في 11 سبتمبر الماضي، أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسي “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”. وقد وصف الإعلان عنها بـ”اللحظة المضيئة في تاريخ مصر المعاصر”. و”الخطوة الجادة على سبيل النهوض بحقوق الإنسان في مصر”. فيما ألحق ذلك بإعلان آخر في أكتوبر الماضي، أنهى به حالة الطوارئ التي استمرت لسنوات طويلة. ذلك لأن مصر باتت “واحة للأمن والاستقرار” في المنطقة. لكنه قبل أيام، وخلال حديثه إلى وسائل الإعلام الأجنبية على هامش منتدى شباب العالم قال الرئيس نصًا، وكان يرد على سؤال عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر: “هو أنتم بتحبوا شعبنا أكتر مننا؟ أنتم خايفين على بلادنا أكتر مننا؟”.
حالة من الارتباك سوف تصيب المتابع لملف “الحقوق والحريات” في مصر عندما يضع الإجراءات التي اتخذتها الدولة المصرية خلال 2021، والتي وصفت بأنها خطوة على طريق حلحلة هذا الملف المتأزم، جنبًا إلى جنب مع التصريحات الأخيرة للرئيس.
بين العمل على”الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” وإطلاقها، والتصريحات الرئاسية الأخيرة، تقف قضايا حقوق الإنسان في مصر على منحنى متأرجح بين الصعود بإطلاقات سراح باعثة للأمل وهبوطات بأحكام عقابية استندت إلى حالة الطوارئ الملغية. ربما كان أبرزها ما صدر بحق المحامي والنائب البرلماني السابق زياد العليمي، والصحفيين هشام فؤاد وحسام مؤنس.
صعود وهبوط.. أحكام وإفراجات وترحيل
كان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، قد صدّق في 24 نوفمبر الماضي. على الحكم الصادر يوم 17 نوفمبر من محكمة جنح أمن الدولة طوارئ. بالحبس 5 سنوات للبرلماني السابق زياد العليمي، والحبس 4 سنوات للصحفيين حسام مؤنس وهشام فؤاد. في اتهامهم بنشر وبث بيانات وشائعات كاذبة عبر حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي.
اقرأ أيضًا: «الأمل» مُدان بـ«الإيحاء».. الحبس من 3 إلى 5 سنوات بحق العليمي ورفاقه
بعد 20 يومًا من الحكم على العليمي وفؤاد ومؤنس، قررت محكمة جنح أمن الدولة طوارئ بالمنصورة، إخلاء سبيل باتريك جورج زكي الباحث بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وطالب الماجستير بجامعة بولونيا الإيطالية في القضية رقم 1086 جنح أمن الدولة طوارئ. كما قررت المحكمة تأجيل القضية، التي اتهم فيها جورج بـ”إشاعة أخبار كاذبة بالداخل والخارج” بسبب مقالة رأي نشرها على موقع درج الصحفي، لجلسة 1 فبراير 2022، وذلك للاستماع إلى المرافعات. فيما وصف بأنه استجابة من النظام المصري لمطالبات محلية ودولية بالإفراج عن “جورج”.
وفي العشرين من ديسمبر الماضي أصدرت محكمة جنح أمن الدولة طوارئ القاهرة الجديدة حكمًا بسجن علاء عبد الفتاح 5 سنوات، والمحامي محمد الباقر 4 سنوات والمدون محمد إبراهيم رضوان الشهير بـ”أكسجين” 4 سنوات، في القضية رقم 1228 لسنة 2021 جنح أمن دولة طوارئ بتهمة بث ونشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة.
تذبذب الإجراءات.. التعاطي مع حقوق الإنسان
فيما شهدت بداية العام الحالي مثول الكاتب الصحفي خالد البلشي أمام نيابة وسط القاهرة في الرابع من يناير 2022، بعد استدعائه للتحقيق في 9 بلاغات تقدم بها مجهولون يتهمونه بنشر أخبار كاذبة على حسابه على موقع فيسبوك بالإضافة لحساب موقع “درب” والذي يرأس تحريره.
وفي خطوة مفاجأة قررت السلطات المصرية في الثامن من يناير الجاري، الإفراج عن الناشط السياسي الفلسطيني رامي شعث وترحيله إلى فرنسا حيث تقيم زوجته التي رُحّلت عام 2019 بعد القبض على زوجها. وذلك بعد تنازله عن الجنسية المصرية.
