يبدو أن رفع الدعم عن رغيف الخبز والوقود كجزء من رؤية الإصلاح الاقتصادي للحكومة أسهل عليها من الاقتراب من إصلاح تشريعات الأسرة المصرية -قوانين الأحوال الشخصية- كضرورة للإصلاح الاجتماعي.

تشريعات الأسرة تتجاوز تكلفتها الاقتصادية تكلفة دعم الحكومة الخبز والوقود معا. فقضايا محاكم الأسرة في مصر تصل لمليون و700 ألف دعوى سنويا تقريبا! ورغم ذلك تؤجل الإرادة السياسية النظر في تعديلات تشريعات قوانين الأسرة. حتى ما تطرحه الحكومة فى تعديلاتها وفقا لمشروع القانون الذي تقدمت به للبرلمان في فبراير 2021 ثم اختفى لا يعد إصلاحا حقيقيا، وإنما مجرد رتوش تحاول بها تجميل قانون صدر عام 1920 ينظم قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين ولائحة للأقباط الأرثوذكس من عام 1938 ليبقى الوضع على ما هو عليه من قوانين طائفية ذكورية لا تحقق مصلحة الأسرة. يعاني منها الجميع. لذلك أعتقد أنه من المناسب الآن طرح حلول جذرية تحقق مصلحة الأسرة المصرية كما ترسخ مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون. وهو ما لن يتحقق إلا بتشريع مدني موحد للأسرة ينظم علاقات قائمة على المساواة والمشاركة.

يعتبر الانتقال من الدولة القائمة على أسس دينية وعرقية إلى الدولة القائمة على أساس المواطنة من أبرز الانتصارات التي تحققت في مسيرة الإنسانية. وقد تجسد ذلك في عدد من الوثائق التي صدرت عن الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، حيث صدر “إعلان الحقوق” في بريطانيا عام 1689م ووثيقة “حقوق الإنسان والمواطن” في فرنسا عام 1789م ووثيقة الإعلان عن استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776م. ثم دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787م وإعلان الحقوق الأمريكية عام 1791م ليتوج ذلك بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948.

وتأتى (مدنية القوانين) كأهم ضمانة لتحقيق مبدأ المواطنة وسيادة القانون والمساواة أمام القانون كمبادئ دستورية. ويذكر التاريخ أن أهم أعمال الجمهورية الثالثة في فرنسا هي إقرار الزواج المدنى عام 1910 لجميع المواطنين فيما عدا إقليم الألزاس. الذي كان تحت الاحتلال الألماني ليكون بذلك بداية إقرار مفهوم المواطنة الكاملة. وهذا ما يدفعنى إلى طرح أفكار وتساؤلات عن الزواج المدني كحل للعديد من المشكلات التي تواجه قطاعات ليست بالقليلة من المواطنين/ات المصريين/ات على اختلاف معتقداتهم ومواقفهم القانونية. سواء كان زواجهم من شخص أجنبي أو مصري.

تلك المشكلات التي تعيق تمتعهم بواحد من أهم حقوقهم المصيرية. وهو الحق في تكوين أسرة وما يستتبع ذلك من حقهم في أوراق رسمية تثبت زواجهم وأوراق تثبت نسب أبنائهم بما يحقق لهم حياة كريمة في وطنهم.

وأجد أنه من الهام في البداية قبل أن استعرض فكرة مدنية تشريعات الأسرة أن أوضح هل مدنية تشريعات الأسرة تتعارض مع النص الدستوري الخاص بالشريعة الإسلامية كالآتي:

الدستور وسمو مبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون على المادة 2

أرست المادة (1) من الدستور المصري الصادر عام 2014 مبدأ المواطنة الذي يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات العامة والنهي عن التفرقة بين المواطنين -وكذا النص على مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته- كما نصت المادة 51 على أن الكرامة حق لكل إنسان ولا يجوز المساس بها وعلى التزام الدولة باحترامها وحمايتها.

ونصت المادة 53 على أن المواطنين أمام القانون متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة وعلى النهي عن التمييز لأي سبب. كما أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون. مع التزام الدولة باتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة للقضاء على أشكال التمييز وإنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.

أما ما يتعلق بما يمكن أن يثار عن تعارض الزواج المدني مع المادة الثانية من الدستور فإن المحكمة الدستورية العليا المصرية تمكنت في العديد من أقضيتها من إقرار مبادئ حالت بين أن يؤدي النص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع إلى أن تتحول الدولة إلى دولة دينية.

وأهم هذه المبادئ التي قررتها هو: أن خطاب هذه المادة موجه إلى المشرع وليس موجها إلى القاضي، وبالتالي لا يجوز للقاضي أن يتجاهل القانون الوضعي وأن يذهب إلى تطبيق الشريعة مباشرة حتى ولو تراءى له أن نص القانون الوضعي مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية. وأن المقصود بالشريعة التي هي مصدر التشريع الأحكام الكلية العامة التي اتفقت عليها مختلف المذاهب الفقهية دون الدخول في تفصيلات اختلافات المذاهب، وخاصة تلك المرتبطة بثقافات نسبية تجاوزها العصر.

وأن المقصود بصفة عامة من كون الشريعة مصدرا رئيسيا للتشريع هو ألا تكون التشريعات متعارضة مع الأحكام الكلية للشريعة دون أن يعنى ذلك اشتراط أن تكون التشريعات مستمدة مباشرة من أقوال الفقه القديم. ففي مبدأ المصلحة مجال فسيح لسلطة المشرع في الدولة الحديثة.

فهناك حقيقة لا مجال لنكرانها ولا بد من الإقرار بها. وهي أن الفقه الإسلامي بعد أن تألق وبلغ أوجه حتى أوائل القرن الرابع الهجري، ابتدأ، كما قيل بحق، بالركود فالانحطاط، وانتهى بالجمود المطبق. فالتقليد الأعمى لما قاله السلف، حيث انحصر العمل الفقهي المعاصر غالبا في ترديد ما سبق، ودراسة ألفاظ بعينها وحفظها متجاهلين بذلك القاعدة الشرعية: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.

وبناء على ذلك فإن المادة الثانية من الدستور المصري أصبحت تفهم وتفسر على أساس أن الشريعة الإسلامية التي هي مصدر التشريع أو القانون ليست مجرد شريعة دينية يدين بها المسلمون وإنما هي نظام قانون ناضج يعتبر مكونا جوهريا في التراث القانوني للأمة بكل مواطنيها، وأن المقصود بالشريعة في كلا الأمرين هو المبادئ العامة التي يتقبلها الضمير القانوني المعاصر.