في محاولة لخلق بدائل عن هدم مناطق بالقاهرة التاريخية، خاصة منطقة الجبانات التراثية لتنفيذ مخطط حكومي بإنشاء محاور مرورية وتوسعة أحد الطرق الرئيسية في العاصمة. عقدت مجموعة إنقاذ جبانات القاهرة ندوة بمكتبة القاهرة لدراسة الحلول ولتأكيد أهمية تلك المنطقة تراثيا.

وشهدت الندوة التي بدأت بتناول المنطقة تاريخيا في محاولة لإنقاذها من الإزالة جدلا بين الحضور وبين استشاري الهيئة الهندسية وأحد القائمين على تصميم محاور توسعة القاهرة. وتصميم كباري مصر الجديدة ومحور الفردوس.

وأشار استشاري الهيئة الهندسية هاني عيسى الفقي -أحد المسؤولين عن مخطط التوسعة- إلى أنه لن يتم المساس بما هو أثري بما يشمل الجبانات الموثقة.

وهو ما أوضحه المهندس طارق المري -استشاري الحفاظ على التراث وخبير مركز التراث العالمي باليونسكو- خلال ندوة “العمارة الجنائزية في مصر المعاصرة.. خطر يواجه جبانات القاهرة التاريخية”. وقال إنه تم تسجيل القاهرة على لائحة التراث العالمي كمدينة وليست كمبان. وهو ما لم يكن مسجلا في السجلات المصرية وتلك مشكلة يقع فيها المتخصصون. حيث يذكر أنه لم تتم إزالة أثر لكن يقوم بإزالة أشياء “في درجة الآثار”. مضيفا: “نريد أن نمحو كلمة آثار ونعمم فكرة التراث”.

حملة إنقاذ الجبانات

قامت حملة إنقاذ جبانات القاهرة بتقديم عريضة وقع عليها 3 آلاف مهتم إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي. تضمنت حلولا بديلة. فضلًا عن عمل أعضائها على التفاوض مع متخذي القرار. وذلك في محاولة لوقف إجراءات الهدم والإزالة قبل الشروع في اللجوء إلى القضاء.

وأوضح استشاري الحفاظ على التراث وخبير مركز التراث العالمي باليونسكو أنه في كل المدن الدولية المسجلة في قائمة التراث وغير المسجلة مثل فينيسا وفلورنسا وبروج في بلجيكا يتم تقليل المرور بها لمستوى 10%. وذلك لتفادي اختراق المنطقة بإنشاء الطرق السريعة خارج المدن القديمة. حتى لا يسهم ذلك في تشويه المنطقة وعدم تغير المقياس الآدمي الموجود في المدن القديمة التي تحوي حارات ضيقة ويتم استبدال الكباري بأنفاق.

وكشف “المري” أن المخطط هدفه تحقيق انسيابية في المرور بطريق صلاح سالم. ولكنه في المقابل سيتم إزالة عدد من القرافات والقباب. منها قبة الأميرة شويكار واختراق جبانة المجاورين. وقال: “العنوان الذي يأتي مبررا للإزالة بأنها ليست مسجلة ولم يتم إزالة أثر مسجل”. مشيرا إلى أن تكدس السيارات بتلك المنطقة سينتج عنه عادم يؤثر على المباني التراثية الموجودة.

جبانات تاريخية.. ونفق الأزهر

وأشار إلى أن البديل هو توسعة نفق الأزهر. متفاديا دخول المقابر مع إنشاء كوبري من سفح القلعة حتى مخرج النفق. ونقل مجمع مواقف ميدان السيدة عائشة إلى خارج المنطقة.

وقال المهندس هاني الفقي -الذي دافع عن المخطط الحكومي: “90% من المتضررين غير موثق الجبانات الخاصة بهم. بالإضافة إلى السور فهو أيضا غير مسجل بالتنسيق الحضاري أو اليونسكو”. مؤكدا أنه لا بد من تطوير المنطقة وهدم العشوائيات. وذلك رغم توضيح خبراء الآثار والتاريخ أهمية منطقة الجبانات.

وقالت الدكتورة جليلة القاضي -أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس- إنه بعدما نما إلى علمهم المعلومات التي جرى إخبارها للتُربية ومسؤولي المدافن بشأن وضع علامات على بعض الأحواش تمهيدا لإزالتها. تم تشكيل مجموعة إنقاذ جبانات القاهرة. وذلك بهدف كشف وتوثيق مسار الأحواش ذات القيمة التي سيتم إزالتها. والتي تأتي ضمن محور سيقطع الجبانات الجنوبية ويحيط الجبانة الشرقية.

وأضافت أن المجموعة كانت حريصة أيضا على توثيق المشهد العمراني حتى لا تقع طي النسيان لكونها موقعا فريدا لا مثيل له في العالم العربي.

وكشفت القيم التي تملكها “القرافة” من حيث القيمة التاريخية والروحية. إلى جانب قيمتها الأسرية والإنسانية. مشيرة إلى أن القرافة تمتلك قيمة اجتماعية وثقافية. بداية من المصريين القدماء الذين تركوا المقابر التي أطلعتنا على التاريخ المصري القديم. وقالت: “لو كل حاكم جاء وقام بإزالة وهدم مقابر من قبله كان تاريخ مصر لم يوجد. كذلك جبانات المصريين المحدثين إن تمت إزالتها كأنهم لم يوجدوا”.

