نتفليكس قوة الكلب The Power of the Dog  للمخرجة والكاتبة جين كامبيون بجائزة أفضل فيلم درامي للعام.

لم تتوقف دعاوى المقاطعة والتشهير بالحفل. بل أتى الجائزة سهم مؤثر آخر لفت أنظار أغلب المهتمين بالسينما في تحقيق نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز. كان يتحدث عن انحياز قاضٍ فيدرالي لـ HFPA في رفض دعوى قضائية قد تكون ضارة بمكافحة الاحتكار.

تم رفع الدعوى على يد الصحفي النرويجي الذي حُرم من العضوية في المجموعة، وجذب اهتمامًا واسع النطاق في هوليوود. وهو ما مثل تهديدًا مباشرًا للقوة التي تتمتع بها جمعية هوليوود للصحافيين الأجانب بصفتها الحكم في واحدة من أهم جوائز صناعة الترفيه.

لكن ورغم أن الجولدن جلوب تفقد بريقها سنة بعد الأخرى، فإن فيلمًا مذهلاً مثل “قوة الكلب” قد يحفظ شيئًا من ماء الوجه. خاصة مع ما يتنظره من جوائز كأحد أفضل أفلام العام، بالفعل ودون وساطة صحفيي HFPA.

“قوة الكلب”.. خط درامي ثقيل يرصد الدوافع المرتبكة

في أولى أفلامها “البيانو” تذهب الكاتبة والمخرجة جين كامبيون لحكاية قصة في منتصف القرن 19، حول إمرأة صامتة تُرسل إلى نيوزيلندا مع ابنتها الصغيرة لتعزف البيانو. هناك تغزل شباكها محاولة الزواج بمالك أرض ثري. هي خطوة لتأمين حياتها، في مقابل حب عامل محلي في المزرعة.

الخيط ذاته تستلهمه في القصة التي تأخذها عن رواية “قوة الكلب”. وقد كتبت في 1967 وتحكي قصة مزارع جذاب يبعث الخوف والرهبة في من حوله، عندما يجلب شقيقه زوجة جديدة وابنها إلى المنزل، ويعاملهم بقسوته المعتادة حتى يجد نفسه معرضًا لاحتمال الحب.

خيط درامي ثقيل تتحرك من خلاله أحداث القصة. بينما يندر الحديث وتقف العدسات بعيدة عن تفاصيل كل شيء أمامها، مكتفية فقط بتغطية المشهد. وهي ترصد الدوافع المرتبكة للأبطال. هكذا أرادت صانعة هذا العمل أن تروي من هذه الزاوية.

فلنبدأ من حيث انتهينا

قضيت اليوم التالي لمشاهدة الفيلم كاملاً. لا أسمع شيئًا باستثناء الموسيقى التصويرية للفيلم، الذي لم يكن ليخرج دون مركزيتها. مقطوعات متفرقة تُعزف جميعها باعثة على القلق من مجهول لمن يسمعها. قلق مغري بأن نستمر في السماع. إذ في قلب كل مقطوعة منفردة جملة موسيقى واحدة يتصاعد فيها السلم الموسيقي بوتيرة ثابتة.

يبدأ الفيلم من النقطة نفسها التي ينتهي إليها. من ذلك الوعد الذي يقطعه الابن على نفسه بحماية والدته من أي شيء مهما استدعى ذلك. وبالرغم من الغموض الكامل الذي يحيط الحكاية بعد الانتهاء من مشاهدتها، فإن مقامرة مغرية على الدخول في هذه التفاصيل. إغراء لا يقطعه حتى معرفة خيط النهاية في أولى مشاهد الفيلم.

أربع شخصيات تشكل قوام العمل داخل مجتمع يعج بشخصيات ثانوية لم تهتم المخرجة والكاتبة بثقلها
أربع شخصيات تشكل قوام العمل داخل مجتمع يعج بشخصيات ثانوية لم تهتم المخرجة والكاتبة بثقلها

في القصة، نشاهد أخوان تظهر شخصياتهما تناقضًا واسعًا. أحدهما غاضب دقيق الملامح مسيطر، بينما الآخر أكثر هدوئًا وبدانة. وهما مجبرين على العمل سويًا في إدارة الماشية وأموال أبيهما. ينامان على سرير واحد ويتشاركان كل شيء.

