قد يتصور البعض أني في هذا المقال من الحالمين، وهل صناعة المستقبل إلا بالأفكار الجديدة التي قد تبدو عن البعض حالمة؟ اتسم المجال الديني الإسلامي -منذ نشأته- بالتعدد، فالتعددية صفة لصيقة بالإسلام كدين لانتفاء التطابق بين النص المنزل والاجتهاد الصادر عنه بعد وفاة النبي (ص)، كما عبرت الخبرة التاريخية عن هذا التعدد بصور عديدة لا مجال للخوض فيها الآن.

تعددية المجال الديني تثير ثلاث ملاحظات هامة:

الأولى: الصراع الدائر الآن حول أنماط التدين المتعددة -من وجهة نظري- هو صراع سياسي بامتياز يتلبس بلبوس ديني أو باستخدام ديباجات دينية، بعبارة أكثر وضوحا: السياسي اخترق الديني ليعيد إنتاجه تعبيرا عن مصالح من يقف وراءه، وما نشهده هو أزمات وصراعات سياسية ذات أبعاد دينية وثقافية تختبر أطرافها المختلفة فيها توازنات القوى والمصالح فيما بينها في ظل امتزاج شديد للمصالح بالمشاعر الدينية، فمع غلبة السياسي وتغوله يتم استدعاء الجميع على أرضيته وهو ما يشعل خطوط التماس، ومن ثم فمن الضروري التمييز بين المستوىات المتعددة وخاصة بين السياسي وبين الديني/ الثقافي مع إدراك أرضية السياسي التي يتحرك عليها الديني.

الملاحظة الثانية: التعددية تطرح التساؤل ليس حول تجاور الأطروحات الإسلامية المتباينة ولكن حول فكرة القبول الاجتماعي المتسع لخطاب دون الآخر، ويصبح الحديث عن السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، والبنى المعرفية والتنظيمية التي يستند إليها هذا الخطاب، بالإضافة إلى الرموز الدعوية التي تقف وراءه مفسرة لهذا القبول الاجتماعي.

الملاحظة الثالثة: إذا تم الاعتراف بتعددية الخطابات الدينية وما تقف وراءها من مصالح، نكون بإزاء أجندة مختلفة على المستوى الوطني، وأدوار أخرى للمؤسسات الدينية خاصة الرسمية منها.

جوهر الأجندة الوطنية في هذا الموضوع هو تنظيم العلاقة بين الديني والمجال العام ومنه السياسي (يقترح البعض ثلاث قضايا تجسد هذه العلاقة وهي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وعلاقة المسلمين بالدولة، وعلاقة المسلمين بالنظام القانوني السائد أينما كانوا).

أنا أستخدم الديني لا الدين، فالأديان جميعا لها تعلق بالمجال العام ومنها السياسة، أما الديني فهو تأويلات وتفسيرات وقراءات للدين، ومؤسسات وأشخاص/ جماعات وتنظيمات، وتوظيفات تستخدم الدين لإضفاء الشرعية على السلوك السياسى والاقتصادى والاجتماعى، أو الصراع حول من يملك هذه الشرعية أو يمثلها.

هنا يصبح المطلوب من الأطراف الدينية ليس مساعدة السلطة والقوى السياسية على توظيف أو احتكار المجال الديني -الذي لا يمكن بأي حال احتكاره الآن، ولكن تحريره من أن يكون ساحة للصراع السياسي عبر إدارته والمساعدة في تنظيمه بعيدا عن العنف والاستغلال والتوظيف السياسيين.

