العلانية أصل من أصول العمل البرلماني، ووصول المواطن إلى المعلومات الخاصة بالممارسة البرلمانية وخطوات وضع التشريعات والسياسات ليس منة ولا فضلا يُمنح أو يُمنع بقرار من السلطة التشريعية، أو من غيرها، إنما هو حق كفلته الدساتير والأعراف البرلمانية، فمن حق المواطن باعتباره مُنشئ المجالس النيابية أن يُمكن من متابعة أداء أعضائها، كي يحسن الاختيار في الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة.
في الدول الديمقراطية، تدعو البرلمانات المواطنين إلى الانخراط بشكل فعال مع النواب في العملية التشريعية، ولتسهيل عملية متابعة الجمهور لأداء البرلمان، تسمح بعض المجالس بحضور عدد من المواطنين الجلسات العامة سواء في القاعة الرئيسية أو في قاعات مخصصة للزوار، حتى يتمكن نواب البرلمان من الاستماع إلى آراء شرائح وفئات مختلفة من المجتمع في القرارات والتشريعات قبل صدورها.
أما لجان المجلس والتي يصعب على المواطنين حضور جلساتها أو حتى معرفة الموضوعات التي تُناقش فيها، فتحرص البرلمانات الديمقراطية على نشر محاضرها وسجلات قراراتها بمجرد انتهاء اجتماعتها لتُمكن الجمهور من مطالعتها.
ومنذ أكثر من 3 عقود أصبح لكل برلمان في الدول الديمقراطية التي نتحدث عنها قناة إذاعية أو تلفزيونية لنقل جلستها إلى الجمهور وعلى الهواء مباشرة، وخلال العقدين الأخيرين دشنت معظم برلمانات العالم مواقع إلكترونية تتيح عليها ما لا تستطيع نقله عبر القنوات الإذاعية والتلفيزيونية، ويمكن لأي زائر للموقع أن يتنقل بين أقسامه لمطالعة مضابط الجلسات وأنشطة اللجان، ومعرفة مواعيد وجداول الاجتماعات، والهيكل التنظيمي للمجلس، وكل ما يريد معرفته.
وأخيرا تحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للبرلمانات إلى أداة تفاعلية مباشرة تتيح التعرف على توجهات الجمهور وآرائه في القرارات والتشريعات، ويطرح المواطنين عليها من خلال تعليقاتهم ورسائلهم طلباتهم وأسئلتهم وتقييمهم لأداء نوابهم.
أقرت مصر مبدأ علانية جلسات البرلمان عام 1909، عندما أُلغيت المادة 29 من القانون النظامي لعام 1883 والتي كانت تحظر حضور الجلسات على غير أعضاء المجلس ومنذ ذلك التاريخ كان الشعب يتابع ما يدور في جلسات البرلمان من خلال ما تنقله له صفحات الجرائد، كما كان يسمح للمواطنين بمطالعة مضابط الجلسات واللجان.
ومع تطور الأمور في العقود الأخيرة من القرن الماضي، كان التلفزيون الرسمي يخصص ساعة أو أكثر يوميا لعرض جلسات مجلس الشعب وما بها من مناقشات كفقرة ثابتة بعد نشرة الأخبار الرئيسية، بالدرجة التي كانت تسمح للمواطنيين بتقييم أداء نوابهم، وبعد ثورة 25 يناير 2011 ظهرت قناة «صوت الشعب» التي تم تخصيصها لبث جلسات البرلمان على الهواء مباشرة.
علانية جلسات البرلمان تحولت في دستور 2014 إلى إجراء إلزامي، حيث نصت المادة 120 على أن «جلسات مجلس النواب علنية»، وأجازت انعقاد المجلس في جلسة سرية بناء على طلب رئيس الجمهورية، أو رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس المجلس، أو 20 من أعضائه على الأقل، ويعرض هذا الطلب على أعضاء المجلس ليقرروا «ما إذا كانت المناقشة في الموضوع المطروح أمامه تجرى في جلسة علنية أو سرية».