تتشابك الخيوط مع ظهور السيدة الجميلة صاحبة المطعم الذي يذهبان إليه بعد العمل للأكل والمسامرة. هناك أيضًا ابنها المراهق الهادئ غير المعتاد على العمل الشاق، والذي يكتفي بالعمل كنادل بمطعم أمه. وهو أمر يغضب صاحب الطباع الحادة (فيل). فهو يرى ذلك العمل باعتباره أنسويًا لا يناسب الرجال.

لماذا يستحق كل جائزة؟

لماذا هي قصة سينمائية مذهلة؟ ربما لأسباب يصعب الوقوف عليها كلها. وسنحاول فيما نملكه جيدًا على الأقل، أن نحكتم إلى قاعدة شهيرة تقول إن “الحكم على الشيء فرع من تصوره”. كل ما يمكن قوله عن القصة هنا إنها تأويل محض، سواء من جانبي أو من جانب غيري. وربما تلك النقطة هي الأكثر ذكاءً في قلب كل قصة سينمائية أو أدبية تستعدي الملحمية.

على مستوى الشخصيات، نعرف عن السيدة الجميلة التي سرعان ما تغرق في حالة من السكر دون أن نعرف هل غرقها هذا كان بسبب عدم حبها للزوج المخلص على كل حال أو الوقوع في حب أخيه! وزوجها “المنتحر” الذي نقرأ عرضًا عن انتحاره أيضًا لا نفهم كيف وقع انتحاره.. لا يمكننا حتى التأكد من صحة واقعة الانتحار!

كذلك، الأخ البدين قليلاً ما ندري هل كان يعلم بما يمر به أخيه أو حتى ميله لحب السيدة التي تزوجها أم لا! والولد الصغير، لا ندري إن كان قد تسبب في موت والده خوفًا من أذى أمه أم لا!

البطل (فيل) الذي يترك العمل كل الشكوك على حكاية مثليته، فقط لأن القصة المستلهمة تقول ذلك! وربما لو اكتفى المشاهد بالفيلم لن يمكنه التأكد من مثلية (فيل).

نقطة بيضاء لنتفليكس والجولدن جلوب

أربع شخصيات تشكل قوام العمل داخل مجتمع يعج بشخصيات ثانوية لم تهتم المخرجة والكاتبة بثقلها. تقدم الحكاية قصة مشوقة مقتضبة وتجري بعيدًا تاركةً التأويل على عهدة مشاهدها. فصول منفصلة متصلة، ربما بشكل لا يبعدها عن اعتبار صانعتها تتقرب كثيرًا بملحميتها من تقسيمات إنجيلية مقدسة، يمكن أن تٌغلق كل حكاية على حدة بأسئلة ودروس وفلسفة مختلفة عن التي تليها.

وربما لأن كل شيء نتيجة ظرفية تاريخية نوعًا ما، فإنه لا يمكن أن نفصل اختيار هذا الفيلم أو إنتاجه بعيدًا عن كونه في النهاية قصة تنتصر للمثليين في العالم. وربما الأرجح أن نقول بشكل نقدي إنه يمثل أحد أفضل الأعمال التي قدمت لحكاية المثلي دون فجاجة ومظلومية، وربما بذكاء، يعتمد على الغموض والحذر.

فيلم “قوة الكلب” ملحمة سينمائية نبحث عنها كل عدة أعوام ونجدها بصعوبة. مذهل، مهموم بالدرس الأصيل فلسفيًا، وبطرح الأسئلة وعدم الاهتمام بالإجابة عنها. يبقى معك بعد أن ينتهي عرضه. وكأي ملحمة مقدسة يمر سريعًا على الإجابات ويقف طويلاً على الرحلة الطويلة التي تسببت في كل ذلك. يظل اختياره نقطة بيضاء للجولدن جلوب التي تهتريء، وإنتاجه نقطة بيضاء لنتفليكس التي كثيرًا ما يستهويها الرائج على حساب الجودة.