يترقب العالم حاليًا مصير أسعار الفائدة في أمريكا لمعرفة تداعياتها على توجيه حركة الأموال الساخنة عالمًيا. خاصة على الأسواق الناشئة التي ظلت تجتذب قطاع من المستثمرين اللاهثين وراء اصطياد الفرص، في الدول ذات أسعار الفائدة المرتفعة.
الأموال الساخنة ترتبط بدخول الدول للاستفادة من تدني العملة المحلية أو أسعار الفائدة. وغالبا ما تتعلق باستثمارات أذون الخزانة أو السندات التي تطرحها الحكومة بغرض الاقتراض أو أسهم الشركات المدرجة في البورصة. حالة رخصها وتداولها بقيمة بأقل من قيمتها، بجانب شهادات الإيداع الدولية، التي يتم طرحها لجذب المستثمرين الخارجيين.
ظلت التوقعات العالمية تشير إلى أن الاحتياطي الفيدرالي ربما يرفع الفائدة مرة واحدة منتصف عام 2022. لكن البيانات الصادرة من البنوك الأمريكية ترجح أن تتراوح بين 4 و7 مرات أولها خلال مارس/ أذار المقبل. في مفاجأة غير متوقعة للاقتصاديات الناشئة.
جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان تشيس العريق. يتوقع ارتفاع الفائدة إلى سبع مرات العام الحالي، من أجل مكافحة تسارع التضخم بأمريكا.
ديمون يقول إنه سيتفاجأ إذا قام “المركزي” برفع أسعار الفائدة أربع مرات فقط. خاصة أن التضخم ربما يظل أعلى بكثير من هدف “الاحتياطي” البالغ 2% بحلول نهاية عام 2022.
يتوقع “جولدمان ساكس”، مؤسسة الخدمات المالية الأمريكية العريقة، أن ترتفع أسعار الفائدة أربع مرات العام الحالي. بعد انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة في ديسمبر/ كانون أول.
بينما تتوقع وحدة “دويتشه بنك” الألماني في الولايات المتحدة أيضًا أربع زيادات في أسعار الفائدة. يرجح بنك أوف أمريكا، أن تكون ثلاثة زيادات فقط.
تتسق تلك التوقعات مع تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بعد التجديد له لفترة جديدة. أكد خلالها أن الجهود ستنصب على التضخم، قائلاً: “إذا كان علينا رفع أسعار الفائدة أكثر بمرور الوقت سنقوم بذلك.. الحصول على توسع طويل يحتاج استقرار الأسعار.”
مخاوف كبيرة
قفز معدل التضخم لأعلى مستوياته بأمريكا خلال 40 عامًا، واستمر رغم توقعات اقتصاديين منذ شهور بأن يتلاشى قريبًا. فالأسعار المرتفعة تحدث تقويضا لدخل الأسرة حتى مع ارتفاع الأجور وتزايد معدلات التوظيف في الشركات.
المخاوف بشأن التضخم المحلي والتمويل الأجنبي المستقر، دفعت العديد من الأسواق الناشئة العام الماضي. بما في ذلك البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا، إلى البدء في رفع أسعار الفائدة، وعليها إعادة الكرة مجددًا.
ارتفع متوسط إجمالي الدين الحكومي في الأسواق الناشئة بنحو 10 نقاط مئوية ليصل لما يقدر بنحو 64% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2021.
يمكن أن تؤدي الزيادات الأسرع في أسعار الفائدة الفيدرالية بأمريكا لاهتزاز الأسواق المالية وتشديد الأوضاع المالية على مستوى العالم. وتؤدي لتدفقات رأس المال إلى الخارج وانخفاض قيمة العملة بالأسواق الناشئة، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي.
احتمالية رفع أسعار الفائدة بشكل ووتيرة أسرع مما كان متوقعًا، ساهم في صعود عوائد سندات الخزانة بشكل حاد عبر جميع الآجال. وعلى الأخص بمنتصف منحنى العائدات، حيث ارتفع عائد السندات لأجل سنتين بمقدار 12.99 نقطة أساس إلى 0.864% خلال أسبوع واحد فقط.
يمتلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، حاليًا، ما يقرب من 9 تريليونات دولار من السندات معظمها سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.
أسعار الفائدة المرتفعة ستجعل المستثمرين يعيدون التوقعات. وينظرون إلى سعر الفائدة الفعلي أو الحقيقي (الفارق بين الفائدة والتضخم)، بشكل مختلف عما كانوا عليه من قبل.
