ربما يكون القضاء على مشروع توريث حكم مصر من محمد حسني مبارك اﻷب إلى جمال مبارك الابن هو الانتصار الوحيد الذي حققته ثورة 25 يناير، ولكن ﻷن حدث الثورة وما تلاه كان علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، بحيث تقزم إلى جواره المشروع وأصحابه، فكأنما غمرته سحب الغبار التي خلفها جواد الثورة وهو يركض في كامل عنفوانه في أيامه الأولى، ثم ما لبث أن غاب وراء أفق النسيان الذي طوى ما أصبح اليوم يبدو كماض بعيد لعالم قد اندثرت ملامحه من أذهان من عاشوه.

ولكننا اليوم في مطلع العشرية الثانية ما بعد الثورة ننتبه شيئا فشيئا لضرورة أن نعيد النظر فيما كان، من خلال مقاربات مختلفة عن تلك التي غلبت عليها عاطفة التورط الشخصي، والتي لا يكاد يسمح لنا استمرار توابع هذه اللحظة التاريخية النادرة حتى اليوم باﻹفلات منها. وفي ظني أن نفض الغبار عن قصة مشروع التوريث، التي تبدو اليوم أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، وأشبه بحواديت اﻷطفال منها بوقائع التاريخ، له ما يبرره.

كان مشروع التوريث أشبه بعملية تشريح فوضوية أجريت على جسد لم يكن قد فارق الحياة بعد. لم يكن ذلك هو الهدف اﻷصلي للمشروع بالطبع، بل كان الهدف بالغ الطموح، أو ربما بالغ الجموح، قياسا على نتائجه، البعيدة تماما عن الخيال المحدود ﻷصحاب المشروع، بالرغم من أن باﻹمكان اليوم القطع بأنها كانت متوقعة تماما، ولكننا نملك اليوم المعرفة اللاحقة التي لا يحق لنا لوم من لم يكن يملكها في غمرة الأحداث، والتي نرى ما أدت إليه محتوما فقط ﻷنه قد وقع بالفعل. الهدف الطموح كان إجراء جراحة دقيقة لاستبدال اﻷعضاء التالفة للجسد المحتضر بأخرى جديدة.

هذه الجراحة تحولت إلى فوضى دموية ﻷنها أجريت في مسلخ لا في غرفة عمليات، وقام بها سمكري سيارات باستخدام منشار لا يجيد العمل به، كما أن قطع الغيار الجديدة تبين لاحقا أنها كانت من البلاستيك. كان العرض خليطا من التراجيديا اﻹغريقية والكوميديا الهزلية، ومن المؤسف أنه لم يحظ بكثير اهتمام من النقاد فقط ﻷن الستار الذي أسدل معلنا نهايته كان هو نفس الستار الذي أزيح في بداية عرض أكثر ملحمية بعشرات المرات، بل هو العرض اﻷكبر واﻷهم في التاريخ الحديث لمسرح الحياة المصرية.

ينبغي في الواقع أن نلتمس ﻷصحاب المشروع الطموح العذر في بعض الخيارات التي كانت مفروضة عليهم، والتي زينتها لهم المظاهر فبدا كل منها وكأنه مخاطرة محسوبة لا مقامرة متهورة.

فمن طبيعة اﻷنظمة البيروقراطية أن تبدو في الظاهر على خلاف حقيقتها، وبصفة خاصة مع تطاول فترات الركود؛ تتبدى البيروقراطية في صورة الكهل مفرط البدانة، الذي تغلب على ملامح وجهه الممتلئ الطفولي معالم نعاس دائم، ويبدو أنه من فرط كسله لن يكلف نفسه عناء تحريك يده ليطرد ذبابة حطت على وجهه واستسلمت بإهمال لشعور زائف باﻷمان. يسهل أيضا نسيان حقيقة أن اﻷجهزة البيروقراطية وﻷنها مطمئنة لاستدامتها التي تجعل استمرار أي شخص في موقعه مقارنة بها مجرد لحظة تاريخية عابرة، هي أكبر من اختزالها في أشخاص قياداتها العليا، وهو ما يعني أن قياس استدامة ولائها بالقوة الظاهرة لولاء هذه القيادات سيخرج بنتائج مضللة سينكشف خطأها عند أي اختبار حقيقي. وهو يعني أيضا أن هذه اﻷجهزة إذا ما ووجهت بخيار وضع وجودها على المحك في مقابل التضحية برأسها العزيز عليها ستختار أن تطيح بهذا الرأس بنفسها دون تفكير.

