إن الوصول إلى حالة إنهاء العنف المبني على النوع الاجتماعي هو أمر مركزي في البناء الاقتصادي للمجتمعات وتطورها. وكذا زيادة معدالت الإنتاجية، وخفض التكلفة الاقتصادية التي تتحملها الأسرة والدولة، لمعالجة النتائج المترتبة عن العنف. وهذا أمر شديد التعقيد والتشابك. كما أنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وواقعية. على أن تكون قادرة على مواجهة الحقائق وإعادة البناء.

ومن هذا المنطلق، قدم الباحثان وفاء العشري ومجدي عبدالفتاح في مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) عددًا من التوصيات. وهي تستهدف تمهيد طريق حلحلة هذه الأزمة. ذلك في ظل غياب طرحها الجدي برلمانيًا إلى الآن. إذ لم تجر مناقشة مقترح قانون مناهضة العنف ضد النساء. وقد تم إعداده من قبل تسعة منظمات مجتمع مدني. وكذلك لم تجر مناقشة مقترح قانون تجريم كافة أشكال العنف ضد النساء. وقد تم إعداده من قبل المجلس القومي للمرأة. ولم يتم إنشاء مفوضية لمكافحة كافة إشكال التمييز التي أقرها الدستور المصري في المادة 5.

العنف الذي منبعه الأسرة

وفقًا لنظرية الضبط الاجتماعي لدى هيرشي، فإن “الذين لديهم روابط اجتماعية قوية هم أكثر عرضة للتوافق مع التقاليد. في حين أن الأفراد ذوي الروابط الاجتماعية الضعيفة، أو المعدومة هم أكثر عرضة للانحراف عن المعايير والمشاركة في السلوك المنحرف”. وهي مرتبطة بأربع عناصر أساسية: (الارتباط – الاندماج – الالتزام – العقيدة).

لذا تعد الأسرة المصدر الأول والرئيسي في تعلم الأفراد سلوك العنف. إذ يتعلم الأفراد المعايير والقيم التي تبين أن العنف هو الطريق الوحيد للحصول على ما يريدون. ومن هنا يمكننا أن نعرف العنف الأسري بأنه نمط سلوك عدائي ينشأ في ظل وجود علاقات غير متكافئة في إطار نظام يقيم العمل بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، وما يترتب عليه من تقسيم وتنميط الأدوار بين أفراد الأسرة، وفقًا لإملاءات النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد. وذلك العنف ليس خاصا بالفقراء أو البطالة أو الضغوط الاقتصادية فقط. لكنه يشمل الثقافات
والأعراف التي نشأ عليها المجتمع.

للاطلاع على الورقة البحثية لمركز دام.. اضغط هنا

أرقام عن العنف الأسري في مصر

وفق التعداد العام لمصر سنة 2017 والصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بلغ عدد النساء المقيمات في الريف 26.486.209 من إجمالي عدد النساء في مصر، والبالغ 45.906.334 بنسبة 57.69 % من إجمالي عدد النساء في مصر. فيما بلغ عدد النساء داخل الريف في سن التعليم 10 سنوات وأكثر 19.384.071. وبلغ عدد النساء غير الحاصلات على أي مؤهل تعليمي 9.514.243 بنسبة 49.8% من إجمالي النساء المقيمات في الريف. بينما بلغ عدد النساء اللاتي لم يلتحقن بالتعليم نهائيًا من الفئة العمرية 4 سنوات فأكثر 8.662.391 بنسبة 32.7% من إجمالي النساء المقيمات في الريف. وبلغ عدد النساء المتسربات من التعليم في الريف 1.731.501 بنسبة 6.53% من إجمالي نساء الريف. بينما بلغ عدد الملتحقات بالتعليم 7.081.870 بنسبة 26.73% من إجمالي النساء. أما النساء اللاتي التحقن بالتعليم وأنهين تعليمهن بالحصول على مؤهل دراسي ما بين تحت المتوسط والمتوسط وفوق المتوسط والعالي فكان عددهن 5.788.819 بنسبة 21.85% من إجمالي النساء المقيمات في الريف.