لكن في 11 يناير الماضي، قررت محكمة النقض تأييد حبس الناشطة الحقوقية أمل فتحي -الحاصلة على جائزة برونو كرايسكي لدفاعها عن حقوق الإنسان- لمدة عام مع التنفيذ. بعد تعديل الحكم في القضية رقم 7991 لسنة 2018، المعروفة إعلامياً بـ”قضية التحرش”، والذي كان قد صدر فيها حكم بالحبس عاميين وغرامة10 آلاف جنيه، من محكمة جنح المعادي في ديسمبر 2018.
اقرأ أيضًا: أحكام بين 4 لـ 5 سنوات.. كواليس محاكمة علاء عبدالفتاح والباقر وأكسجين
يبدو التذبذب في الإجراءات بشأن ملف حقوق الإنسان جليًا، كما هو الحال بشأن التصريحات. فهل ينسف ذلك ذاك؟
لا يمكن تجاهل الاستجابات الأخيرة للنظام المصري في ملف حقوق الإنسان، بصرف النظر عن حجمها أو أسبابها. لكن حديث الرئيس الأخير، وما تلاه من تصريحات الدكتور مصطفى مدبولي، الأحد الماضي في حواره مع (BBC) يثير الشكوك حول عزم الدولة المضي قدمًا في ملف “حقوق الإنسان” والذي عاد ليتصدر واجهة الخلافات بين الغرب والنظام المصري، خاصة بعدما تولى الديمقراطي جوزيف بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مطلع العام الماضي. وإن كان الأمر بالطبع أكثر تعقيدًا لدى النظام المصري من مجرد ضغوط غربية في هذا الملف – تتحكم في حدتها بالأساس حجم المصالح بين الغرب والنظام المصري.
حقوق الإنسان.. ما يراه النظام وما يؤمن به العالم
“احنا بلدنا مش لاقية تاكل.. البلد دي عايزة تعيش والشعب ده عايز يكبر زي ما الباقي كبر” هكذا استكمل الرئيس السيسي رده على السؤال المتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
رد الرئيس يعيد الحديث القديم الجديد، حول الاختلافات بين المجتمع المصري والمجتمعات الغربية وأولوية القضايا. ما يعتبر رِدَّة عما قيل أنه تقدم في ملف حقوق الإنسان حيث يحيل هذا الخطاب قضايا الحريات والحقوق إلى الخلفية، تحت دعاوى أولوية المشكلات الاقتصادية وسعي الدولة لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.
يؤكد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري على هذه الرؤية في حواره مع الـ (BBC) الأحد الماضي فيقول ردًا على تساؤل حول حقوق الإنسان في مصر: “لا بد من الحديث عن كيف يرى الغرب مسألة حقوق الإنسان في الدول النامية والشرق كله بصفة عامة، وليس في مصر فقط على الأخص. ولا بد من أن نعي أن ظروف الدول مختلفة”.
وأضاف مدبولي: “عندما ننظر إلى قضية حقوق الإنسان، لا بد أن نضع في اعتبارنا أيضًا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسياسية. مُشيرًا إلى أنه لا يمكن تطبيق نفس المعايير التي يتم تطبيقها في دول العالم المتقدم بطرق معينة على جميع الدول الأخرى. ونحن تحدثنا مع مسؤولين في دول كثيرة لتوضيح الصورة، لأن المشكلة الحقيقية هي أن الصورة تكون غير مكتملة.
نقطة قديمة أخرى عادت للصدارة في حديث رئيس الوزراء حيث لفت إلى أن أغلب المؤسسات التي تنتقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر “تستقي تقاريرها من حالات فردية لا يمكن القياس عليها وتعميمها على الوضع العام في الدولة المصرية”، حسب قوله.
إذن كيف رأت المؤسسات الدولية الحقوق والحريات في مصر في 2021؟
عام آخر من التضييق
في تقريرها السنوي لعام 2021، قالت منظمة هيومان رايتس ووتش إن وضع حقوق الإنسان في مصر لم يختلف كثيرًا في 2021 عن مثله في أعوام سابقة أخرى. وقد أشارت إلى مواصلة المحاكم الاستثنائية – أمن الدولة طوارئ- مقاضاة نشطاء حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين السلميين. كما لفتت إلى ما أضفته اللوائح التنفيذية لقانون الجمعيات من طابع رسمي على قيود واسعة على منظمات المجتمع المدني المستقلة. بما يفرض عليها التسجيل بحلول 11 يناير/كانون الثاني 2022، أو المخاطرة بحلها.
