«صورة قديمة» هي القصة الأخيرة في «دنيا الله»، المجموعة القصصية الشهيرة لأستاذنا «نجيب محفوظ»، تقص علينا حكاية «صحفي» لمعت في ذهنه فكرة للكتابة، وهو ينظر إلى الصورة المعلقة بمكانها منذ عدة عقود في حجرة «الجلوس»، ركز انتباهه في تفاصيل «الصورة» التي كاد يمحوها طول البقاء، وقرر أن يُجري تحقيقا عما آلت إليه أحوال تلك الوجوه التي حوتها لزملاء السنة النهائية بالقسم الأدبي من مدرسة «الجيزة» الثانوية عام 1928، ووضع عنوانًا أوليًا لهذا التحقيق: «تلك الوجوه ـ المدرسة والحياة بين عامي 1928 إلى 1960».

وعلى الفور بادر صاحبنا إلى البحث عن أصدقاء الصورة القديمة، وبدأت وقائع القصة، وتفجرت مفاجآتها، وتعددت مفارقاتها، عبر كل مقابلة مع زملاء الصورة، حيث وجدهم جميعًا في أحوال جديدة صنعتها الحياة. ومع آخر مقابلات «الصحفي» الباحث عن الحقيقة، كانت توفرت بين يديه حصيلة ما جرى من تبدلات الأشخاص، وتغيرات الأحوال، كان أقلها تلك التغيرات التي طالت الهيئة بفعل الزمن، وبدأ في التفكير بعمق فيما جمع من مواد لدراسته، وشرع في تحليلها تحليلا أوليا، وفي ذهنه يلح عليه السؤال:

تُرى أي معنى ستتمخض عنه هذه «الصورة القديمة»؟

**

نحن -مع هذه المقالات– في صلب محاولة شبيهة، نحاول أن نحقق في «صورة قديمة» لتيارٍ نشأ في مواجهة الارتداد على التجربة الناصرية، وهي النشأة التي أظن أنها تركت تأثيرًا كبيرًا (حتى لا نقول سلبيًا) على مسيرة التيار، وفي مساره، كانت القوى المضادة للثورة قد أمسكت بزمام النظام الذي أنتجته ثورة يوليو، وراحت تستخدم أدواته التي قدمت من قبل إنجازات ضخمة على صُعد مختلفة متعددة، لكي تنقلب بنفس الأدوات، على كل هذه الإنجازات، وتمضي في الاتجاه العكسي للطريق الناصري، وبدا أن عمليات الهجوم على «جمال عبد الناصر»، التي بدأت في أعقاب حرب أكتوبر 1973 هي التمهيد بالمدفعية الثقيلة في معركة طويلة بدأت بالانفتاح الاقتصادي الذي سماه وقتها الأستاذ «أحمد بهاء الدين» انفتاح «السداح مداح»، وانتهت بوضع أوراق اللعبة كلها في الأيدي الأمريكية، ثم إلى زيارة القدس والاعتراف بإسرائيل وتوقيع معاهدة سلام منفرد مع الكيان الصهيوني.

**

ويمكنني الزعم بأن الهجوم الفاحش على «عبد الناصر»، والانقضاض المدمر على كل منجزات الفترة الناصرية من عُمر جمهورية يوليو، كان هو المحرك الأساسي لتكوين تيار ناصري شاب يرفض ذلك الهجوم، ويعارض تلك السياسات المستجدة، ويواجه بصدره العاري ذلك الانقضاض الشرس على ناصرية ثورة يوليو.

هكذا ارتبطت نشأة وتكوين التيار الناصري بالدفاع ضد تلك الهجمة الشرسة، وظل الناصريون في تلك الحالة من الدفاع المستمر في مواجهة هجوم متجدد، يرفده أعداء «عبد الناصر» الطبقيين، وتؤجج نيرانه قوى سياسية عادت نظامه، وثارات تاريخية لبعض التيارات السياسية على رأسها تنظيمات الإسلام السياسي، وأعداء القومية العربية، يضاف إليهم رصيد من الكراهية يشعل فتيلها الساداتيون والكتبة الممولون من السعودية، والتابعون لسياسات الأجهزة التي حاولت قتله حيًا، ثم لما توفي راحت تحاول أن تغتال سيرته ومشروعه وتاريخه حتى لا يظهر ناصر جديد حسب تعبير شائع للسيناتور الأمريكي جون ماكين.

