في عام 1884 كان عالم الرياضيات الصهيوني الروسي، هيرمان شابيرا، مُتمحسا لفكرة إقامة صندوق قومي يهودي يعمل على شراء الأراضي في فلسطين. ولكن عدم تلقي فكرته اهتماما أصابه بالإحباط. واضطر شابيرا للانتظار 13 عاما من أجل الإفصاح عن فكرته مجددا. وذلك خلال المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل السويسرية.
ولكن مرة أخرى، لم تلق فكرته الاهتمام الكافي إلا بعد 4 سنوات، أي بعد وفاته. وفي المؤتمر الصهيوني الخامس، وتحديدا ديسمبر 1901. وافق المؤتمر على إنشاء “المجلس اليهودي العالمي لشراء الأراضي في فلسطين” كمنظمة صهيونية غير ربحية بغرض جمع الأموال من اليهود في العالم.
والصفقات التي عقدها الصندوق، المعروف بأسماء أخرى مثل “الصندوق الدائم لإسرائيل” أو “كيرين كايمت ليسرائيل”، واختصارا “كاكال”،عقدها قبل عام 1948 شكلت الأساس لإقامة الاستيطان اليهودي في فلسطين.
ورغم مرور ما يزيد على قرن من الزمان، استمر “كاكال” في أداء نفس الدور الاستيطاني. وإن مر بمراحل تاريخية مختلفة غيّرت من مهامه وأدواره. إلا أنه حافظ على جوهر الغرض من إقامته: الاستيطان.
تشجير النقب: ساحة مواجهة جديدة مع اليهود
على موقعهم الرسمي يمكن أن تُخدع بسهولة وتظن أنك أمام مؤسسة خيرية هدفها بيئي بحت. فشعار “انشر الحب وازرع شجرة” يتصدر واجهة الموقع. ولكن ما يحدث في النقب يُمكن أن يساعدك على تجنب تلك الخديعة.
منذ 11 يناير/كانون الثاني الجاري تشهد صحراء النقب، جنوب الأراضي المحتلة، احتجاجات من سكانها العرب على إقدام “الصندوق القومي اليهودي” على تجريف أراضٍ مملوكة لهم وزراعتها تمهيدا لمصادرتها. إذ إنه مكلف من قبل الحكومة الإسرائيلية بتشجير تلك الأراضي. ولهذا يحظى بمساندة الشرطة الإسرائيلية. وتأسست وحدة شرطية خاصة لهذه المهمة تُعرف باسم “يوآف“.
وفي قرية سعوة، المعروفة باسم “عرب الأطرش” حيث تعيش عشيرة الأطرش البدوية، هاجمت شرطة الاحتلال اعتصاما أقامه الأهالي احتجاجًا على أعمال التجريف في قريتهم غير المعترف بها. وهدمت خيمة الاعتصام قبل أن تحاصر القرية وتمنع السكان من التوافد إليها. وذلك حمايةً للجرافات الإسرائيلية التي شرعت بأعمال التجريف.
أشعل ذلك احتجاجات عنيفة، شهدت إضرام النار في عدة سيارات وإغلاق سكك حديدية واشتباكات مع الشرطة. واتسعت المواجهات لتشمل قرى عربية أخرى مُهدد أهلها بالترحيل نتيجة سياسة “التشجير” التي يتبعها “كاكال” بخطى متسارعة مؤخرا، ضمن مشروع بقيمة 48 مليون دولار.
هذه الخطوات تأتي في إطار اتفاق وقّع قبل أعوام بين دائرة الأراضي الإسرائيلية والصندوق القومي اليهودي، يقضي بمبادلة أراضي الأخير في وسط إسرائيل بمساحات أكبر في النقب. وجزء منها أراضي القرى العربية مسلوبة الاعتراف، والتي تشمل أكثر من 40 قرية بدوية يسكن فيها نحو 80 ألف مواطن فلسطيني.
وقال “نادي الأسير الفلسطيني” إن 131 حالة اعتقال لعرب، بينهم سيدات وأطفال، سُجلت في النقب منذ بداية المواجهات التي امتدت لأيام. وهو ما ألقى بآثاره على الائتلاف الحاكم في إسرائيل، المكوّن من تيارات سياسية مختلفة وغير متناغمة.
منصور عباس، رئيس حزب “القائمة العربية الموحدة”، هدد بوقف التصويت مع الائتلاف الحاكم. وهو ما وصفته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بـ”اقتتال داخلي بين الحكومة”.