المقامرة اﻷولى التي فُرضت على أصحاب مشروع التوريث كانت استعداء البيروقراطية العسكرية. لم يكن ثمة مجال لتجنب ذلك، فلا يمكن لعاقل تصور أن المؤسسة التي أفرزت من بين صفوفها جميع رؤساء الجمهورية المصرية منذ نشأتها وطوال ستة عقود تالية يمكن أن ترتضي بطيب نفس أن يكون قائدها اﻷعلى مدنيا. تصور أصحاب المشروع مع ذلك أن هذه يمكن أن تكون مخاطرة محسوبة، وخدعهم في ذلك الطبيعة الاستثنائية لعلاقة المؤسسة العسكرية باﻷنظمة (السياسية) الحاكمة منذ عهد جمال عبد الناصر وحتى عهد مبارك مرورا بالسادات. فهذه العلاقة لا تجعل مصر تحت حكم العسكر بالمعنى الدقيق للمصطلح، الذي تعبر عنه مثلا نماذج الأنظمة العسكرية التقليدية في دول مختلفة حول العالم ومنها الحكم العسكري في اﻷرجنتين بين عامي 1976 و1983، والديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل طيلة 21 عاما (1964 – 1985).

ففي النموذج المصري تفرز المؤسسة العسكرية رأس النظام السياسي ويعتمد هذا النظام على عدد كبير من رجالها بعد مغادرتهم لها في مناصب سياسية على مستويات مختلفة، ولكنها لا تحكم بنفسها بشكل مباشر، ولا تمارس دورا سياسيا علنيا، إلا من خلال ممثلها في مجلس الوزراء، وأغلب الظن، ولا سريا أيضا، تكتفي فقط بضمان حماية امتيازاتها القائمة، وتوسعتها كلما أتيحت الفرصة. لذلك يصعب في أحيان كثيرة، وخاصة عندما يطول عمر النظام السياسي إلى حد نسيان اﻷصل العسكري لرأسه، الجزم بمدى حرص البيروقراطية العسكرية على الحفاظ على امتياز احتكارها لمنصب رئيس الجمهورية. ومن ثم يمكن أن يقع البعض في خطأ تصور أن هذه المؤسسة قد تضطر إلى التخلي عن هذا الامتياز إذا ما بدا أن ثمن التمسك به باهظا، وقدمت لها في الوقت نفسه، ضمانات كافية لاستمرار بقية امتيازاتها، وإتاحة فرص توسعها أيضا. وقع أصحاب مشروع التوريث في هذا الخطأ، كما وقع فيه اﻹخوان بعد سنوات، ودفع كلاهما ثمنه في الحالتين، مع التفاوت الواضح في مدى فداحته في كل حالة.