**

لست ممن يقولون بإعادة اتباع سياسات الماضي كما حدثت، ولست أرى أن هناك إمكانية لعمل ذلك من أصله، ولا أنا مع نفس الوسائل التي استخدمها «عبد الناصر»، ولا الأساليب في حد ذاتها هي المهمة بهذا الخصوص، كل ما يهم هو الأساس الذي بني عليه «عبد الناصر»، سياسته في الداخل والخارج، وهو استقلال الإرادة المصرية وتحرير القرار المصري.

 

فضيلة التجربة الناصرية الأساسية -بشقيها الفكري والتطبيقي- أنها جاءت استجابة واعية لتحديات الواقع، تطورت أفكارها، وممارساتها، وتبلورت خطوة وراء أخرى عبر التفاعل مع الواقع، وراحت تتعلم بالتجربة أن الاستقلال الوطني لا يمكن أن يكون علما يُرفع في المناسبات، ونشيدا يُصدح به في الأعياد الوطنية، وتعلمت بالممارسة أن التنمية الشاملة هي الوجه الآخر للاستقلال، وأن القرار الوطني منقوص، طالما قصرنا في تنمية قدراتنا الذاتية، وتعلمت بالدم أن أمن مصر الوطني لا يمكن أن ينفصل بأي حالٍ عن أمنها القومي في محيطها العربي.

ولكن ظلت «الديمقراطية» هي الحلقة الأضعف في التجربة، وقد نفذت من خلالها القوى المضادة للثورة لتنقض عليها، وتنقلب على كل منجزاتها وأفكارها، انحيازاتها وسياساتها.

**

ليس عندي أدنى شك في صحة ومنطقية الأسس النظرية التي تقوم عليها أعمدة الرؤية الناصرية للديمقراطية، لكنني يجب أن أعترف (في الوقت نفسه) بأن التجربة الواقعية لم تنجح في تقديم الصورة الأفضل لنظام الحكم، وفشلت في تقديم الصيغة الأمثل للممارسة السياسية التي تحقق هذه الرؤية وتجعلها قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.

ربطت الناصرية بين فكرة توكيد السيادة للشعب ووضع السلطة كلها في يده، وتكريسها لتحقيق كل أهدافه، وبين إقامة مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع العمل وتكافؤ الفرص، مجتمع الإنتاج والخدمات، فالناصرية ترى أنه لا معنى للديمقراطية السياسية (أو للحرية في صورتها السياسية) من غير الديمقراطية الاقتصادية (أو الحرية في صورتها الاجتماعية)، وأنه لا يمكن الفصل بينهما، ورأى الميثاق (الوثيقة الفكرية الأهم للناصرية) إن الديمقراطية هي: الحرية السياسية، والاشتراكية هي: الحرية الاجتماعية، ولا يمكن الفصل بين الاثنين لأنهما جناحا الحرية الحقيقية، وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب.

**

على هذه الأسس النظرية قامت فكرة تنظيم «الاتحاد الاشتراكي» الذي كان الأمل معقودا على أن يكون المعبر عن سلطة «تحالف قوى الشعب العامل» من العمال والفلاحين والمثقفين والرأسمالية الوطنية والجنود، وبهذه الصفة احتكر «الاتحاد الاشتراكي» العمل السياسي، في ظل حظر تكوين الأحزاب، ولكنه –بالنتيجة- صار رديفًا لأجهزة الدولة التنفيذية والأمنية، ونظرًا لظروف نشأته عجز «الاتحاد الاشتراكي» عن أن يكون تعبيرًا جادًا عن «الديمقراطية السليمة»، وفشل في تكوين مناخ حقيقي للممارسة السياسية، بل ربما ساهمت بعض ممارساته في وأد روح الحرية السياسية في المجتمع.

