تجارب الثورات في مصر مختلفة في الأدوات والنتائج، صحيح أن لثورة يناير عناصر تفرد مقارنة بثورتي 1919 و1952 في أنها لم تحكم وربما لم تكن مهيأة أو قادرة على الحكم، إلا أنها تفردت عن سابقيها بأنها أعادت الاعتبار لصوت المواطن المصري بعد أن تجاهلته السلطات الحاكمة لعقود.
والحقيقة أن البعض نظر إلى يناير باعتبارها كانت في خصومة وقطيعة مع ما قبلها من ثورات وخاصة يوليو، واعتبر أنها طالبت بالديمقراطية التي لم تطبقها ثورة يوليو، كما حول البعض الآخر عيوبها إلى نقاط تميز فاعتبر غياب القيادة والتنظيم ميزة لها وليس نقيصة، في محاولها لعزلها عن مسار الثورات المصرية.
والمؤكد أن المحطة الأولى من ثورات القرن العشرين في مصر هي 1919، والتي كانت ثورة شعبية عظيمة وملهمة، وواجهت أساسا الاحتلال البريطاني وليس نظام الحكم القائم الذي سعت لإصلاحه، ونجحت في تحقيق جانب كبير من أهدافها أي الدستور والاستقلال، فوضعت دستور 1923 الأكثر ليبرالية في تاريخ مصر المعاصرة، ثم حققت استقلال منقوص بتصريح فبراير 1922 الذي أعلنت فيه بريطانيا إنهاء الحماية على مصر وأنها أصبحت “دولة مستقلة ذات سيادة” لكنها احتفظت لنفسها بحق تأمين مواصلات إمبراطورتيها والدفاع عنها ضد أي اعتداء أجنبي وحماية المصالح الأجنبية والأقليات.
وعبر حزب الوطنية المصرية في ذلك الوقت ممثلا في حزب الوفد عن مبادئ ثورة 1919 فأخطأ وأصاب في الممارسة، ولكنه بلا شك كان الطرف المشرق في معادلة سياسية “غير مشرقة” هيمن عليها الاستعمار البريطاني والسلطة الملكية.
وبدا لافتا أن الحزب الأكثر شعبية في البلاد وهو حزب الوفد وصل للحكم 7 سنوات غير متصلة في الفترة من ثورة 1919 إلى ثورة 1952 بما يعني أن هناك جهة داخل الدولة لم تؤمن بحق الشعب في الاختيار وزورت إرادة الناس ومنعت حزب الأغلبية من الوصول إلى الحكم حتى في الفترة شبة الليبرالية.
ومع تعثر تحقيق الاستقلال التام وعدم احترام الدستور شهدت البلاد الثورة الأهم من حيث عمق تغيراتها الاجتماعية ودورها القومي والعالمي، وهي ثورة يوليو التي اختارت طليعة من المجتمع تأسيس تنظيم سياسي عرف باسم الضباط الأحرار، وقرر الانقلاب على السلطة الملكية ثم بناء النظام الجمهوري ثم بعد ذلك القيام بأهم إصلاحات اجتماعية في تاريخ مصر وأكبر حركة تصنيع تشهدها البلاد في تاريخها الحديث.
صحيح انشغل الكثيرون في “خناقة” ثورة ولا انقلاب، واعتبر البعض أن يوليو هي انقلاب الجيش على السلطة الملكية، ونسوا أو تناسوا أن تأسيس نظام جمهوري وكل التغيرات التي شهدتها البلاد حولت بالحتم “الحركة المباركة ” كما أطلق عليها في البداية، إلى أهم ثورة في تاريخ مصر المعاصر.
صحيح أن الديمقراطية غابت عن نظام يوليو كما جري في كل تجارب التحرر الوطني في العالم الثالث كله (ماعدا الهند)، والتي أسست نظم مثل نظام يوليو قائم على الحزب الواحد، لأن الهدف وقتها قبل الديمقراطية كان تحقيق الاستقلال والتخلص من الاستعمار.
ثورة يوليو بنت عصرها وسياقها التاريخي، وأهميتها أنها امتلكت مشروعًا سياسيًا تحرريا ملهما، وامتلكت في نفس الوقت نظاما سياسيا غير ديمقراطي وغير ملهم.
ولأن الناس آمنت بالمشروع فبدا لافتا هذه الشعبية وهذا الحب الاستثنائي الذي ناله عبد الناصر نتيجة شعور الشعب بصدقه ونزاهته وإن ما يقوم به من مشاريع وإنجازات هدفها صالح المواطن المصري في عيشه كريمة وعدالة اجتماعية.
أما الثورة أو الطبعة الثالثة من ثورات الشعب المصري، فكانت ثورة يناير التي يمر على قيامها 11 عاما، وبات مطلوبا “دمج يناير” في تاريخ ثورات الشعب المصري، وأن تصبح جزءًا أصيل من طبعاتها، ولا ينظر إليها على أنها ” نشاز” أو تعاقب لان من استهدف النظام الحاكم هو الشعب بإرادته الحرة المستقلة وليس الضباط الأحرار كما جرى مع ثورة يوليو.
وهنا تبدو ثورة يناير وكأنها خارج التيار الرئيس للثورات أو خارج الكتالوج المعتاد أو “Establishment الثورات” في مصر، فلأول مرة يتنحى رئيس بإرادة الشعب وبإرادة الملايين التي نزلت للشوارع رافضة بقاءه في السلطة 30 عاما ورافضة أيضا مشروع التوريث، ولولا هذه الملايين التي خرجت إلي الشوارع لما تنحي مبارك وتخلي الجيش عنه وانحاز لإرادة للشعب.
والحقيقة، أن مشكلات بعض نخبة يناير ونشطائها ومن أراد أن يوظفها لصالح اجندته الخاصة مؤكدة، ومع ذلك فإن محاولات ضربها وكل الحملات الممنهجة التي تعرضت لها ليس بغرض استبعاد هذه النخب لأنهم بالفعل أصبحوا خارج المشهد السياسي، إنما من أجل إدانة قدرة الشعب على التحرك المستقل وتجرؤه على إسقاط النظام القائم.
الاختلاف مع يناير وارد لكن تحويلها لمؤامرة خطيئة كبري، وإن استهدافها بهذا الشكل وحشوا أدمغة البعض بكلام فارغ عن المؤامرات التي نزلت فجأة على البلد لمجرد أن الشعب تحرك وأسقط انظام، فيصبح الأمر متجاوزا لأي خلاف على حدث سياسي كبير ليصل إلى محاولة الإساءة للشعب وكسر إرادته لأنه تجرأ وواجه سلطة حاكمة.
يقينا يناير تختلف عن طبعات الثورات السابقة فهي لم تقدم قيادة ولا تنظيم ولا مشروع سياسي متكامل. وهي بهذا المعني لم تحكم ولم تكن ربما مهيأة للحكم، ولكن يجب النظر إليها على أنها إرادة شعبية نجحت في إسقاط نظام قائم، وإن هذه الإرادة يجب أن تبقي مصانة ومحترمة حتى تبني في يوم قريب مشروعها السياسي الإصلاحي الذي يضم كل الإصلاحيين داخل مؤسسات الدولة وخارجها والمؤمنين حقا بالدستور ودولة القانون.