المقامرة الثانية التي دعمت كافة الشواهد تصور أنها مخاطرة محسوبة كانت الرهان على طبقة رجال الأعمال، القوة الجديدة الناشئة والتي كانت لا تزال تبحث عن مكان لها على الخريطة السياسية. سعى مشروع التوريث إلى أن يفسح المجال واسعا أمام هذه القوة لتلعب دورا سياسيا أكبر من خلال استغلال ودعم انقلاب الأوزان النسبية لعوامل بناء النفوذ السياسي لصالح وزن نسبي أكبر لرأس المال الاقتصادي في مقابل تراجع الأوزان النسبية لرؤوس الأموال الاجتماعية (المكانة الاجتماعية والنفوذ الذين كانت توفرهما في مراحل سابقة الوظائف المرموقة في البيروقراطية بأجنحتها المختلفة)، ورؤوس الأموال الثقافية (الفرص التي كانت تتيحها الشهادات الجامعية للترقي في الجهاز البيروقراطي). هذا الانقلاب في الأوزان النسبية للأنواع المختلفة من رؤوس الأموال سمح للقوة الصاعدة للرأسمالية المحلية، المستقلة نسبيا عن البيروقراطية الحاكمة، بأن تكون مرشحة كحاضنة وقاعدة اجتماعية للمشروع، وللنظام السياسي الجديد الذي كان يهدف إلى إنشائه على أنقاض نظام دولة يوليو. ولكن أصحاب المشروع ارتكبوا أخطاء فادحة، في هذا المسار أيضا، ويمكن مرة أخرى التماس العذر لهم، هذه المرة بحجة العمى الذاتي، أي عدم القدرة على رؤية التناقضات الذاتية إلى حد انتهاج مسار يؤدي إلى أن يضع المرء نفسه في مواجهة هذه التناقضات في صورة من صورة الانتحار أو التدمير الذاتي.

آفة عمليات التحول الاقتصادي عن رأسمالية الدولة هو أنها تنتج دائما رأسمالية زبونية ريعية. من المساوئ الرئيسية لهذا النمط من الرأسمالية افتقاده للمرونة فهو ينتج ممارسات احتكارية لا تسمح للسوق بالنمو وفق شروطه، ويؤدي إلى نمو غير متوازن للقطاعات الاقتصادية المختلفة. فاقم مشروع التوريث من هذه المساوئ بسبب شخصنته الضيقة، التي أدت إلى استبعاد قطاع واسع من طبقة رجال الأعمال، المحدودة في الأساس، ونتيجة للعلاقات الزبونية التي تربط مصالح الأعمال بمصالح مراكز هامة داخل البيروقراطية، فقد كان استبعاد هذا القطاع من رجال الأعمال سببا إضافيا لاستعداء أصحاب المصالح المشتركة معهم داخل البيروقراطية. الشخصنة والميول الاحتكارية التي هي من صلب طبيعة الرأسمالية الزبونية هي ذاتها ما قاد القائمين على مشروع التوريث من الرأسماليين إلى محاولة تعظيم مكاسبهم من خلال إقصاء المنافسين، في الوقت الذي كانت احتياجات المشروع تتطلب العكس تماما، وهو توسعة قاعدة المستفيدين داخل الطبقة الحاضنة له، وهكذا وضع هؤلاء أنفسهم ومشروعهم معهم في مواجهة تناقضاتهم.

المقامرة الثالثة كانت التخلي السريع عن محاولة إنشاء قاعدة دعم أوسع بين صفوف الطامحين إلى حلحلة الوضع السياسي الراكد والخروج من عباءة نظام يوليو، وفي نفس الوقت قطع الصلات الوثيقة مع مراكز القوى التقليدية في المجتمع والتي ورثها الحزب الوطني عن البنى السياسية السابقة عليه والتي مثلت واجهة النظام التي من خلالها يتم توزيع حصص النفوذ السياسي في مقابل الولاء للنظام. ولكن واحدة من المشاكل الأساسية لمشروع التوريث أنه لم يتمكن من أن يكون شيئا أكثر من ذلك على وجه التحديد، أي وريثا لنظام مبارك، لا يعد فعليا بتقديم بديل حقيقي عنه. على وجه التحديد أخفقت أية وعود ظاهرية بقدر أكبر من الانفتاح السياسي كانت متضمنة في ممارسات القائمين على المشروع حوالي منتصف العقد اﻷول من اﻷلفية في التحقق على أرض الواقع، أحد أسباب ذلك كان إزاحة عرّابي المشروع في بدايته عن المواقع المؤثرة في مساره، وكان أغلبهم من السياسيين والأكاديميين، واحتل مواقع الصدارة رجال الأعمال. وبدلا من توسيع القاعدة السياسية للمشروع من خلال تفعيل امتدادات جديدة للحزب الوطني، كما بدا أنه المستهدف في البدايات، تحول المسار الفعلي إلى انقلاب داخل الحزب الوطني ابتلعت من خلاله لجنة السياسات السيطرة عليه، وتصاعد ذلك منتهيا بالاستيلاء على لجنة التنظيم، همزة الوصل مع الرديف الأوسع امتدادا للحزب والمتمثل في شبكة المصالح الواسعة التي تربط مراكز القوى التقليدية بصفة خاصة خارج القاهرة بالحزب وبالنظام من خلاله. انتخابات ٢٠١٠ الهزلية كانت النهاية المنطقية لهذا المسار، والنهاية الفعلية للمشروع أيضا، وإن تطلب الأمر شهورا أخرى لإعلان وفاته ودفن جثمانه بعدما أطلقت ثورة يناير عليه رصاصة الرحمة.