وهكذا ظل وعد «الديمقراطية السليمة» مؤجلًا، ومن بعد صارت «الديمقراطية المؤجلة» هي مقتل التجربة، وهي مضافة إلى أسباب أخرى، منها الداخلي ومنها الخارجي، تسببت في الارتداد عن التجربة بكل سهولة ووسط رضى شعبي جرى تصنيعه بالدعاية المضادة.

**

تخفف أنصار شعار «حتمية التحول الاشتراكي»، من كلمة «الاشتراكية» التي صارت مدلولًا بعيد المنال، بسبب تغير الأحوال، واستبدلوها بشعار «العدالة الاجتماعية»، سواء كانوا ناصريين أم ماركسيين، وهو أمر فرضته الظروف المتغيرة، التي أعادت ترتيب الأولويات تبعا للمتغيرات الجديدة التي جاءت بها تلك المياه التي ملأت نهر النيل عكارة، خلال العقود الستة الماضية، والتي جعلت قوى اليسار وفي القلب منهم الناصريين، تدرك أهمية وضرورة وأولوية رفع شعار «حتمية الحل الديمقراطي».

لم يعد يكفي القول -كما قلنا في الستينيات- أنه لا حرية لجائع، فقد صرنا اليوم ندرك أنه لا حرية لخائف، وإذا كان صحيحا -وهو صحيح في نظري- أن رغيف الخبز هو ضمانة تذكرة الانتخابات، فصحيح أيضا أن حرية الكلمة هي الضامنة لكفالة رغيف الخبز لكل المواطنين.

**

كنا نؤمن أن فقدان الحرية الاجتماعية لجماهير الشعب سَلَبَ كل قيمة لشكل الحرية السياسية التي كانت تفضلت بها عليها الرجعية المتحكمة، والآن بتنا أمام حقيقة -لا يمكن انكارها- تؤكد أن فقدان الحرية السياسية وعدم إشراك جماهير الشعب سَلَبَ كل إنجاز تحقق تحت مسمى الحرية الاجتماعية.

إن حرية التصويت من غير حرية لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة فيها، وأصبحت خديعة مضللة للشعب، هكذا كنا نقول، وهو قول صحيح، ولكن الصحيح أيضا أن نقول إنه بات ضمن دائرة الخديعة نفسها أن يقال إن لقمة العيش تغني عن حق المشاركة الشعبية في صناعة القرار عبر حريات أساسية يجب أن تتمتع بها جماهير الشعب.

**

كنا نؤكد على أن الديمقراطية هي الحرية السياسية، وأن الاشتراكية هي الحرية الاجتماعية، وأنه لا يمكن الفصل بين الاثنين، وهذه قناعة نظرية صحيحة، ومنطقية أكثر، ولكن التجربة على أرض الواقع أثبتت أنه تم الفصل بينهما، وفقدت الحرية الحقيقية أحد أجنحتها التي بفقدها لم تستطع أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب.

وكنا نرى أن هذا «الحل الاشتراكي» هو المخرج الوحيد إلى التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهو الطريق إلى الديمقراطية في كل أشكالها السياسية والاجتماعية، ولم يعد أمامنا مفر أن نؤمن بيقين أن «الحل الديمقراطي» هو المخرج الآمن إلى تحقيق نهضة شاملة على كل المستويات بما فيها التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي يحقق تلك الحرية الاجتماعية.

**

حين وقف «حمدين صباحي» أمام الرئيس «أنور السادات» يعبر بقوة وصلابة عن مواقف جيل جديد ضد السياسات الجديدة التي رآها هذا الجيل انقلابًا على خط «عبد الناصر»، كان عمره وقتها 23 سنة، تخرج لتوه من كلية «الإعلام» وشرع في إجراءات التجنيد، ومع ذلك كانت صياغات ذلك الشاب تبدو مُحكمة، وشجاعة، وتعبر عن رؤية جيله، وجاءت مفحمة لمنطق «السادات» رغم محاولاته في التشويش عليها، حتى إنه استوقفه أكثر من مرة، واتهمه مرات بأن يريد إعادة مصر إلى عصر التعذيب، والاعتقالات، والحراسات، والإجراءات الاستثنائية، ووصفه بأنه من أنصار مراكز القوى، ومن أتباع علي صبري، وكان رد «حمدين» مفحمًا: (يا أفندم أنا كنت في السادسة عشر من عمري وقت دخولهم السجن)، كان ذلك هو الاختصار المخل الذي دأب «السادات» على تقديمه لصورة مصر تحت حكم «عبد الناصر».