وقال “عباس” للقناة 12: “لن نصوت مع الائتلاف حتى تتوقف عمليات الزراعة في الجنوب. لا يمكنني الاستمرار في التعايش مع هذا. لقد تقبلت أشياء أكثر صعوبة في الماضي، لكن عندما يطلقون النار مباشرة على صدري، لم أعد قادرا على تحمل ذلك. النقب هو القائمة الموحدة”.
ومع ذلك، ذكرت القناة التلفزيونية أن وزير الإسكان زئيف إلكين من حزب “الأمل الجديد”، الذي تشرف وزارته على غرس الأشجار، يعارض وقف العمل. كما هاجم العضو في الائتلاف، يوعاز هندل، الاحتجاجات وتعهد “بتأكيد سيادتنا في النقب”.
وتشير الصحيفة إلى أنه مع وجود أغلبية برلمانية ضئيلة للغاية تبلغ 61 مقعدا في الكنيست المكون من 120 مقعدا، فإن الائتلاف يعتمد على دعم القائمة الموحدة. وهو ما ساهم في التوصل إلى اتفاق بين الحكومة الإسرائيلية وسكان قرية سعوة لوقف أعمال التجريف التي تقوم بها طواقم الصندوق في القرية، للبدء في إجراء مفاوضات “للوصول إلى حل وسط للقضية”.
جذور الصندوق الاستعمارية
مع المصادقة على الصندوق عام 1901، جاء في نظامه العام أن “الأراضي التي يتم شراؤها لا يمكن بيعها وتكون ملكا أبديا للشعب اليهودي في أرض آبائه وأجداده”. وسمح النظام بتأجير الأراضي لمدد تصل إلى 49 سنة ولكن وفقا لشروط مقيدة للغاية؛ بهدف منع تحويلها إلى غير اليهود.
كانت مدينة فيينا هي المقر الأول لهذا الصندوق، ثم أنشئت له فروع في مختلف أنحاء العالم، واتخذ من مدينة كولن الألمانية مقرًا له. وفي عام 1907 سُجل الصندوق كشركة بريطانية، ثم مع اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ نقل مقره إلى مدينة هاج البولندية، قبل نقل المكتب الرئيس للصندوق إلى القدس في عام 1922.
وبلغت حصيلة نشاطاته حتى نهاية عام 1947 امتلاك أراض مساحتها 933 ألف دونمًا (933 كيلومتر مربع) من أصل مليون و734 ألف دونمًا كان يمتلكها اليهود في فلسطين آنذاك، أي ما يساوي 6.6% من مساحة فلسطين التاريخية.
ويشير كتاب “الصندوق القومي اليهودي ودوره في خدمة المشروع الصهيوني” إلى أنه كان بمثابة أهم المؤسسات الصهيونية التي أرست دعائم مشروع الوطن القومي اليهودي. إذ لعب دورًا مهمًا في انتهاب أراضي فلسطين حتى 1948. وتمكن عبر احتضان حكومة الانتداب للمشروع الصهيوني من إقامة المستوطنات لاستقبال المهاجرين الصهاينة من أنحاء العالم.
وكان للدعاية الصهيونية للصندوق بين الجاليات اليهودية في بلدان العالم دورًا بالغ الأهمية في تمكنه من مواصلة عمله؛ فقد وصلت التبرعات والمنح والقروض المالية من حكومات ومؤسسات وأفراد يهود لعبوا دورًا في تغطية نشاطه المنوط به.
ولم تترك لجان الصندوق أسلوب من أساليب جمع التبرعات إلا وربطته بالتوراة “لتجعل اليهودي أينما تواجد يتبرع للصندوق تطبيقًا لمعتقدات دينية ترسخت لدى البعض منهم”.