هذه المقامرات الثلاث الرئيسية التي تمخضت عن ثلاثة إخفاقات رئيسية لمشروع التوريث هي على وجه التحديد ما أحال ما كان يراد له أن يكون عملية جراحية دقيقة إلى عملية تشريح فوضوية تسمح لنا بإلقاء نظرة أعمق إلى داخل أحشاء دولة يوليو وما طرأ على تركيبتها بعد ستة عقود من نشأتها عشية ثورة يناير.

الملامح الرئيسية التي كشفتها الضربات الرعناء لمشرط مشروع التوريث هي أولا: الطبيعة غير المشخصنة لبيروقراطية الدولة، بحيث أن هذه البيروقراطية وبالتالي أن الدولة نفسها لا يمكن اختزالها في شخص رأس نظامها، حتى وإن بدا خلاف ذلك في الظاهر. وثانيا: أن سياسات الليبرالية الجديدة في ظل نظام حكم بيروقراطي لا تنشئ رأسمالية مستقلة بشكل كامل عن بيروقراطية الدولة، ومن ثم فهذه الرأسمالية لا يمكنها أن تلعب دورا سياسيا ولا حتى لتمثيل مصالحها، وستظل حماية هذه المصالح مرهونة بعلاقات الزبونية ببيروقراطية الدولة وما تقدمه من ضمانات مشروطة. ثالثا: أنه على الرغم من أن التحول إلى اقتصاد محلي يحكمه الارتباط الوثيق بالسوق العالمي قد أدى بالفعل إلى تعديلات جذرية للأوزان النسبية لصور رأس المال المختلفة (الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية)، فإن طبيعة الرأسمالية الزبونية لا تسمح بالاعتماد عليها وحدها كقاعدة اجتماعية داعمة ﻷي مشروع سياسي دون توسيع هذه القاعدة لتشمل فئات أخرى مع الاستعداد للتفاوض على المقابل الذي تجده كل منها مناسبا.

يبقى مع ذلك عدة أسئلة تستحق أن تطرح وهي: هل كان ثمة سيناريو يمكن لمشروع التوريث أن ينجح فيه؟ وهل كان مثل هذا السيناريو سيحول دون اندلاع الثورة من اﻷساس، أم أنه كان سيؤدي إلى إجهاضها مبكرا وقبل أن تتمكن من إسقاط مشروع التوريث؟ والسؤال الأهم، هل يمثل مشروع التوريث، على فرض أن ثمة سيناريو ما ﻹنجاحه، نموذجا لبديل انتقالي ما بين التركيبة المغلقة لدولة يوليو، وبين نمط سياسي منفتح على أفق ديموقراطي؟ وإن كان كذلك، فهل ماتت مع المشروع أي إمكانية لبديل مشابه؟ سأحاول استكشاف هذه اﻷسئلة في مقالي القادم إن شاء الله.