بعض الناصريين –للأسف- يريدونها على النمط الذي حاول «السادات» أن يشوش به على «حمدين» ودأب على ترديده بعد ذلك في خطبه، ومن بعد في كتابه «البحث عن الذات»، فتراهم يدافعون عن كل خطأ، ويردون على كل إجراء، ويتعاركون حول أي انتقاد، والأسوأ أن يكون هذا موقفهم وموقعهم من النقد الذي يأتي من داخل البيت، ومن المحسوبين على الخط والرؤية الناصرية.

**

لا يمكن للتيار أن يستعيد حيويته من مواقع دفاعية، وإن أراد أن يستعيد ألقه، فالطريق أمامه واضحة تبدأ بالمراجعة، وليس التراجع، وربما لا تنتهي إلا برؤية جديدة قادرة على أن تنجح في مهمة بناء تنظيمي جديد، وهي المهمة التي استغرقت كل عمل الناصريين طوال نصف القرن الماضي ولم يحققوا فيها نجاحا يُذكر، ذلك أن الأساس كان لابد أن يُبنى على أرض نظرية صلبة لبناء تنظيمي ناهض يمتلك القدرة على التنامي والنمو.

وفي رأيي أن المبادرة إلى المراجعات من داخل البيت هي خير وسيلة للانتقال من حالة الدفاع لأول مرة منذ رحيل عبد الناصر حتى اليوم، وأن الاقدام على المراجعات هو في الحقيقة إعادة الحيوية من جديد للتيار الناصري، وإعادة فرزه مجددًا على رؤية نظرية محكمة ومواقف سياسية متطورة.

**

أن يتقاعس الناصريون عن المراجعات الفكرية الضرورية بحجة أن بعض القوى المعادية لثورة يوليو تتربص شرا ويمكن أن تستخدم هذا النقد العلني ضد الثورة، فذلك نوع من العذر الذي أراه أقبح من الذنب، فأعداء الثورة وقوى الثورة المضادة لم يدخروا وسيلة إلا استغلوها، ولم يبخلوا حتى في اختراع أسباب ووسائل يهاجمون بها «عبد الناصر» وتجربته ومشروعه.

الناصريون مطالبون ـ إذا أرادوا أن يكون لهم مكان في المستقبل ـ بأن يبادروا ـ قبل غيرهم ـ في عملية نقد للذات واسعة وعميقة وحقيقية، فالناصرية لم تكن إنجاز مرحلة مضت، بل تركت -وهذا هو المهم- مشروعا يمكن تطويره، وهي على الحقيقة لم تكن نظرية تغيير جاهزة، بل راحت تطور نفسها، وتطورت أفكارها، وتبلورت أكثر فأكثر خلال مشوارها، وهي تحمل مشروعا قابلا للتطوير، والأهم أنه قابل لكي يكون هو مشروع المستقبل.

وتلك هي القضية.

**

وأخيرًا، لابد من التأكيد على أن البرنامج السياسي للناصريين تطور كثيرًا، وقطع صلته مع الفكر السياسي الإقصائي والاستبدادي، ودخل التيار الناصري في جملته ضمن أكثر التيارات السياسية التي تطالب بالتعددية السياسية، والدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، والدفاع عن حقوق الإنسان.

ولعل أجمل هدية يقدمها الناصريون إلى «جمال عبد الناصر» في الذكرى الرابعة بعد المائة لميلاده: أن يشرعوا على الفور في وضع برنامج تفصيلي (يشمل ندوات ودراسات وورش عمل) للكيفية التي يؤدون بها واجب الوقت وهو: (قراءة ناصرية لتجربة جمال عبد الناصر، العبر والدروس)، يقدمون من خلالها رؤية جديدة تعيد انطلاقة التيار في كامل عنفوانه مرة أخرى أقوى من انطلاقته القديمة في مواجهة الردة الساداتية.

**