باتت قارة أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي بعد التحول الاستراتيجي الحادث في السياسة الصينية مؤخرا وجنوحها نحو عسكرة شراكاتها وتكثيف الحضور السياسي في الأزمات بصدد مرحلة جديدة من التنافس. وهو الأمر الذي يدفع المنطقة لحروب نفوذ طويلة الأمد. وذلك بعدما باتت مصالح أمريكا الحيوية على المحك. إزاء الطموحات غير المحدودة للتنين الصيني المتعطش ليتبوأ مكانة قطبية طالما حلم بها على الصعيد الدولي.
وبموازاة القلق الأمريكي إزاء تسارع الخطى الصينية نحو أفريقيا تتصاعد مخاوف دول القارة وفي صدارتها مصر. خشية خلق الصراع بين واشنطن وبكين على النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي تحديات جديدة في ظل رغبة الصين للظهور بمظهر القوة العالمية المسؤولة في الإقليم.
حماسة صينية نحو أفريقيا يقابلها توتر أمريكي
جاءت التحركات الصينية الأخيرة على صعيد المشهد الأفريقي لتطرح المزيد من التساؤلات وتثير المخاوف أيضا بشأن مستقبل القارة وأزماتها التي تتأثر بشكل مباشر بحالة الصراع المحتدمة بين الأقطاب الدولية.
وفي مقدمة تحركات بكين الأخيرة إعلان عزمها تعيين مبعوث خاص لمنطقة القرن الأفريقي التي تمثل أهمية بالغة لأطراف متعددة. حيث واكب الإعلان الصيني جولة لوزير خارجية بكين -وانغ يي- في المنطقة. حيث تضمنت إريتريا وكينيا وجزر القمر في توقيت شديد الحساسية. خاصة أنها تأتي في أعقاب زيارة للقارة قام بها نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في نوفمبر الماضي وهدفت في جزء منها لمواجهة نفوذ الصين.
التحرك الآخر الذي لا يمكن التعامل معه بمعزل عن خطوة تعيين مبعوث صيني للقرن الأفريقي هو الاتفاق الصيني مؤخرا مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي تعد من القوى صاحبة النفوذ على العديد من الحكومات الأفريقية بسبب حجم استثماراتها في بعض العواصم الأفريقية ذات الأهمية الاستراتيجية على خارطة النفوذ العالمي.
بكين والخليج وأفريقيا
وجرى التفاهم بين بكين والمجلس خلال لقاء وزير خارجيتها والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف على إقامة علاقات شراكة استراتيجية وإتمام مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بينهما “في أسرع وقت”. وإعلان الصين دعمها لـ”دور أكبر للمجلس في الشؤون الدولية والإقليمية”.
وليس بمعزل عن ذلك أيضا ما كشفته تقارير استخبارية أمريكية بشأن تطلع الصين لإقامة قاعدة عسكرية ضخمة في غينيا الاستوائية في مقابل الساحل الشرقي لأمريكا.
يأتي هذا في ظل خلافات داخل الإدارة الأمريكية حول طبيعة أدوار واشنطن في القضايا الأفريقية. حيث أوردت صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية تقريرا يوضح سبب استقالة المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي المنتهية ولايته -جيفري فيلتمان. كاشفة خلافات المبعوث المستقيل مع مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية ماري كاثرين.
وبيّنت الصحيفة أن “فيلتمان طلب فرض عقوبات على عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني. فيما رفضت ماري كاثرين”.
وتابعت الصحيفة: “فيلتمان التقى عشية الانقلاب بالبرهان وحمدوك. وناقشا سبل تحقيق الاستقرار في السودان. ولم يلمح البرهان حتى إلى خططه لتنفيذ انقلاب عسكري في اليوم التالي. وهو ما كان بمثابة فشل استخباري كبير”.
المخاوف الأمريكية إزاء الطموح الصيني عموما وما يفرضه من تحدٍ عبر عنه “بايدن” في أول خطاب له عند توليه منصبه الرئاسي بقوله: “الصين أهم تحدٍّ للأمن القومي”. وذلك في وقت اتسع فيه النفوذ الصيني بشكل غير مسبوق داخل أفريقيا. مهددة في طريقها لذلك المصالح الأمريكية والغربية.
تسلل أعقبه إحكام سيطرة على أفريقيا
وأحكمت الصين سيطرتها على العديد من دول القارة عبر خطوات ناعمة. مكنتها من التغلغل في اقتصاديات الدول. وسرعان ما تحول السخاء الصيني في القروض لوسيلة ضغط مكنتها لاحقا من حسم صفقات كبرى والفوز بمشاريع عملاقة. وذلك بعدما أغرقت الحكومات الأفريقية في الديون.
وبحسب بيانات مبادرة البحوث الصينية الأفريقية لدى جامعة جونز هوبكنز الأمريكية. فإن إجمالي القروض التي حصلت عليها البلدان الأفريقية من الحكومة والبنوك في الصين بلغ 143 مليار دولار بين الأعوام 2000 و2017.
ويوضح التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا -الصادر في سبتمبر الماضي- كيف نجحت بكين في التوغل داخل اقتصاديات القارة. حيث بلغت التجارة الثنائية وفقا للتقرير 187 مليار دولار في 2020. وذلك رغم الصعوبات التي فرضتها جائحة كورونا.
كما أشار التقرير إلى بناء 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية.. جذبت من خلالها 623 شركة باستثمارات إجمالية 7.3 مليار دولار. ووفرت أكثر من 46 ألف فرصة عمل للدول الأفريقية.