وزادت عوائد السندات أجل 5 سنوات بمقدار 23.58 نقطة أساس لتصل إلى 1.5%. والسندات لأجل 10 سنوات بمقدار 25.19 نقطة أساس لتصل إلى 1.764%. والسندات أجل 30 عامًا 21.32 نقطة أساس، لتصل إلى 2.117%.
كما صعد مؤشر الدولار خلال أسبوع 0.05% بنسبة نتيجة للدعم الذي تلقته العملة من محضر اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح.
في المقابل، تراجعت أسعار الذهب, الذي ينظر له كأهم الأصول أوقات الأزمات. دون مستوى 1800 دولار للمرة الأولى في ثلاثة أسابيع، بفعل العائد الأعلى المتوقع للاستثمار في أدوات الدين الحكومية.
أسعار الفائدة والتضخم
تراجع مؤشر مورجان ستانلي لعملات الأسواق الناشئة بنسبة 0.14%، مع تراجع غالبية العملات خاصة الليرة التركية التي كانت الأسوأ أداءً بتراجع بنسبة -4.08%. وجاء الروبل الروسي ثاني أسوأ أداءً بنسبة (-1.42%)، لتتراجع لأدنى مستوياتها منذ أبريل/ نيسان 2021.
في الحالة المصرية، تسبب التوقعات الخاصة برفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة على الدولار أكثر من مرة. ضغوطًا على الاستثمارات غير المباشرة بمصر، أي تدفقات الأموال الساخنة في أدوات الدين المحلي.
تدور المخاوف من أن يعتبر رأس المال الأجنبي أن مكاسبه من الأسواق الناشئة ومنها مصر بفائدتها المرتفعة وتضخم يقترب من 6%. قريبًا من العائد بالولايات المتحدة عند رفع الفائدة، ولذلك ربما تلجأ رؤوس الأموال للهجرة المعاكسة.
تخرج الأموال الساخنة بالدولار، ما يتطلب من البنوك توفير سيولة لمواجهته. ومن المتوقع أن يبدأ البنك المركزي المصري هو الآخر سلسلة رفع للفائدة. للمحافظة على جاذبية أدوات الدين الحكومية.
صندوق النقد الدولي أوصى الاقتصاديات الناشئة بتكييف استجابتها على أساس ظروفها ومواطن ضعفها. فالبنوك المركزية التي ترفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم يجب أن تخلق قناة اتصال مع الجمهور لكي يفهم الناس بشكل أفضل الحاجة إلى استقرار الأسعار.
خاضت البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة، ومنها مصر. ذلك الاختبار الصعب إبان أزمة كورونا حينما استطاعت تيسير السياسة النقدية حتى في ظل هروب رؤوس الأموال.
من المتوقع، أن يشهد عام 2022 صعود الدولار واتجاه معظم البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة وليست أمريكا فقط. وتراجع قيمة عملات عدد من الأسواق الناشئة مقابل الدولار، ما يعد بيئة غير مثالية لتدفقات الأجانب بأدوات الدين والاستثمار بأصول الأسواق الناشئة.
خطوات استباقية
وتبنت الحكومة المصرية خطة لإطالة أجل استحقاق الدين، لتعزيز الصلابة المالية، ومنع حدوث ضغوط على الموازنة العامة. لتتم إطالة عمر الدين من أقل من 1.3 عام قبل يونيو 2017 إلى 3.4 عام في يونيو/ حزيران 2021. ومن المستهدف الوصول إلى 3.8 عام في العام المالي الحالي وصولًا إلى 5 أعوام خلال السنوات المقبلة.
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور وليد جاب الله إن رفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة يرتبط بمعدلات إصدار الدولار منذ بداية جائحة كورونا لتمويل حزم وبرامج المساندة. لكنه لا يتصور أن يكون الرفع بنسب كبيرة، فاستهداف امتصاص السيولة من السوق الأمريكية لمحاولة كبح التضخم. مقيد بالرغبة في أن تظل أسعار الفائدة منطقية للمقترضين حفاظًا على استمرار نمو النشاط الاقتصادي والتشغيل.
وأضاف أن أي زيادة ولو طفيفة في أسعار الفائدة الأمريكية يمكن أن تسبب تخارج جانب من استثمارات الأجانب في أدوات الدين لدول الاقتصادات الناشئة لتذهب للولايات المتحدة الأمريكية. لكنها لن تحمل تأثيرًا كبيرًا على مصر في ظل استقرار أسعار الصرف ووجود نسبة فائدة حقيقية كبيرة بالسوق المصري.