وبالنظر إلى الفئة العمرية الأكثر ضررًا والتي تتعرض للمزيد من العنف والتهميش والواقعة ما بين 18 – 30 عامًا، فيبلغ عدد النساء المقيمات في الريف من تلك الفئة العمرية 8.454.615 بنسبة 31.92 من إجمالي النساء المقيمات في الريف. فيما يبلغ عدد النساء غير الحاصلات على أي قسط من التعليم بين تلك الفئة العمرية 2.896.294 بنسبة تصل إلى 31.95% من إجمالي النساء في الفئة العمرية 18 – 30 عامًا.

وتتعرض تلك الفئة للعديد من الانتهاكات والعنف والتهميش، والذي يؤثر بالسلب على محاولات تمكينهن على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. حيث بلغت عدد المتزوجات 7.583.807 بنسبة 89.70% من إجمالي الفئة العمرية 18 – 30 عامًا. بينما يبلغ عدد المتزوجات القاصرات من الفئة العمرية أقل من 15 – 17 عامًا 11.292.676 بنسبة 42.63% من إجمالي النساء المقيمات في الريف.

اقرأ أيضًا: ما الذي تغير في ظاهرة العنف الأسري بمصر خلال 2021؟

إشكالية العنف الأسري في مصر

تتساوى أشكال العنف الأسري بين شرائح المجتمع المصري المختلفة على المستوى التعليمي أو الثقافي أو الاقتصادي. فيما يكمن الاختلاف في إمكانية تصدي المجني عليه/ها للعنف الواقع عليه/ها، نتيجة للتطور المجتمعي في مفاهيم العنف وقدرة بعض الضحايا في التعبير عنه.

ترى الباحثة ماريان سيدهم أن العنف الأسري داخل المجتمع المصري لا يختلف في أسبابه. ذلك على الرغم من تعدد هوياته الدينية والثقافية. وبحكم الواقع يلجأ العديد من الأزواج من أصحاب الديانة المسيحية إلى النصوص الدينية. وأغلبها غير مؤكد في “تأديب الزوجة”. وإنما يرجوع إلى موروثاتهم المجتمعية التي اكتسبوها، حتى في وجود إتاحة منضبطة لآليات المحاسبة والتقاضي.

أيضًا، تشير ماريان إلى الإشكاليات التي تقابل النساء في التطليق (يتساوى في ذلك إذا كانت هي المتضررة، أو بطلب الزوج). وتوضح أنه على الرغم من هجرة بعض الأسر إلى دول متطورة وتقدمية. لكنها لم تتخل عن هذه الموروثات التي تدفع إلى ارتكاب جرائم قتل، كما حدث في حادثة مصرع السيدة جيهان كيرلس من زوجها مراد كيرلس في مايو 2019 بسيدني أستراليا.

تؤكد ماريان على تطور أداء الكنيسة، رغم بطأ وتيرته في التعامل بشأن هذا الملف الحساس، من حيث الخطاب السائد والأدوات المستخدمة انطالقًا من أهمية الأسرة الصغيرة، كنواة لمجتمع خال من العنف الذي يحمل الأسرة والدولة تكاليف اقتصادية باهظة، وليس لمجرد الحفاظ على الهوية الدينية.

تقول المحامية انتصار السعيد، في حديث لها نشر على “مصر 360″، إن هناك إشكالية أمام حالات العنف الأسري، التي دائمًا ما تنتهي إلى حفظ الشكوى في حالة التقدم ببلاغ استنادًا إلى “الحفاظ على الروابط الأسرية”. حيث تنص المادة 60 من قانون العقوبات على أنه: “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة”.

لذلك، أباح النص لولي الأمر استخدام الحق في التأديب طالما لا يخالف الشريعة، وفقًا للسعيد. تضيف أن النص به تمييز واضح ضد النساء. وهناك مطالبات عديدة لتعديله، ووضع قانون موحد لتجريم العنف.

هل استجابت البنية التشريعية لمناهضة العنف الأسري؟

التشريعات هي أحد أهم الأدوات التي يمكن أن تعبر عن مستوى مناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي بكافة أشكاله وتبني مفهوم المساواة. ذلك باعتبار أن البنية التشريعية تعد انعكاسًا للأوضاع الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية في المجتمع، ومن خلال هذا الانعكاس لا يمكن إنكار التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على المشرع، كونه أحد مكونات المجتمع كفرد ينتمي إلى مجموعات مجتمعية تلعب دور في التأثير والتأثر بالثقافة والأعراف المجتمعية وتوجهاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولهذا الوضع تأثيرات كبيرة على فلسفة وتوجهات البنية التشريعية، المفترض لها أن تكون جزءًا أصيلا من سياسة إنهاء العنف ضد النساء.