القرافة تمتلك قيمة اجتماعية وثقافية. بداية من المصريين القدماء الذين تركوا المقابر التي أطلعتنا على التاريخ المصري القديم
القرافة تمتلك قيمة اجتماعية وثقافية. بداية من المصريين القدماء الذين تركوا المقابر التي أطلعتنا على التاريخ المصري القديم

اليونسكو وجبانات القاهرة التاريخية

تلك الأهمية دفعت اليونسكو لوضع الجبانات عام 1979 على قائمة التراث العالمي. وأدرجت نقاط القاهرة التاريخية وأصبحت جزءا من التراث العالمي. ما أكسبها حماية عالمية. كما أن جهاز التنسيق الحضاري حين أنشئ عام 2002 بدأ يهتم بالجبانات ويسجل مناطق بأنها “مناطق ذات قيمة”.

ومن المستوى العالمي إلى المحلي. أسهم القانون 119 لسنة 2008 والذي وافق عليه مجلس الوزراء ومجلس الآثار في 2009. بالإضافة إلى قانون الآثار 117 لسنة 1983 وقانون 144 لسنة 2006 على حماية التراث والآثار التاريخية والجبانات. وهو ما يحميها باعتبارها “تراثا على المستويين المحلي والعالمي” -بحسب “القاضي”.

أما عن التحديات التي تواجه الجبانات. جاء التوسع العمراني ونشأة التجمعات السكنية داخل الحيز الجغرافي للجبانات وحول الأضرحة. كذلك الإهمال. فإما أن يتحول الأثر إلى مجمع للنفايات أو مغطى بالمياه الجوفية أو موقف سيارات. فلا يوجد مخطط بداية من عام 1956 للقاهرة الكبرى يوضح كيفية التعامل مع الجبانات. والعلاقة بين مدينة الأحياء والموتى والجيوب السكنية داخلها. سوى مخطط 2050 الذي ذكر أنه سيتم إزالتها تماما. وتابعت: “عند تفاقم المشكلة أسهل قرار يتم اتخاذه هو قرار الإزالة”.

وأشارت القاضي إلى عمليات التطوير السابقة وتأثيرها على المنطقة: “أسهم طريق صلاح سالم والأوتوستراد في تآكل الحواف. وأسهم محور الفردوس في اختراق الجبانات من الشرق للغرب. وتمت إزالة عدد من الأحواش ذات القيمة والمسجلة أيضا”، مؤكدة أن المنفعة العامة لها اعتبارها والحفاظ على التراث أيضا منفعة عامة أعلى.

مشروع صادم سيزيل تاريخ مصر

وعن المشروع الجديد وصفت “القاضي” ذلك المشروع بـ”الصادم”. فتوسعة طريق “صلاح سالم” 12 متر سينعكس على إزالة مجموعة أحواش ذات قيمة. والمسار الآخر في قرافة المماليك يحتوي جانباه أهم أحواش الأعيان في مصر. مشيرة إلى أن المحور الموازي لمحور الفردوس كان قد تم تقديمه إلى هيئة التنسيق الحضاري 2009 وتم رفضه.

وأكدت أن من خطط لمحاور الجبانة الجنوبية لم يكن يعلم ماذا سيزيل في المقابل. فتاريخ مصر بأكمله من أحواش أسرة محمد علي والعائلة المالكة ورموز مصر الفكرية في الأدب والشعر والفن. أي ذاكرة مصر في طريق ذلك المخطط، مشيرة إلى أنه لا بد من بديل لتقليل الخسائر والحفاظ على التراث وتحقيق المنفعة بالنسبة للحركة المرورية.

تسجيل القرافات

الدكتور حسام إسماعيل -أستاذ التاريخ بكلية الآثار جامعة عين شمس- أوضح أن بعثة اليونسكو 1979 حددت تسجيل أكبر مجموعة تضمن تجمعات أثرية من عصور مختلفة. وقامت بتحديد 6 مناطق للآثار شملت منطقة الجمالية والغورية ومنطقة مسجد المؤيد بالخيامية ودرب الأحمر والشافعي. ولكن بعد جهاد وهذا مسجل سنة 1980 ومثبت في مؤتمر الآثار الإسلامية الأول 1980 تحت رعاية قرينة رئيس الجمهورية وقتها، أنور السادات. وتم تجديد ذلك التسجيل ليشمل القرافات.

كتاب تاريخ

واعتبر الدكتور مصطفى الصادق -طبيب ومهتم بتراث الجبانات- أن منطقة الجبانات بمثابة كتاب تاريخ ملقى على الأرض. وذلك لما تحتويه من معلومات موثقة. من خلال الشواهد والتي تعتبر البطاقة الشخصية للشخص. مشيرا إلى أن العائلة المالكة بعد أن توفوا بالخارج قدموا إلى القاهرة ليدفنوا بها. وبإزالتها سنخسر كثيرا.

تحتوي تلك الجبانات على تاريخ ثري. ولذلك من الممكن إتاحة تلك الجبانات للجمهور وفتحها كمتحف. وقال إن عددا من الشواهد تعود إلى سنة 1696 ملقاة في مجمع للنفايات دون اهتمام. أي قبل من نشأة الولايات المتحدة بـ80 عاما.