لم يعرف تاريخ مصر حاكما أكثر جنونا وشطحا مثل الخليفة الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله. وقد ذخرت كتب التاريخ بغرائب قراراته وسياساته الشاذة، حتى وصفه البعض بأنه “الخليفة المجنون”. ذلك لما وصل إليه من شطط ادعاء الإلوهية. وهو الادعاء الذي لاتزال آثاره إلى الآن داخل الطائفة الدورزية الموجودة بالشام.

تأتي احتفالات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد الغطاس المجيد لتذكرنا بهذا الحاكم. حيث أنه منع الاحتفال بهذا العيد على ضفوف نهر النيل. وكان من عادة المصريين الاحتفال به بالنزول إلى نهر النيل في هذه المناسبة، حتى منعها الخليفة الفاطمي. ونرصد هنا تاريخ هذا الخليفة الفاطمي، وأبرز 20 قرارًا وصفها المؤرخون بالـ”الشاذة”.

تاريخ حكم الحاكم بأمر الله

الحاكم بأمر الله هو المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله المهدي. لقبه الحاكم بأمر الله، وكنيته أبو علي. وهو الخليفة الفاطمي السادس، والإمام الإسماعيلي السادس عشر.

ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 هـ الموافق لعام 985م. وقد تولى الملك بعد موت أبيه مباشرة في رمضان سنة 386هـ، وهو في عمر الـ11 عاما. واستمرت فترة حكمه 25 عامًا، ذلك حتى اختفائه ومقتله سنة 411 هـ الموافق لعام (1021).

يقسم علماء التاريخ فترة حكم الحاكم بأمر الله إلى ثلاثة أدوار متمايزة عن بعضها تمام التمايز. أولها عندما كان صبيًا، حيث سيطر على الحكم في تلك الفترة كبار الوزراء والأوصياء عليه، واستمر تلك الحال حوالى 4 سنوات. بعدها تخلص الخليفة من كل المحيطين به بالقتل، وسيطر على مقاليد الحكم. وهذه هي الفطرة الأشد عنفًا تجاه أهل أصحاب الديانة المسيحية واليهوية، وامتدت 10 أعوام تقريبًا.

فيما جاءت المرحلة الثالثة، والتي بدأ فيها بالدعوة إلى الدين الجديد، حيث ادعى تجسيد الإله في شخصه. ولجلب المؤيدين له ولفكره الديني الجديد اتبع سياسة أقل حدة مع المسيحيين واليهود. وألغى عددًا من الأحكام الصادرة بحقهم في فترات سابقة. كما أعاد بناء عدد من الكنائس التي كان قد هدمها.

المسيحيون واليهود

وتكتظ كتب التاريخ بالعديد من عجائب مراسيم وقرارات أصدرها الخليفة الحاكم بأمر بالله. وبالنظر لتلك القرارات المتعلقة بأصحاب الديانتين المسيحية واليهودية، نجد أن الخليفة الفاطمي أراد إثبات أن ولادته لأم مسيحية لم تجعله مسلما هادئا. لذلك ابتعد عن التسامح الذي أبداه حكام المسلمين تجاه المسيحيين واليهود، ودمر المعابد والكنائس. كما أصدر الكثير من المراسيم والأحكام الشاذة بحقهم ومنها:

  • تمييز أهل الذمة في الشوارع، وذلك عبر إلزامهم بارتداء ملابس معينة، وارتداء علامات مميزة لهم. وقد ألبس اليهود العمائم السود. فيما ألزم المسحيين بلبس ثياب الغيار “نوع من الأثواب علامةً عليهم”، وشد الزنار “نوع من الأحزمة” في أوساطهم.
  • أمر المسحيين بأن يحملوا فى أعناقهم الصلبان، طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال. فيما يحمل اليهود في أعناقهم قرامى الخشب في زنة (وزن) الصلبان.
  • أمر المسيحيين واليهود بألا يركبوا مع المسلمين فى سفينة، وألا يستخدموا غلاما مسلما، وألا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حماما.
  • منع المسيحيين من الاحتفال بعدد من الأعياد التى كان يحتفل بها شعبيّا كـ”عيدي الصليب والشعانين”. كما منع التظاهر بما كانت عاداتهم فعله فى أعيادهم من الاجتماع واللهو.
  • هدم عددًا كبيرًا من الكنائس والأديرة والمعابد، وأباح ما فيها للناس فنهبوا ما فيها من خيرات.