ستة سياقات جديدة تنتهي بالتعددية

يقدم لنا كتاب: “مصر: الدولة المثقلة والمجتمع المضطرب” لناثان براون وآخرين (صادر بالإنجليزية 2021) ستة مواضيع رئيسية واضحة لعلاقة الديني بالمجال العام في مصر: أولا، هناك إجماع واسع على أن الدين بشكل عام يجب أن يلعب دورًا قويًا في الحياة العامة، وأن الإسلام بشكل خاص يجب أن يلعب دورًا رائدًا. ثانيًا، اكتسب الدين حضورًا أقوى في المجتمع والاقتصاد والسياسة المصرية منذ السبعينيات. ثالثًا، يعتبر الدين حافزًا قويًا للعديد من الفاعلين السياسيين. رابعًا، يتم دفع الدين إلى العديد من المناقشات من قبل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين الذين لديهم رؤيتهم الخاصة وتفضيلاتهم حول ما يعلمه الدين. خامسًا، حتى في حالة عدم قيام أي فاعل سياسي محدد بدفع الدين، يمكن للدين أن ينجذب إلى المناقشات السياسية لمجرد وجوده على نطاق واسع في هياكل الدولة المصرية. سادسا، غالبا ما يوفر الدين ساحات سياسية – من المناهج التعليمية إلى البنود الدستورية [والقانونية]- يتم فيها ممارسة السياسة.

هذه النقاط الست تتفاعل مع سياقات ستة مستجدة من خبرة العقد الماضي -عقد الربيع العربي- وهي:

أولا- الصراع على روح الإسلام في المنطقة: وهو صراع تتداخل فيه الدول والمؤسسات الدينية رسمية وغير رسمية وفواعل سياسية واجتماعية عديدة، هم جميعا منخرطون في صراع ديني عميق على القوة الناعمة من أجل التأثير والهيمنة الجيوسياسية.

ينطوي التنافس ضمنيًا على نقاش أوسع عبر العالم الإسلامي يتطرق إلى قلب العلاقة بين الدولة والدين وبين الدين والمجال العام، ومع اشتداد معركة القوة الناعمة الدينية بين الدول المتنافسة، أصبحت الخطوط الفاصلة بين الدولة والمجال العام من جهة وبين الدين أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لا سيما في البلدان الأكثر استبدادًا. كما أصبحت المؤسسات الدينية أكثر تماهيا مع السلطة السياسية في ظل استقطاب شديد طال الجميع.

وأدى دخول أطراف جديدة مثل الإمارات وتركيا وقطر وإندونيسيا بالإضافة إلى القديمة مثل السعودية وإيران ومصر والمغرب، أدى دخولهم حلبة الصراع إلى زيادة طمس الخطوط الفاصلة بين القوة الناعمة الدينية والثقافية البحتة وبين القومية، والصراع داخل المجتمعات الإسلامية على القيم، بما في ذلك الحريات والحقوق والأنظمة السياسية المفضلة.

وبرغم تراجع التنافس -مؤخرا- بين الدول في الإقليم في المجالين السياسي والاقتصادي، إلا أن الصراع بينهم حول من يمثل “الإسلام المعتدل” لايزال قائما، صحيح أنه في التحليل النهائي، قد لا يظهر فائز واضح، إلا أن مسار المعركة يمكن أن يحدد إلى أي درجة سيتم تعريف الإسلام من خلال واحد أو أكثر من الخطوط المتنافسة من: المحافظين/ السلفيين أو الحركات السياسية الاسلامية أو التصوف أو التطرف العنيف أو الأشكال الدولتية للإيمان التي تدعو إلى الطاعة المطلقة للحكام السياسيين و/ أو تختصر المؤسسات الدينية إلى بيادق في يد الدولة.

ثانيا- برغم هذا التنافس في استخدام القوة الناعمة لتأكيد المصالح الجيوسياسية في المنطقة، فإن الأطراف الفاعلة جميعا في المنطقة يجمعها إسلام له سمات مشتركة بينهم هل لا يزال «الإسلام هو الحل» بعد كورونا؟.. رؤية إسرائيلية – هشام جعفر: الملمح العام في هذا الصراع الذي تقوده القوي الإقليمية في المنطقة أنه يدور على إسلام مرتبط بشدة بسلطة النظام وخاضع له، منزوع الديموقراطية، مندمج في السوق أي ذو طبعة نيوليبرالية، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة، برغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحا متسامحا، ويلعب دورا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.

هذا الصراع الأكثر تعقيدًا، ليس فقط لوصول لاعبين جدد إلى الساحة، ولكن أيضًا لأنه ينطوي على تنافس داخل كل فصيل.

ثالثا- تدين الشباب: لايزال الدين يمثل محددا أكثر جوهرية للهوية لدى الشباب العربي بعامة والمصري بشكل خاص، فهو يمثل -وفق استطلاع رأي الشباب العربي لعام 2020 – بالنسبة للشباب المصري نسبة 69 في المائة متقدما بذلك على محددات الهوية الأخرى بفارق كبير.

