من جديد عاد الجدل حول استعمال العربية الفصحى والعامية المصرية كلغة للأدب. وذلك في أعقاب إعلان صدور رواية المترجم هيكتور فهمي “الغريب” لألبير كامو بالعامية المصرية.
في البداية يرفض “هيكتور” استخدام كلمة “عامية” ويستبدل بها “المصرية”. حيث يعتبرها “لغة منفصلة عن العربية لا مجرد لهجة مخففة عن العربية الفصحى”. لذا فهو يعتبرها بمثابة “لغة مستقلة لها قواعدها الخاصة والمتفق عليها”.
ويستغرب “هيكتور” لـ”مصر 360″ رفض البعض الكتابة الأدبية بـ”اللغة المصرية”. في حين أنها “اللغة الأساسية للملايين”، فلماذا يتم استبعادها أو التقليل منها بهذا الشكل؟: “من حقي أن أعبر عن نفسي وشعوري بلغتي الأم. وهي اللغة التي أتحدث بها وأحلم وأفكر بها. أما العربية الفصحى فهي بمثابة لغة مختلفة لا أتعامل بها على الإطلاق”.
ويرد “هيكتور” الجدل الدائر حول “الغريب” إلى الانحياز للغة العربية الفصحى. في حين أنها ليست روايته الأولى بالعامية -سبقتها رواية “الأمير الصغير”- ويعتقد أن رواية ألبير كامو لها قدسية عند بعض المثقفين. ويضيف: “الانحياز للفصحى يمثل قيمة لبعض الجماعات النخبوية المحافظة نتيجة اقتصار استعمالها على القلة”.
بين العربية واللاتينية
وهي المناقشة التي جرت منذ 600 عام -والكلام لهيكتور- في أوروبا حول القضية نفسها بالنسبة للغة اللاتينية. حتى تجرأ أحد أهم شعراء إيطاليا وكتب مؤلفه الأهم “الكوميديا الإلهية” بلغته الأم. وهو ما أنصح به حاليا بأن نستمر في إنتاج المحتوى والترجمات بـ”اللغة المصرية” حتى يفرض الواقع نفسه على الأرض.
ويشفق “هيكتور” على الأطفال الذين يخضعون لما سماه “الازدواج اللغوي”. حيث لا تمت اللغة التي يتحدثونها بصلة لقواعد اللغة العربية المفروضة عليهم بالمدارس. وربما هذا هو سبب عدم جاذبية اللغة بالنسبة لهم وضعفهم فيها. فالأمر كما لو كان الطفل يتعلم لغة أخرى منفصلة بقواعد منفصلة.
ويعتبر “هيكتور” أن العامية المصرية يمكن تطويعها كلغة أدبية. وتابع: “كما أنها لغة بالغة الحيوية والمرونة. ولكنها ليست كيانا واحدا. فهي متعددة اللهجات والمستويات. وعليه يرى أن ما يستخدمه في رواياته المترجمة هو بمثابة مصرية قاهرية رزينة أو فصحى تختلف عن لغة الشارع”.
أما مدير دار صفصافة -الناشر محمد بعلي- فيؤكد أن تجارب الكتابة بالعامية موجودة بالفعل لكتاب وشعراء معروفين. فهي أثبتت أنها تصلح للكتابة منذ وقت. ولكنه يعتقد أن السؤال المناسب ربما يكون ما العامية التي يجب أن يتم اختيارها؟ هل عامية القاهرة أم الصعيد؟
أما فيما يخص مسألة الترجمة بالعامية فيلفت “بعلي” إلى تعدد التجارب. ولكنها لا تزال قليلة ولم تفرض نفسها بعد. حيث يخشى الناشر “المناطقية”. حيث سيتم تداول الكتاب في المنطقة المتحدثة بتلك اللهجة أو ذاك.
وهو ما ينفيه هيكتور فهمي. حيث يعتبر أن وجود العامية المصرية في الدول الناطقة بالعربية “كبير ومفهوم”. كما أن الراغبين في دراسة “اللهجة المصرية” كثيرون -حسب قوله- ومن غير الناطقين بالعربية.
هل انتهت اللغة العربية؟
يعتقد “هيكتور” أن اللغة العربية الفصحى قد أُعلنت “وفاتها” منذ وقت. “فلم يعد هناك من يستخدمها”. وأن القرآن الكريم هو فقط العامل الأساسي في وجودها واحتجاج البعض على محاولات المساس بها –حسب قوله.
وعليه يعتقد المحقق اللغوي عزيز جمال الدين أن اللغة العربية توشك على الموت. وذلك بعد أن أصبحت لغة لا نراها في الفنون ولا يتحدث بها الأغلبية العظمى. ويملكون في مقابلها لهجاتهم ولغاتهم الخاصة بمناطقهم -وفقا لـ”جمال الدين”.
يرفض هذا الرأي بشكل ما الناشر ومدير دار صفصافة محمد البعلي. والذي يعتبر أن اللغة مستويات أو ما نسميه لهجات. وأن العربية هي لغة مئات الملايين. فكيف يمكن لها أن تموت؟!
ويشرح “بعلي” وجهة نظره بأن اللغات التي لها تاريخ ضارب في القدم تملك مستويات حية وميتة ومهجورة. وكذلك مفردات مستخدمة وأخرى مستحدثة ولها مقابل في العامية مثل كلمة سيارة أو طائرة.