المسلمون وأهل السنة

ولم تسلم أركان الإسلام وأصحاب المذهب السني من شطحات الحاكم بأمر الله. وكان هناك عدد من الأحكام والمراسيم الشاذة بحقهم أيضًا، ومنها:

  • أصدر سنة 400 هـ سجل بإلغاء الزكاة ومنع صلاة الضحى.
  • حاول أن يعدل بعض الأحكام الجوهرية كالصلاة والصوم والحج. وقيل إنه شرع في إلغائها، أو أنه ألغاها بالفعل.
  • ألغى صلاة الجمعة (التي يصليها) في رمضان. وكذلك ألغى صلاته في العيدين، وألغى الحج، وأبطل الكسوة النبوية.
  • أمر بسب عدد من أصحاب الرسول، وعلى رأسهم أبي بكر الصديق وعمر الخطاب وعثمان بن عفان والسيدة عائشة ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب ذلك على أبواب المساجد. ولاسيما جامع عمرو، وعلى أبواب الحوانيت والمقابر، ولون بالأصباغ والذهب، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن.
  • منع صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها.
  • بنى بين الفسطاط والقاهرة مسجدا عظيما على ثلاثة مشاهد. وكان يريد أن ينقل إليه جسد النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن وقوف أهل المدينة له منع حدوث ذلك.
  • أصدر سجلاً بأن يؤذن لصلاة الظهر في أول الساعة السابعة ويؤذن لصلاة العصر في أول الساعة التاسعة.

غرائب وعجائب

ولكثرة غرابة وشطحات قرارات الخليفة الفاطمي تجاة المصريين، لاتزال تلك القرارات متداولة في الثقافة الشعبية للمصريين. حيث إنها لم تقتصر على الطوائف الدينية المخالفة له. وترصد كتب التاريخ العديد من تلك القرارات تجاه عوام الشعب المصري، ومنها:

  • منع وتحريم عدد من الأطعمة ومنها أكل الملوخية والبقلة المسماة بالجرجير والمتوكلية المنسوبة إلى المتوكل.
  • المنع من عجن الخبز بالرجل والمنع من أكل الدلنيس. بالإضافة إلى المنع من ذبح البقر التي لا عاقبة لها إلا في أيام الأضاحي وما سواها من الأيام. ولا يذبح منها إلا ما لا يصلح للحرث.
  • أصدر أوامره بألا يدخل أحدا الحمام إلا بمئزر، وألا تكشف امرأة وجهها في طريق ولا خلف جنازة ولا تتبرج.
  • لا يباع شيء من السمك بغير قشر، وألا يصطاده أحد من الصيادين.
  • أمر بأنه إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا إعظاما لذكره، واحتراما لاسمه.
  • أمر الناس بمصر والحرمين إذا ذكر الحاكم أن يقوموا ويسجدوا في السوق وفي مواضع الاجتماع.
  • أمر بقطع الكروم -أشجار العنب- ومنع بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرما. وكذلك أراق خمسة آلاف جرة عسل في البحر، خوفا من أن تعمل نبيذا.
  • منع النساء من الخروج من بيوتهن ليلا ونهارا. وهو القرار الذي استمر لأكثر من 8 شهور.

18 ألف قتيل

اتبع الحاكم بأمر الله منهج الفتك والقتل في تعامله مع الرعية، سواء كانوا من المقربين إليه وحاشيته، أو من كان من أهل الذمة -المسيحيين واليهود- أو مع أهل السنة وعلمائهم والمخالفين لمذهبه الشيعي. وتوثق كتب التاريخ روايات القتل في عهد الخليفة المجنون. وقد طالت الزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظمهم. هذا عدا من قتل من الكافة خلال هذه الأعوام الرهيبة، وهم ألوف عديدة.

وتقدر الرواية المعاصرة ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات.

وكان أشد الناس تعرضا لهذه النزعات الدموية، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة. ولم يكن عامة الناس أيضًا بمنجاة منها، فكثيرا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الشاذة التي توالى صدورها طوال حكمه.

وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه (غين)، والذي كان من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته. عينه في سنة 402 هـ للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد. وحينما سخط عليه ذات مرة أمر بقطع يده، فصار أقطع اليد. ثم سخط عليه مرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية، فقطعت وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به وأعطاه المال والهدايا الكثيرة. ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضًا، ومات غين من جراحه.

مسجده بالجمالية

يعد مسجد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المنصور، والذي يتواجد في نهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي، بحي الجمالية، أحد أبرز الآثار المتبقية للخليفة الفاطمي. وهو المسجد الذي تم بناؤه في حياة والده العزيز بالله الفاطمى عام 989 ميلاديًا. وكان شرع فى بنائه، لكنه توفي قبل أن يتم الإنشاء، فاستكمله ابنه الحاكم بأمر الله. وانتهى من بنائه في عام 1012 ميلاديا.

ويتميز المسجد عن سائر الآثار الإسلامية، كونه تأثر بكل الأحداث التاريخية التي مرت على مصر بشكل استثنائي. ذلك بداية من عهد الدولة الفاطمية، وحتى عصر الجمهورية.

وبعد أن كان المسجد أحد الجامعات الأربعة في مصر لتدريس العلوم بعهد الدولة الفاطمية -الثلاثة الأخرى جوامع عمرو بن العاص وأحمد بن طولون والأزهر- أهمل المسجد لفترات طويلة بعد سقوط الدولة. ووصل الأمر حتى تحولت أروقته إلى مخازن للتجار الآخرين المحيطين بالمنطقة. واستمر ذلك حتى عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات. حيث طلبت طائفة الشيعة البهرة، الإذن بتجديده بالجهود الذاتية، ودعي السادات إلى افتتاح المسجد.