إلا إنه وفي نفس الوقت فإن تدين الشباب المصري يشهد تغيرا ملحوظا على مدار العقد الماضي.

تدين الجامعيين من شباب وشابات ما بعد ثورة يناير ذو طبيعة فردية، نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات وإنما بشبكية التفاعلات وكثرة المبادرات التي يجمعها علم شرعي، وتصوف عاطفي، وتتشكل ملامحه على السوشال ميديا وبالممارسة العملية لا بالخطاب الأيديولوجي، ويتميز بحضور نسائي طاغ، وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد، وإنما ترسمه السياقات وتطورها.

نعود إلى سمات التدين الشبابي بعد ثورة يناير فنقول:

1- برغم محاولة خلق هوية جماعية لهؤلاء الشباب لتلعب دورا كمحضن آمن لهم في ظل ضغوط مجتمعية متعددة، إلا أن هذه الهوية يرسم ملامحها الفرد من جهة القبول بها أو الانسحاب منها.

2- فردية التدين لا تتأتي فقط من اختفاء الإطار التنظيمي الذي يرتبط الفرد به لسنوات طويلة ويلعب دورا محوريا في تشكيل عقليته ووجدانه، ورسم ملامح علاقاته بمجتمعه الخاص والعالم من حوله، ولكن الفردية تتمثل في تعدد مصادر التلقي وتنوعها وتجاورها برغم مما يكون بينها من تمايز واختلاف وصراع.

3- التفاعلات تتم بطريقة شبكية لا مركزية وغير تنظيمية.

4- اللاأيديولجيا في محاولة لتجاوز الثنائيات التراثية (أشعري/سلفي)، أو التي حكمت ممارسات الحركات الإسلامية التقليدية (ذكر/أنثي) كما تجلت في ظاهرة الاختلاط، والأشكال الطقوسية التي كانت من سمة الإسلاميين مثل الخمار عند الإخوان والنقاب عند السلفيين، وإن لم تخل المجتمعات الجديدة من الخـمار والنقـاب بطبيعة الحال.

5- ويبـدو أن التشـابه في الانتماء أو هذه الحالة الهوياتية بين هـذه المبـادرات يتمثَّـل بصـورة أساسـية في أنه يتم بناؤها عبر الممارســات اليوميــة بين أفــراد هــذه المبــادرات المختلفــة وليس نتاج عمليــة التلقين التــي يقــوم بهـا التنظيـم المصمـت.

رابعا- المؤسسات الإسلامية الرسمية: ينتهي مؤلفو كتاب الدولة المثقلة إلى نتيجة بالغة الأهمية فيما يخص تأثير ما بعد يناير على هذه المؤسسات وهي: تمكنت الهيئات الدينية المصرية من تجاوز تلك العواصف والخروج منها أقوى مما كانت، فقد أصبحت أكثر استقلالا وأكثر تماسكا بعد أن شهدت تراجع تأثيرها وضعف منافسيها -يقصد الإسلاميين- على المجتمع المصري. غير أن هذا لا يعني أنها قد وصلت إلى بر الأمان. فالاستقلال الجديد بالكاد يحيا تحت مطارق الرئيس ونظامه المسيطر، أما التماسك فيوشك أن يتهاوى بسبب التناحر والتنافس بين قياداتها مثل التنافس بين الأزهر ودار الافتاء أو بين الأزهر ووزير الأوقاف، وهو تناحر يفاقمه أحيانا تدخل النظام.

أما التأثير الاجتماعي فلا يمكن التكهن بمداه في مجتمع تتصارع فيه السلطة الدينية التقليدية مع المؤسسة السياسية التي لا حدود لنفوذها مع كل ما تملكه من أدوات.

هذه المؤسسات تحولت دعوة تجديد الخطاب الديني اليوم فيها إلى مشروع لها جميعا، وإن كانت كل مؤسسة تحمل فهمها الخاص لمعنى هذا التجديد ولمن تقع عليه مسؤولية القيام به، كما تشهد تنافسا فيما بينها فلا يخفى على أحد أن الأنظمة لطالما وضعت الهيئات القوية في مواجهات ضارية أمام بعضها البعض لتحقق مآربها السياسية.