بمحاذاة ذلك تشير دراسة أجرتها وكالة “ماكنزي” الأمريكية أن قيمة الأرباح المالية التي تستعد الصين لجنيها من أفريقيا بحلول 2025 تتجاوز 440 مليار دولار بزيادة 144%.
على النقيض أعلن الرئيس الأمريكي أن إثيوبيا ومالي وغينيا لن تكون مؤهلة للحصول على إعفاء من الرسوم الجمركية على صادراتها لأمريكا اعتباراً من 1 يناير 2022. وذلك بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي شارك فيها نظام الحكم الإثيوبي في إقليم تيجراي. والحكم العسكري غير الدستوري في مالي وغينيا.
عسكرة الشراكة
بعدما نجحت خطة بكين في فرض نفسها كقطب اقتصادي في القارة. بدأت علاقتها بأفريقيا تأخذ منحى جديدا نحو عسكرة شراكتها التنموية. وذلك من خلال خطة مدروسة لبناء قواعد عسكرية حول المناطق التي تحتضن مصالحها. وكان أول تطبيق لتلك الاستراتيجية بناء أول قاعدة عسكرية خارجية لها في عام 2017 في جيبوتي. تضم رصيفاً قادراً على إرساء حاملة طائرات وغواصات نووية.
وفي 2020 أقامت الصين منتدى للسلام والأمن مع أفريقيا لمدة أسبوع. وذلك بمشاركة وزراء الدفاع وقادة الجيوش الأفارقة لإجراء حوار حول التعاون والسلام والتمويل الأمني في القرن الأفريقي. وهذا ضمن خطط بكين لتوسيع وجودها العسكري.
وفي تقرير عرض أمام الكونجرس العام الماضي قال البنتاجون إن الصين ربما تنظر في مسألة إقامة المزيد من القواعد العسكرية في دول مثل كينيا وسيشيل وتنزانيا وأنجولا.
وجاء كشف الاستخبارات الأمريكية مؤخرا تطلع الصين لبناء قاعدة عسكرية دائمة لها في غينيا الاستوائية على ساحل المحيط الأطلسي مؤشرا على تصاعد التوتر وصراع النفوذ بين أمريكا والصين في تلك المنطقة. فيما أبدت واشنطن انزعاجها من هذه التحركات واعتبرت أن القاعدة تمثل تهديداً لأمنها القومي.
وعبرت التقارير الأمريكية عن مخاوف “البيت الأبيض” والبنتاجون من امتلاك السفن الحربية الصينية القدرة على إعادة التسليح وإجراء أعمال الصيانة أمام الساحل الشرقي لأمريكا. ما دفع واشنطن للانخراط في مفاوضات مع غينيا لإقناعها بالتراجع عن تلك الخطوة. حيث زار نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي -جون فاينر- غينيا الاستوائية في أكتوبر لهذا الهدف.
تحديات دول أفريقيا في ضوء احتدام الصراع الصيني-الأمريكي
يتوقع اللواء أحمد الشهابي -الخبير الاستراتيجي ورئيس المركز الوطني للدراسات- أن ينطوي احتدام الصراع الصيني-الأمريكي على تهديدات قد تطال الأمن البحري للمنطقة. كالقرصنة والإرهاب البحري واللذين قد يجدان من يدعمهما.
الأمر نفسه يؤكده الدكتور طارق فهمي -أستاذ العلوم السياسية المتخصص في العلاقات الدولية- حيث يرى أن التنافس المحتدم بين بكين وواشنطن في ظل تحركات روسية لتوسيع مساحات نفوذها في أفريقيا قد يؤثر على حركة المواني والممرات البحرية. كما أنه يمثل تهديدا لمناطق نفوذ تاريخية لبعض القوى العربية على رأسها مصر.
ويرى “الشهابي” أن التحديات لن تتوقف عند حد التهديدات الأمنية. متجاوزة ذلك إلى أخرى قد تطال الاستقرار السياسي لمنطقة القرن الأفريقي ودولها. قائلا: “بطبيعة الحال قد يلجأ أي من طرفي الصراع للعمل على تهديد الأنظمة الحليفة لمنافسه. ومن ثم دعم معارضي هذه الأنظمة في الداخل والخارج بغرض الضغط عليها أو حتى إسقاطها إذا ما وجد في ذلك حاجة”.
إضافة إلى ذلك -وفقا لـ”الشهابي”- “قد يلجأ أي من الطرفين لتحفيز الصراعات بين دول المنطقة المعروفة بتنوعها وتباينها الإثني”.
فرص رغم التهديدات
يجد “الشهابي” في المنافسة بين الصين من جانب والولايات المتحدة والدول الغربية من جانب آخر فرصا وهوامش للحركة أمام بلدان أفريقيا رغم ما تفرضه من قيود.
وبالنظر للحالة المصرية يرى “الشهابي” أن التزام السياسة المصرية بنهجها القائم على مبدأ التوازن واستقلالية القرار بعيدا عن محاولات الاستقطاب وسياسات المحاور التي يتوقع أن تتزايد خلال الفترة المقبلة يمثل ضمانة لتأمين مصالحها الوطنية والمصالح المشتركة مع الأشقاء الأفارقة كمحرك أساسي لسياسة مصر الخارجية تجاه دول القارة الأف عموما ودول القرن الأفريقي خصوصا.
ويرى الدكتور طارق فهمي أنه لمواجهة التحديات الناجمة عن الصراع الأمريكي-الصيني، لا بد من تحركات جماعية، والابتعاد عن التحرك الفردي، فعلى سبيل المثال “يجب أن تعزز مصر دورها في مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، وهو ما يستلزم التنسيق العربي من أجل تعظيم عوائد ذلك”.