يقول جو ستورك نائب مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة معلقًا: “استمرت الحكومة المصرية عام 2021 بالسير في الطريق المعتاد للتضييق”.
وإن كان هذا العام (2021) قد شهد قرارات مختلفة بشأن المعتقلين سياسيًا والعالقين في دوّامة الحبس الاحتياطي. فقد أضفت هذه القرارات غموضًا على رؤية النظام لملف حقوق الإنسان، وهو الغموض الذي عززته التصريحات الأخيرة للرئيس السيسي ورئيس وزرائه.
في سياق آخر وإن كان ذي صلة، أعلنت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان توقفها عن العمل “لأسباب تتعلق بزيادة الاستهانة بسيادة القانون. وتنامي انتهاكات حقوق الإنسان، التي لم تستثني المؤسسات والمدافعين المستقلين عن حقوق الإنسان. وتزايد الملاحقات البوليسية سواء المغلفة بغطاء قانوني أو قضائي، أو ملاحقات مباشرة”. وفق بيانها الصادر.
اقرأ أيضًا: 15 توصية من “دام” حتى لا يتحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة
حقوق الإنسان.. لكل حالة ظروفها
البرلماني السابق ورئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات. أحد الفاعلين في ملف حقوق الإنسان خلال العام المنصرم، والذي يرأس مجموعة الحوار الدولي (واحدة من الجهات التي تقدم ملفات النشطاء والحقوقيين إلى الحكومة لبحث موقفهم من الإفراج أو العفو). يؤيد حديث رئيس الوزراء حول اختلاف التعاطي مع ملف حقوق الإنسان في الحالة المصرية.
كما يُشير السادات إلى تعدد المسارات القانونية بشأن المحبوسين على ذمة بعض القضايا. يوضح : “كل حالة ولها ظروفها. هناك من لا يزالون قيد التحقيق، وآخرون تمت إحالتهم للمحاكمة، وهناك من صدرت ضدهم أحكام بالفعل وقدمنا طلبات للعفو بشأنهم”. مؤكدًا: “الأمر لا يعتمد على اختيارات شخصية، نحن نقدم أسماء وبرلمانيون يقدمون أسماء أخرى، والمجلس القومي لحقوق الإنسان يقدم قائمة ثالثة، وهناك جهات أخرى. كل هؤلاء يخضعون للفحص والتقييم من قِبل الجهات المسؤولة.
يرى السادات أن إحالة بعض المحبوسين احتياطيًا للمحاكمة، كانت استجابة لمطالبات: “إما الإخلاء أو الإحالة”. هذا بصرف النظر عن الأحكام: “الأمر وصل للقضاء. وكل حالة لها ظروفها الخاصة”.
كما يرى السادات أن الفرصة لا زالت مواتية لتصحيح أوضاع بعض المحكومين أو من يزالون في الحبس الاحتياطي. لكن الأمر يستغرق وقتًا.
نظرة السادات أكثر تفاؤلًا مما تحيلنا إليه الأحكام والإجراءات الأخيرة، وربما أكثر مما حمله حديث الرئيس السيسي.
“نعم هي قضايا ومسارات مختلفة”
استمرار حبس علاء وباقر جاء بسبب تهم “نشر وبث وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة، وإساءة استخدام وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاركة جماعة إرهابية مع العلم بأغراضها”. وفي أعقاب الأحكام التي حصل عليها علاء بالحبس لمدة 5 سنوات. والمحامي الباقر لمدة 4 سنوات. على ذمة القضية رقم 1228 لسنة 2021 جنح أمن دولة طوارئ.
وهو ما تزامن مع إخلاء سبيل الباحث باتريك جورج، ثم الإفراج عن رامي شعث وترحيله.
يطرح ذلك التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الإجراءات المتفاوتة، اتباعًا لسياسة “شد وجذب” أو “الضرب باليمين والتلقي باليسار” من قبل النظام المصري. وهو ما يعني أنه تفاوت مدروس وتذبذب منظم، وليس مجرد غموض وتشوش في الرؤية.