وفق الملخص التنفيذي الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد المرأة، سنت الحكومة ما يقرب من 19 قانونًا و9 مراسيم وقرارات خلال فترة تنفيذ الاستراتيجية من 2015 – 2020. من بين هذه القوانين: تجريم ختان الإناث بشكل تام. وكذلك تعديلات قانون الطفل وحماية الأمهات السجينات والاتجار بالبشر. بالإضافة إلى تعديلات قانون الميراث وقانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وأيضًا قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وتعديلات قانون الإجراءات الجنائية المتعلقة بحماية بيانات الناجيات من العنف.

إجراءات لا ترتقي إلى الأهداف

إلا أن تلك الإجراءات لا ترتقي إلى الأهداف التي تم تحديدها في الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف، والتي تم التأكيد عليها في الاستراتيجية الوطنية للتمكين الاقتصادي للنساء 2020 -2030. وهي تسعى إلى الوصول إلى “صفر” مشاكل وعنف ممارس ضد النساء.

الواقع يؤكد أن البنية التشريعية المصرية لا تزال تحمل العديد من القوانين التميزية ضد النساء. ومن أبرز تلك القوانين قانون العقوبات المصري. وهو يقنن العنف الأسري بالمادة 60 التي تنص على “لا تسري أحكام القانون على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق المقرر بمقتضي الشريعة الإسلامية”. وتمد الجناة بالحصانة حين يُمنح الجاني الرأفة إذا أثبت أن ما ارتكبه من اعتداء كان “بنية سليمة” مثل التربية أو تقويم السلوك.

هنا يضع القانون الفئات الأكثر ضعفًا في علاقات القوة الاجتماعية (أطفال – ونساء)، تحت رحمة الرجال. إذ أن العنف الجسدي أو النفسي أو الاقتصادي سواء بالحرمان أو المنع هو مقبول على المستوى الاجتماعي حين تتم ممارسته داخل الأسرة. لذلك تقع الناجيات/ين منه تحت ضغط كبير، إذا ما حاولن/وا رفض أو مقاومة هذا العنف. ويتمثل هذا الضغط في الوصم والنبذ والتحقير حين يحاولون إثبات هذا الاعتداء.

الأقليات الجنسية والعنف المسكوت عنه

شريحة أخرى لم يزح الستار عن ما تتعرض له من عنف أسري نتيجة اختيارهم “هويتهم الجندرية”، مع حساسية قضيتهم داخل المجتمع المصري.

“ملك الكاشف – 22 عامًا” من العابرات جنسيًا، تحكي عن العنف الأسري الذي تعرضت له منذ إدراك وعيها وبحثها عن هويتها في سن التاسعة من عمرها. حين روت لوالدتها عن ما تشعر به كان من نتيجة ذلك حبسها في غرفتها وتعرضها للإيذاء الجسدي من والدها. تعرض للضرب بـ”الحزام”، واستمرت أزمتها عالقة في ذهنها حتى سن الحادية عشرة. هذا لم يثنيها عن الاستمرار في إصرارها على تحديد هويتها الجندرية المختلفة.

تعرضت “ملك” لكل أنواع العنف الجسدي واللفظي والنفسي من الأسرة والمحيطين بها. وفي الأخير أودعتها الأسرة إحدى المصحات النفسية. هناك في المصحة تعرضت أيضًا للعنف النفسي والمعنوي. وعندما وصلت إلى سن 16 خرجت من منزلها بلا عودة.

المجتمع كذلك مارس عنفه عليها، فلا يعترف بهويتها ولا يتقبلها على أقل تقدير. وفي الأخير قررت أسرتها أن ترضخ لحقيقة اختلافها، لكنها اشترطت أن يظل الأمر طي الكتمان. حيث يتم استقبالها بين فترة وأخرى وهي متخفية. “ما تعرضت له في المجال العام هو امتداد لما تعرضت له في محيطي الخاص”، تقول “ملك” التي لا تبرئ أسرتها مما تتعرض له حاليًا.