كما نصت لائحة المجلس الداخلية في مادتها 227 على أن «جلسات المجلس علانية»، ونظمت المادة 426 إجراءات العلانية وعهدت إلى رئيس المجلس بـ«متابعة نشر وإذاعة ما يجرى فى الجلسات العلنية للمجلس ولجانه عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وذلك لضمان تيسير مهمة ممثلى هذه الوسائل فى النشر أو الإذاعة بدقة لما يجرى من مناقشات».
وعلى هذا فمن الناحية الدستورية واللائحية والتاريخية جلسات البرلمان المصري علانية، والسرية هي الاستثناء، ورغم ذلك قرر مجلس النواب السابق في مطلع عام 2016 وقف بث جلساته على الهواء مباشرة فضائيا وإذاعيا، واُعتبر أن قرار بث الجلسات «سلطة تقديرية للمجلس الذي من حقه بث ما يراه مناسبا وحذف المشاهد غير المناسبة في مناقشات الأعضاء والتي قد تحتوي خروجا على التقاليد والأعراف»، بحسب تبرير الدكتور صلاح فوزي أستاذ القانون الدستوري عقب صدور القرار.
لم يصدر مجلس النواب آنذاك بيانا يوضح فيه أسباب القرار، إلا أن رئيس المجلس الدكتور علي عبد العال أستاذ القانون الدستوري، أرجع قرار وقف بث الجلسات إلى «قلة خبرة بعض النواب»، وسعي بعضهم إلى «الإثارة والشو الإعلامي».
ومنذ ذلك الحين، تحولت جلسات البرلمان إلى جلسات شبه سرية، تنقل بعض القنوات الحكومية أو الخاصة مقتطفات مبتسرة كلما سُمح لها بذلك، أما تغطيات الصحف والتي يرى القائمون على المجلس أنها تحقق مبدأ العلانية، فيحكمها الهوى السياسي والأجندة التحريرية التي يتم فرضها من الجهات المتحكمة في الإعلام.. ضف إلى ذلك استحالة أن تنقل أي منصة إخبارية كل ما يدور في الجلسات واللجان من تفاصيل.
أما عن الموقع الإلكتروني لمجلس النواب على شبكة الإنترنت فحدث ولا حرج، فهو لا يتضمن سوى تقارير مبتورة عن جلسات المجلس واجتماعات لجانه منسوبة إلى ما تسمى «وكالة أنباء البرلمان» والتي يشار إليها اختصارا بـ «و ا ب»، ولا تحتوي تلك التقارير سوى على قرارات الموافقة على مشروعات القوانين وبعض مداخلات النواب المنتقاة، فضلا عن نشاط رئيس المجلس الداخلي والخارجي.
قناة المجلس على منصة «يوتيوب» لا تختلف كثيرا عن موقعه الإلكتروني، يعرض عليها مقاطع فيديو تتراوح مدتها من 15 إلى 40 دقيقة لجلسات تتجاوز مدتها الخمس ساعات في بعض الأحيان، وكما تبدأ تلك المقاطع عادة بكلمة افتتاحية للسيد الدكتور المستشار رئيس المجلس تنتهي أيضا بكلمته التي يعلن فيها القرارات ثم يرفع خلالها الجلسة، وما بين هذا وذاك كلمات ومداخلات مختارة بعناية للسادة الأعضاء.
في نهاية العام المُنقضي تقدمت النائبة أميرة صابر عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي وعضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، باقتراح بشأن إعادة البث المباشر للجلسات العامة لمجلس النواب على قنوات التليفزيون المصري الرسمي، «حتى يتاح للمواطنين الذين هم المعنيون الأوائل بالمناقشات التي تدور داخل أروقة المجلس حول القوانين والقرارت».
وترى النائبة أن إتاحة بث الجلسات بالكامل يُمكن المواطنين باعتبارهم أصحاب الحق الأصيل في انتخاب أعضاء المجلس من تقييم أداء النواب الرقابي والتشريعي.