وتشير دراسة بعنوان “التشجير الاستعماري في فلسطين” إلى أن مشروع التشجير اتخذ بُعدًا قوميًا ودينيًا لدى الصهاينة، مستندين في ذلك إلى النصّ التوراتي. واستهل “الصندوق القومي اليهودي” أحد منشوراته عن مشاريع التشجير بآية من العهد القديم، تحديدًا سفر إشعياء، تتحدّث عن رمزيّة النباتات الصنوبرية التوراتية:
((أَجْعَلُ فِي الْبَرِّيَّةِ الأَرْزَ وَالسَّنْطَ وَالآسَ وَشَجَرَةَ الزَّيْتِ. أَضَعُ فِي الْبَادِيَةِ السَّرْوَ وَالسِّنْدِيَانَ وَالشَّرْبِينَ مَعًا.)) – سفر إشعياء 41:19
وتوضح الدراسة أن الموجة الأولى من أعمال التشجير الاستعماري كانت في المناطق التي يشعر فيها المُستعمِر بعدم الأمان لوجود مستوطناته بين عدة تجمعاتٍ سكانيّة فلسطينية. وزرع “كاكال” ملايين الأشجار في أنحاء فلسطين، وتركزت نسبة كبيرة منها في مناطق حيفا وطبريا والقدس.
ذلك لم يكن الدور الوحيد الذي لعبه الصندوق بالطبع، فقد لعب دورا آخر أكثر أهمية.
يلفت فيلم وثائقي نشرته منظمة “ذاكرات” -المعنية بجلب معرفة النكبة إلى الجمهور اليهودي في إسرائيل- إلى أن الصندوق بدأ في 1920 تكوين ملفات بمعلومات مُفصّلة عن القرى العربية من خلال صور خرائطية وجوية وأسماء العائلات ومواردها الطبيعية؛ للسيطرة على موارد المياه والأراضي الخصبة. ومع 1930 أمد العصابات الصهيونية بتلك المعلومات لاستهداف المقاومة.
يقول الوثائقي إن ملفات الصندوق عن القرى العربية كانت سببًا رئيسًا في النكبة وتهجير 75 ألف فلسطيني قسريا من قراهم، التي آلت أغلبيتها إلى ملكية الصندوق لتُشكّل 72% من ممتلكاته عقب إعلان قيام “إسرائيل”.
المرحلة الثانية من استيطانية الصندوق
مع مطلع عام 1954 أعاد الكنيست صياغة البند المتعلق بمنطقة عمل الصندوق؛ فحصرها في الأراضي الخاضعة لقوانين حكومة إسرائيل. ثم جرى تعديل مهام الصندوق فحولت من شراء الأراضي إلى استصلاحها وتشجيرها. والمساعدة على استيعاب المهاجرين الجدد، وتوفير فرص العمل والخدمات الصحية لهم؛ والإسهام في بناء قرى “الناحال” (المستوطنات العسكرية) بالتنسيق مع الجيش، وتمويل التعليم الصهيوني في إسرائيل وخارجها.
وفي أغسطس/آب 1961 وقعت اتفاقية لتنظيم علاقة الصندوق بالحكومة الإسرائيلية، حددت فيها مهامه ومصادر تمويله، وهي تبرعات يهود العالم وريع العقارات المؤجرة. وجرى الاتفاق على أن نصف أعضاء مجلس إدارة أراضي إسرائيل يكون من مندوبي “كاكال”.
ومع نكسة 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، جرى إبعاد الصندوق عن أي أعمال في الأراضي المحتلة خوفا من تأثر إمداده بالتبرعات التي تأتي أغلبها من اليهود في الخارج؛ نظرا لرفض المجتمع الدولي الاعتراف بسيادة إسرائيل على تلك الأراضي.
بعدها تسارعت وتيرة عمليات التشجير، ومضاعفة المساحات المزروعة في جبال فلسطين وصحرائها. وانطوت هذه المسألة على رغبة صهيونية في توفير فرص عمل للمستوطنين القادمين من موجات الهجرة الجديدة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
استمر عمل الصندوق على نفس المنوال. وفي عام 1993 قضى بند قانوني بمنع “مواطني الدولة العرب” من المشاركة في مناقصات بيع أراضي “كيرين كايمت”. وفي أعقاب تقديم التماس ضد البند من قبل منظمة “العدالة“، طلبت “كاكال” ألا تبحث المحكمة العليا القضايا التي يطرحها الالتماس لأنها تقع “في صميم الفروقات الأيديولوجية المؤسِّسة” وأنها “تستوجب البحث والحسم في مسألة طابع وهوية دولة إسرائيل بصفتها دولة يهودية”.
ويسيطر الصندوق اليوم على أكثر من 2700 كيلومتر مربع من الأراضي الفلسطينية التي يؤجرها لليهود فقط، كما يزرع أكثر من 100 غابة على أراضي القرى الفلسطينية المدمرة.