وفق مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي عام 2015، تتعرض 7.888 مليون امرأة تقريبًا سنويًا لأشكال من العنف. سواء من الزوج/الشريك أو من أشخاص مقربين أو غرباء. كما تتعرض قرابة 5.6 مليون امرأة سنويًا للعنف على يد الزوج/الشريك. وكذلك قرابة 2.4 مليون امرأة لنوع واحد أو أكثر من الإصابات بفعل الزوج/الشريك.

بالإضافة إلى ذلك تتعرض 40% من النساء اللاتي تعرضن لعنف الزوج/الشريك إلى الإجهاض أو يكن أكثر عرضة لإنجاب طفل يعاني من نقص الوزن بنسبة 7.3%. كما تتعرض نحو 200 ألف امرأة لمضاعفات الحمل بسبب عنف الشريك. وأيضًا 46% من النساء إلى العنف النفسي على يد الزوج/الشريك. فضلاً عن 12% من النساء تتعرض لعنف جنسي على يد الزوج/الشريك، و10% أجبرن على علاقة حميمة مع الزوج/الشريك. وكذلك 9% أقمن علاقة حميمة مع الزوج جبرًا خوفًا من غضبه.

تحديات وتوصيات

تكمن أهم التحديات أمام إنهاء العنف الأسري في مصر في عدم تغيير البنية الفكرية والثقافية حول المرأة وحرية الجسد داخل مؤسسات الدولة. إلى جانب ارتباط المفاهيم العامة للعنف الجنسي داخل المجتمع بأفكار رجعية (الشرف، العار).

كذلك، فإن لسياسات الدولة التقشفية المبنية وفق الأولويات تأثير مباشر على السياسات الخاصة بالمرأة. إذ لا تتبع السياسات الصادرة آليات حقيقية للحماية، وبنية تحتية لخدمات الحماية.

وذلك فضلاً عن وجود نصوص جنائية تميز بين الرجل والمرأة في التجريم والعقاب بالمخالفة للاتفاقية الدولية لمكافحة التمييز ضد المرأة. خاصة فيما يتعلق بمواد قوانين جريمة الزنا. بالإضافة إلى تجريم القوانين المصرية لعملية الإجهاض. وأيضًا استخدام بعض القضاة في القضايا الأسرية للمادة 60 من قانون العقوبات (الرأفة)، التي تسمح للجناة بالإفلات من العقاب.

ولحلحلة هذا الوضع، يرى الباحثان وفاء العشري ومجدي عبدالفتاح ضرورة تنفيذ عدد من التوصيات، تشمل:

1 – إنهاء حالة التمييز المبني على النوع الاجتماعي بكافة التشريعات الوطنية. وعلى رأسها قانون العقوبات المصري.

2 – الاعتراف بكافة أشكال العنف الأسري، والبدأ في التثقيف الجنسي الشامل، والذي يشمل (الثقة الجنسية، ومحو الأمية الجنسية، والتمكين، والكفاءة، والتضامن).

معني الثقة والكفاءة لا يقتصر فقط على الشعور والاستعداد والقدرة على ممارسة الجنس، ولكنه يشمل وجود احترام للذات ومهارات التواصل والشعور بالتمكين واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الجنس وقضايا حقوق الصحة الجنسية والإنجابية بالمعني الواسع والشامل، الذي يضمن المساواة وعدم التمييز بين الجنسين أو بين الفئات المختلفة، سواء على مستوى الميول أو التوجه الجنسي أو المعتقدات الدينية والانتماء السياسي أو الطبقي بكافة المناهج التعليمية، بعد مراجعتها وحذف كافة أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي.

3 – إشراك كافة الأطراف المعنية: مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات في إعداد برتوكول موحد لمفاهيم الجنسانية لمناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي، واعتباره دليلا استرشاديًا لقياس جودة وكفاءة الخدمات المقدمة ومعايير مدى رفع كفاءة القائمين بالأعمال في كافة المؤسسات المختلفة.

للاطلاع على الورقة البحثية لمركز دام.. اضغط هنا