وأظهر تقرير لوكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني أن استثمارات الأجانب في أذون وسندات الحكومة المصرية بالعملة المحلية ارتفعت إلى 33 مليار دولار. خلال أغسطس/ آب الماضي.
ارتفعت الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المصرية من مستوى 10 مليارات دولار خلال يونيو/ حزيران 2020. لتسجل مستوى يفوق ما قبل وباء كورونا في فبراير/ شباط 2020 حينما سجلت 28 مليار دولار.
لا تزال السوق المحلية مغرية للاستثمار خاصة مع توقعات النمو الاقتصادي للعام الحالي التي أصدرها المؤسسات الدولية. وهي أحد عناصر جذب الأموال الساخنة، بجانب برنامج طروحات لشركات حكومية عملاقة بالبورصة المحلية
تقويم الأسهم المصرية بالجنيه، يعطيها مزايا للاستثمار غير المباشر، علاوة على أن البورصة المصرية. كانت الأقل تعويضا للخسائر منذ جائحة كورونا.
ارتفعت العام الماضي بنسبة 10% فقط ما يعني أنها لا تزال لديها فرصة للتعويض العام الحالي. وأن الأسهم لا تزال تتداول بقيم أقل من سعرها الحقيقي.
يشير جاب الله إلى توقعات بنظرة مستقبلية مستقرة في تصنيف مصر الائتماني بالثلاث مؤسسات الكبرى للتصنيف (فيتش، وموديز، وستاندرد آند بورز). فضلاً عن التقارير الإيجابية لمستقبل الاقتصاد المصري الصادرة من صندوق النقد والبنك الدوليين والعديد من المؤسسات الاقتصادية الكبرى في العالم التي تظل محل تقدير للمستثمرين الأجانب.
أسعار الفائدة.. نظرة مستقبلية
كانت وكالات التصيف الائتماني “فيتش” و”ستاندرد آند بورز” و”موديز” قد ثبتت التصنيف الائتماني لمصر عند مستوى B+، وB ، وB2 على الترتيب. وجمعت بينها جميعا نظرة مستقبلية مستقرة لانخفاض معدل الدين المحلي والخارجي بصورة تدريجية اعتبارًا من العام المالي الحالي. والتأكيد على وجود احتياطيات قوية من النقد الأجنبي.
أحد المسؤولين الكبار بالبنك الأهلي المصري يؤكد أن البنك المركزي يراقب منذ قرابة العام التقارير الصادرة حول مستقبل الفائدة في السوق الأمريكية. وبدأ الاستعداد مبكرًا عبر سلسلة خطوات آخرها السيولة الطارئة للبنوك والتي جاءت رغم تمتع البنوك المصرية بمعدل سيولة مرتفعة. لكنه أحد الوسائل التحوطية والتنظيمية للسوق المصرفية في الوقت ذاته.
وقال المصدر إن السيولة المحلية بالقطاع المصرفي وصلت إلى 5.74 تريليون جنيه بنهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 2021. مقابل 5.651 تريليون جنيه بنهاية أكتوبر/ تشرين الأول السابق له بزيادة قدرها 89 مليار جنيه. كما أن الجنيه ظل على مدار 2021 مستقرا أمام الدولار الأمريكي رغم جائحة كورونا وتخصيص مبالغ ضخمة بالدولار لتمويل شراء اللقاحات، في ظل تنامي المصادر الدولارية.
سجل صافى الاحتياطيات الأجنبية 40.935 مليار دولار، في نهاية شهر ديسمبر/ كانون أول 2021. مقارنة بـ40.909 مليار دولار، نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بارتفاع قدره نحو 26 مليون دولار.
ومن المتوقع أن تلجأ لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي إلى رفع الفائدة أيضًا خلال العام الحالي بداية من ثاني اجتماعاتها في 2022 خلال مارس/آذار المقبل. مع استمرار السيطرة على التضخم للإبقاء على معدل جاذبية أدوات الدين الحكومية المصرية.
وقررت اللجنة تثبيت معدل الفائدة تسع مرات على التوالي في 2021 على الإيداع والإقراض لليلة واحدة عند 8.25 و9.25% و8.75% على الترتيب. وكذلك الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 8.75%. لكن من المرجح أن تلجأ أيضا لتثبيت الفائدة في اجتماعها خلال 3 فبراير/ شباط المقبل. على أن يكون بداية الرفع من مارس/ آذار انتظارا لقرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.