وأوضحت النائبة الشابة أنه بالرغم من وجود اعتقاد بأن نشر الأخبار المهمة عن المجلس والقرارات النهائية وحضور بعض الصحفيين للمجلس، وإذاعة بعض المقتطفات، يحقق مبدأ العلانية الذي يهم المواطنين، إلا أن هناك ضرورة لإعادة تنظيم الحق في علانية الجلسات بشكل مختلف، والذي يشمل إذاعة الجلسات العامة على الهواء مباشرةً في قناة تابعة للتليفزيون المصري، وعرض هذه الجلسات مسجلة في قناة مخصصة على منصة يوتيوب.
واستندت صابر في اقتراحها إلى المادة 68 من الدستور والتي تنص على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية».
ورغم مرور أكثر من شهر على المقترح الذي تقدمت به النائبة، إلا أن المجلس الموقر لم يطرح تصورا لتحقيق ما أشرت إليه، كما لم يقدم حتى ردا مبررا مسندا لرفضه.
قبل مقترح النائبة أميرة صابر كانت مؤسسة حرية الفكر والتعبير قد تقدمت وللمرة الثانية بدعوى ضد كل من رئيسي مجلسي النواب والشيوخ، طعنًا على القرار السلبي بالامتناع عن بث جلسات المجلسين تليفزيونيًا ورقميًا، ونشرها مكتوبة من خلال الجريدة الرسمية.
وبحسب ما جاء في الدعوى، فإن بث جلسات مجلسي النواب والشيوخ تمثل ضمانة رئيسية لتوفر الرقابة الشعبية على أداء أعضاء السلطة التشريعية، وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين، علاوة على أن التصويت في الانتخابات البرلمانية ينبني على علم بأداء النواب وتباين المواقف بين الأحزاب السياسية وهو ما تضمنه متابعة الجلسات.
وأضافت الدعوى أن حضور بعض ممثلي الصحف والمواقع الإخبارية جلسات المجلسين ينبني على حقهم الدستوري والقانوني في ممارسة عملهم، دون أن يحقق ذلك مبدأ العلانية المنصوص عليه دستوريا ﻷنه يستحيل حضور كل ممثلي الصحف والمواقع والقنوات لجلسات المجلسين.
ولفتت الدعوى إلى أن لكل وسيلة إعلامية سياسة تحريرية خاصة بها قد تؤدي إلى تقلص مساحات النشر، لبعض التطورات التشريعية أو عدم نشر البعض الآخر، وذلك يحرم المواطنين من الوصول إلى المعلومات.
ومن المتوقع أن يكون مصير الدعويين هو ذات مصير دعوى سابقة لنفس المؤسسة قبلت فيها محكمة القضاء الإداري الدعوى من حيث الشكل لكنها رفض الطلبات، مستندة إلى تقرير هيئة المفوضين بمجلس الدولة والذي اعتبر أن «منع عرض الجلسات على شاشات التلفزيون لا يشكل في ذاته عقبة أمام مبدأ العلانية طالما تحقق هذا المبدأ سواء بطريق النشر في الصحف أو عرض مقتطفات من الجلسات أو غير ذلك من طرق النشر الحديثة».
وبذلك يكون الجمهور الذي هو صاحب قرار تشكيل المجالس النيابية، نظريا، باعتباره مُنتخب أعضائها، حُرم من معرفة ما يناقشه هؤلاء النواب وما يطرحونه من تشريعات وما يتخذونه من قرارات، فحرم بالتالي من إمكانية تقييمهم.
أقرب الظن أن أصحاب قرار منع بث جلسات البرلمان، هم أنفسهم أصحاب قرار تبوير العمل السياسي في مصر، لا يريد هؤلاء أن يعرف الجمهور ما يدور في مؤسسة من المفترض نظريا أنها مطبخ العمل السياسي، تُصنع فيها القوانين وتُمرر تحت قبتها القرارات، يصرون على أن يكون المواطن خارج أي معادلة لها علاقة بنظام الحكم.
للأسف لم يعد لرأي المواطن أدنى وزن في بلادنا، وصار الأصل هو تهميشه بل تغييبه وحرمانه من معرفة ما يدور في مؤسسات سلطات الدولة المختلفة، يتم التعامل مع هذا المواطن باعتباره ضيف أو زائر ليس من حقه إلا أنه «ياخد واجبه ويروح»، فليس من حق الضيف الاطلاع على ما يجري في بيت مضيفه.