بينما يعتقد الكاتب والشاعر يحيى وجدي أن “الفصحى تراجعت وأصبح عملها ينحصر في المخاطبات الرسمية أو العلمية”. ويضيف: “كما هو الحال مع اللغة اللاتينية بالنسبة للغرب خصوصا في ظل ضعف المحتوى العلمي الموجود بها والذي يقتصر أغلبه على الترجمات”. وتابع: المسألة طبيعة عالمية السيطرة فيها للمركز وللمستعمر القديم.
اللغة العربية وقدسية القرآن
“اللغة العربية هي لغة أهل الجنة”. بتلك العبارات وغيرها عبرت الجماعات الدينية والمحافظة منها عن تقديسها اللغة العربية. باعتبارها لغة القرآن التي لا يجب المساس بها. مما انعكس على تكويناتها.
الناشر محمد البعلي اعتبر أن الربط بين اللغة العربية كلغة للقرآن الكريم دفع كثيرا من المحافظين للتعامل معها كلغة مقدسة. رغم أنها لغة حية. مما أدى لانفصال العديد من اللهجات عنها. مثل لغة أهل مالطة من قبل. ما يفتح الباب على استقلال العديد من اللهجات عنها كنتيجة طبيعية لجمودها. لافتا إلى أن دار نشر “صفصافة” ترجمت رواية شكسبير وسمتها “حلم ليلة نص الليل”.
في حين يعتقد يحيى وجدي أن القرآن كان سببا في تقديس اللغة من قبل كهنة اللغة الذين توقفوا عن محاولات تطويرها. وجعلوا من مسألة إدخال مرادفات جديدة إليها حقا حصريا على مجامع اللغة.
وهو السبب نفسه الذي يعتقد “وجدي” أنه سبب الجدل الدائر حول رواية “الغريب”، فالمسألة تتعلق برفض التجريب والمغامرة، من قبل من سمّاهم “كهنة اللغة” والتيار المحافظ.
الجمال حصرا على “العربية”!
ويرى “وجدي” أن جماليات اللغة لا ترتبط بالضرورة بـ”الفصحى”. وأن من حق أي كاتب التعبير عن نفسه كيفما يرى. ورفع الحراسة عن اللغة بشكل عام. وبالنهاية فإن الوظيفة النهائية للغة هي التواصل عبر الدلالات: فلماذا يكون الأمر حصرا على طريقة بعينها.
بالتوازي يقول عزيز جمال الدين أن الكتابة القرآنية قيد على اللغة العربية وتجعلها في طور الجمود بشكل دائم. حيث يخشى أن أي تعديل عليها يعني تفسيرا جديدا للقرآن نفسه.
كما تم الربط بين قواعد كتابة القرآن واللغة العربية. وذلك على الرغم من أن جمع القرآن وحفظه في مصحف كامل استغرق قرونا. بينما وُجدت العربية قبلها بردح من الزمن. ومن هنا جاءت فكرة الخلط بين العربية والعامية. ولكنها ليست حلا عمليا أو دائما فكلاهما لغتان منفصلتان يملكان قواعد مختلفة. كما أن لفظة عامية في رأي “جمال الدين” لا تليق بـ”اللغة المصرية” وهو مصطلح تم ابتداعه بهدف “تحقيرها والتقليل من شأنها”.
صراع الإنجليزية والفرنسية
“مش العامية هي اللي هتدمر الفصحى. اللي بيدمر الفصحى هو ابتعادها عن كونها اللغة المهنية في وظائف الطبقة الوسطى والعليا وحلول الإنجليزي مكانها. فتراجع اللغة ودقتها ودلالاتها في النصوص المهنية الحكومية نفسها. (وبالمناسبة ده بينطبق على الكتب المنشورة بالفصحى). اللي بيدمر الفصحى هو إن إتقان الإنجليزية أصبح ليه دلالة على الصعود الطبقي. وإن ما بقاش يتم الالتفات للفصحى بشكل منضبط في التعليم لأن محدش حاسس إن ليها فايدة كبيرة على المستوى العملي. ولأن محدش بيسعى بجهد كافي لتطوير الفصحى عشان تجاري التغيرات اللي بتحصل في العالم”
أمير زكي -مترجم-
ويعتقد يحيى وجدي أن النضال الحقيقي يكمن في “تمكين اللغة العربية بلهجاتها كافة مقابل غزو الإنجليزية وسيطرتها على بيئة العمل المصرية. كذلك العمل على تطويرها والتخلص من جمودها”.
كانت الإنجليزية قد مرت بمراحل ثلاث من التطور منذ نشأتها -بحسب “يحيى”: مرحلة اللغة الإنجليزية القديمة. مرحلة اللغة الإنجليزية المتوسطة. ومرحلة اللغة الإنجليزية الحديثة. على سبيل المثال أدخل الكاتب الشهير ويليام شكسبير أكثر من ٢٠٠٠ كلمة، والكثير من التعابير على قاموس اللغة الإنجليزية.
وتابع: “تطور اللغة الفرنسية قد تأثر أيضا كثيرا باللغات السلتية وهي فرع من عائلة اللغات الهندية الأوروبية. كما تأثرت أيضا باللغة الجرمانية القادمة مع غزاة شعب الإفرنج الذين دخلوا فرنسا بعد انتهاء السيطرة الرومانية عليها. ومع أنها لغة رسمية لأكثر من 29 بلدا تشكل بمعظمها ما يسمى الفرانكفونية، فإنها اختلفت وتطورت كثيرا. فالفرنسية بأفريقيا تختلف عن مثيلاتها بباريس وكندا. حيث حظيت بتلك البلاد على فرصة تطوير استخداماتها وتسهيلها وإدخال كثير من المرادفات عليها.