إن هذا التعدد في الجهات الدينية الفاعلة لا يؤدي فقط إلى إحماء وطيس الجدل الديني في المجتمع المصري، ولكنه يؤدي أيضا إلى تنافر مؤسسات الدولة. ومع تضييق المجال السياسي وتحجيم النقاش العام، تصبح أجهزة الدولة المتنافرة تلك هي المهيمنة على السجال الديني في البلاد.

يبقى في النهاية السؤال الأهم، من يكون له القول الفصل في المسائل الخلافية الدينية؟ وكيف ينبغي أن تتعامل السلطات الدستورية والأخلاقية مع بعضها البعض؟ وإلى أي مدى يحق للقيادة السياسية توجيه الهيئات الدينية أو قيادتها أو حتى ملاينتها بحيث تنعكس تفضيلات القيادة السياسية على التوجه الديني الذي ترعاه الدولة؟

خامسا- أجندة النظام الدينية: كقاعدة عامة، فإن أية إصلاحات دينية يقوم بها النظام السياسي في هذا الصدد هي لخدمة أجندته السياسية.

لقد خدمت التوجهات الدينية للقيادة السياسية أجندته السياسية الخاصة حيث مكنته: 1- من وضع جميع مؤسسات الدولة تحت سيطرته [من بين الجوانب الأكثر حدة في محاولات السيطرة على المجال الديني، هي الخلاف العلني المستمر مع شيخ الأزهر، والذي تساهم فيه في أحيان شخصيات لا تتمتع بمصداقية في هذا المجال مثل رئيس جامعة القاهرة، مما يزيد من شرعية وجماهيرية الإمام]. 2- والقضاء على كل أثر لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين والحركات السياسية الإسلامية الأخرى. 3- وتحسين صورته أمام الغرب باعتباره المصلح الإسلامي المنتظر. 4- ودعم الاستقرار بأيديولوجية محافظة اجتماعيا.

وبالرغم من أن الدولة تحرص على احتواء أي نقاش حول المشاكل الاقتصادية والسياسية بمنتهى الحزم، إلا أنها لا تمانع في السماح للجدل الديني أن يشتد ويقوى، وهنا مفارقة واجبة الرصد وهي أن هيمنة الديني على النقاش العام – أو ما أطلق عليه فائض التدين في المجتمع المصري – يخدم أجندة الاخوان في وقت يسعي النظام فيه إلى فصل الديني عن المجال العام كجزء من محاربته لهم.

وبرغم أن القيادة السياسية قد تجاوزت تقاليد أسلافها من الرؤساء المصريين بتقديمها آراء ووجهات نظر دينية، وعدم اقتصارها على حشد المؤسسات الدينية لدعمها كما جرت عليه العادة من أسلافها السابقين، لا يبدو أن محاولاتها لفرض سيطرة كاملة على المؤسسات الدينية والخطاب الديني ستؤدي لإحداث أي تغييرات دائمة في الثقافة الإسلامية للدولة أو المجتمع.

باختصار -كما أشار براون في كتابه- “في مصر، تُدرج الدولة الدين لكنها لا تستطيع السيطرة على جميع نواحيه. نتيجة لذلك، يظل الدين عاملا في أجزاء كبيرة من الحياة الاجتماعية [والسياسية والاقتصادية والثقافية] المصرية يمكن أن يوجهها النظام وغالبًا ما يديرها ولكن لا يسيطر عليها بدقة”.

سادسا- تراجع الإسلاميين لا يعني اختفاءهم: كتبت كثيرا عن تآكل سردية الإسلاميين في ظل حقبة الربيع العربي -الإسلاميون والموجة الثانية من الربيع العربي.. نهاية الاستثنائية – هشام جعفر، التي تمثل تحديا وجوديا لهم، ومما قلته وجرى التأكيد عليه في عديد المقالات: “وهكذا تحمل انتفاضات الربيع العربي بغض النظر عن نجاحها السياسي من عدمه تحديا وجوديا للحركات السياسية الإسلامية، لأنها تقدم سردية جديدة مختلفة جذريا عن السردية التي هيمنت على هذه الحركات على مدار القرن العشرين”.

يستكمل غدًا..