يرفض الحقوقي نجاد البرعي المحام ورئيس وحدة الشؤون القانونية في “المجموعة المتحدة”،هذا المنطق سواء في حالة الإفراج عن رامي شعث والأحكام الجديدة بشأن علاء عبد الفتاح و الباقر أو غيرها من الحالات.
اقرأ أيضًا: الخروج من النفق المظلم.. “دام” يقدم 15 توصية لإنهاء الأزمة بين الدولة والمجتمع المدني
يوّضح “البرعي” أنه من الخطأ الربط بين الاثنين. وأن الأمر يختلف باختلاف المسارات القانونية “فرامي مثلًا لم يجر الإفراج عنه، بل تم ترحيله إلى دولة أخرى يحمل جنسيتها بعد تنازله عن الجنسية المصرية. هذه الدولة لها الحق في استمرار محاكمته أو الإفراج عنه”.
وأضاف: أمّا علاء فصدرت بشأنه أحكام من محكمة مصرية، لذلك هناك مسارات قانونية أخرى بشأنه.
في الأخير، لا يمكن الجزم بأحكام مطلقة حول نية الدولة المصرية فيما يتعلق بإصلاح الوضع الحقوقي في البلاد. ففي الطريق انفراجات وعثرات وتصريحات حكومية تؤكد الالتزام بما نادى به المجتمع الحقوقي لسنوات. وإن لم تترجم هذه الالتزامات كلها بعد.
مسارات قانونية معقدة
يرى شادي عبد الكريم، رئيس مركز الحق للديمقراطية وحقوق الإنسان، أن هناك انفراجة واضحة في بعض جوانب الملف الحقوقي. خاصة المتعلقة بإنهاء الحبس الاحتياطي، سواء عبر الإفراجات أو الإحالة للمحاكمات القانونية “وهنا تكون المحكمة هي الجهة القاضية بإسقاط التهم أو قبول الأدلة وإصدار الأحكام”.
ويلفت رئيس مركز الحق إلى أن المسارات القانونية معقدة. رغم تشابه بعض القضايا للوهلة الأولى، أو من خلال نظرة عامة. لكن القضاء ينظر لظروف وأدلة وملابسات قد لا يتم الإعلان عنها. وفق قوله.
ويشير عبد الكريم إلى أن الفترة الماضية شهدت دراسة ملفات الكثير من المودعين بالحبس الاحتياطي، ومنهم من قامت السلطات المصرية بالإفراج عنهم بالفعل، بينما لا يزال آخرين قيد الدراسة لبيان موقفهم القانوني، مُعربًا عن آماله في خروج الجميع.
الحقوق والحريات.. السياسية والسلطة
قد نختلف على حجم ما قدمه النظام المصري من تقدم في ملف حقوق الإنسان خلال 2021، وهو تقدمًا محدودًا بحسب الكثيرين. كما قد نختلف على أسباب الاستجابة لبعض المطالب بشأن هذا الملف وأبرزها مطلب إنهاء حالة الطوارئ.
لكن المؤكد هو أن ملف حقوق الإنسان، هو ملف متشعب لا يمكن حصره في مجرد أحكام بالحبس أو السجن ضد عدد من السياسين، أو الإفراج عن عدد آخر. قضايا الحريات وحقوق الإنسان في مصر مرتبطة بالعديد من المحاور، تقع مسألة تداول السلطة في القلب منها. فهؤلاء الذين تصدر الأحكام بشأنهم أو من يتم الإفراج عنهم، اتهموا بشكل أو بآخر بمعاداة النظام، وهم معارضون له في الأساس، مختلفون مع سياساته. وهو الربط الذي فعله الرئيس السيسي نفسه عندما تحدث عن الانتخابات الرئاسية وقضية التظاهر في مجمل حديثة عن قضية حقوق الإنسان.
الحقوق والحريات في مصر قضية سياسية تتعلق بكثير من المسارات وتطلب جملة من الإصلاحات السياسية والتشريعية وربما الدستورية أيضًا وليست مجرد قضية الإفراج عن عدد من المحبوسين، وهو ما قد يعيه النظام المصري جيدًا. ربما أكثر من معارضيه.