جنوح أكثر نحو اليمين
مع نهايات عام 2017 تصاعد الخلاف بين الصندوق وبنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة آنذاك، بعدما أخّل “كاكال” باتفاق مع الحكومة يقضي بدفعه ملياري شيكل إلى خزانة الدولة مقابل أن تسمح الدولة للمنظمة في مواصلة ممارسة نشاطاتها واستقلالها. إذ لا تخضع حساباتها لرقابة رسمية أو غير رسمية.
وفي معرض هجومه قال نتنياهو إن الصندوق يبيع سنويا مساحات من الأراضي ويدخل إليه مليارات الشواكل ويجب أن تنتقل هذه الأموال إلى الصالح العام.. ثم بدأت خطة تسعى لفرض سيطرة أعضاء اليمين الصهيوني المتطرف على إدارة الصندوق.
وكشف تحقيق استقصائي لصحيفة “هآرتس” عن أن إحدى شركات الصندوق اشترت مئات الدونمات من الأراضي الخاصة المملوكة لفلسطينيين في الضفة الغربية، لصالح مستوطنين في الخفاء.
كان حرص الصندوق على جلب ملايين التبرعات من يهود العالم والدول الغربية المتعاطفة مع دولة الاحتلال قد حال دون دخوله على خط تمويل الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية بعد حرب 1967 بصفة خاصة.
ولكن، في فبراير/شباط 2021، قطع الصندوق خطوة نوعية تماهت مع نهج حكومته، حين صادق على مشروع قرار يبيح مشاركته في توسيع مستوطنات على تخوم الخليل ورام الله وبيت لحم ومناطق أخرى.
اليهود والانتقال من الخفاء إلى العلن
خصص “كاكال” 1.2 مليار دولار ميزانية أولية لهذا الغرض، ما أثار انقساما سياسيا.
وبعد الإعلان عن توسعه بالضفة، قال رئيس حزب الصهيونية الدينية والوزير السابق، بتسلئيل سموتريتش: “أخيرًا، كيرن كييمت تعود لنفسها ولدورها التاريخي، استرداد الأراضي من أجل توسيع الاستيطان اليهودي، هذه هي صهيونية 2021”.
فيما اعتبر رئيس حزب ميرتس اليساري أنه “بهذا يتحول الصندوق القومي اليهودي إلى صندوق قومي يهودي للمستوطنات. سيكون لهذه الخطوة عواقب وخيمة على مكانة الصندوق القومي اليهودي بين الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم”.
أمّا ما كان كاشفا فعلًا، هو ما صرح به الرئيس الجديد، حينئذ، للصندوق القومي، أبراهام دوفدوفاني، المُنتمي للتيار اليميني الديني، مُبديًا استغرابه الشديد من الأصوات المُعارضة. وأوضح أنّ الصندوق “لم يتوقف للحظة عن العمل في مناطق الضفة الغربية لتعزيز الاستيطان“.
ويبدو أن ما قام به دوفدوفاني هو فقط تحويل العمل من الصيغة غير الرسمية للصيغة الرسمية.
ومع حلول أغسطس/آب من العام المنقضي خصص الصندوق القومي اليهودي 100 مليون شيكل (31 مليون دولار) لتسجيل أراض في إسرائيل والقدس الشرقية والأراضي المحتلة.
ويقصد بـ”تسجيل الأراضي”، البحث في سجلات الصندوق القومي عن الأراضي والصفقات التي لم يتم استكمالها أو تسجيلها في مكتب تسجيل الأراضي قبل عام 1948، ومحاولة استكمالها وتسجيلها.
ووفقا لحركة “السلام الآن” (يسارية غير حكومية) فإن الصندوق توجد في سجلاته حوالي 17 ألف ملف من المستندات التي “قد تشهد على الصفقات والممتلكات التي يمكن تنفيذها، إذا خضعوا لإجراءات بيروقراطية وقانونية مناسبة”.
وعلى غرار الإجراءات التي تجري هذه الأيام في حيي الشيخ جراح وسلوان، فإن المنظمات الصهيونية تتبع فقط النهج المؤسِس الذي وضعه الصندوق القومي اليهودي قبل نحو 121 عاما.
نهجٌ تجمّل لعقود خلف سياسات بيئية أدعت البراءة. ولكن ها هي تعود للصيغة الأولى.. فارجع البصر لترى الفطور.