جميع رجال السلطة الحالية يهربون من المعنى الحقيقي والجاد لحقوق الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية بالحديث عن قضايا اقتصادية واجتماعية كالصحة والتعليم والإنشاءات! حتى الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء اعتبر في حواره مع “بي بي سي” منذ عدة أيام أن معايير حقوق الإنسان في الدول المتقدمة لا تصلح للدول النامية.. أمثالنا طبعا!
دعك من كون هذا الخطاب الذي يرفض مقارنتنا بالإنسان في أوروبا مثلا مهينا لأبعد حد، وينتقص من شعوبنا ويعتبرنا كأننا لسنا بشرا، أو لم نرتق بعد لنكون بشرا كاملين مستحقين للحرية والكرامة واحترام حقوق الإنسان والحق في النقد والتفكير ومساءلة السلطة وإدانتها.
على مدار سنوات طويلة لم تنجح السلطة الحالية في تطوير خطابها عن حقوق الإنسان ليستطيع العالم أن يتفهمه، تتحدث بلغة لا يفهمها غيرها، تخاطب نفسها ورجالها فقط، فليس الرد المناسب على اتهامات بانتهاكات تطال حقوق الإنسان في مصر هو الحديث عن التنمية الاقتصادية أو نسب الفقر أو التقدم في ملف الصحة أو بناء الكباري والمحاور، فضلا عن سخافة الرد القائل بأن شعوبنا تختلف عن شعوب العالم المتقدم في أمريكا وأوروبا!
هذه لغة تثير سخرية العالم، وتثير غضب الناس!
كانت المرة الأولى التي ظهرت فيها هذه اللغة التي تقارن بين الإنسان المصري والشعوب الأوروبية عندما رد الرئيس الحالي على سؤال حول حقوق الإنسان في مصر خلال مؤتمر صحفي في فرنسا مع الرئيس الفرنسي ماكرون عام 2017، فبينما سأله أحد الصحفيين عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر وتراجع مساحة الحريات العامة بدرجة كبيرة، كان رد الرئيس المصري بالحديث عن تراجع مستوى الصحة والتعليم في مصر، فقد قال السيسي موجهًا حديثه للصحفي الفرنسي “لماذا لا تسألني عن حق الإنسان في مصر في التعليم الجيد؟ فليس لدينا تعليم جيد، ولماذا لا تسألني عن حق العلاج الجيد في مصر؟ فليس لدينا علاج جيد، ولماذا لا تسألني عن حق التوظيف والتشغيل في مصر، فليس لدينا توظيف جيد في مصر، لماذا لا تسألني عن الإسكان الجيد”.
كانت هذه هي نقطة البداية التي قررت من وقتها السلطة الحالية أن تبتعد عن الحديث في مفهوم حقوق الإنسان بالمعنى السياسي، وأن تكتفي بهذه اللغة التي تهرب من التورط في الحديث عن السياسة لتقفز مباشرة لحديث لا ينتهي عن مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية.
في نفس اللحظة التي قررت السلطة الحالية استخدام هذه اللغة في الرد على قضايا حقوق الإنسان نستطيع القول إنها قررت ضمنيا أن تباعد بينها وبين دول العالم، وأن تعمق من الفجوة الكبيرة في تقييم دول العالم لملفها الحقوقي، فقد اختارت بنفسها أن تتحدث بلغة انقرضت من الدنيا كلها ولم يعد يفهمها أحد!
الغريب وغير المفهوم هو استمرار هذه الردود غير المقنعة وهذه اللغة التي تخاصم العالم في الحديث عن الملف الحقوقي دون أن تسعى السلطة حتى لتعديل أو تطوير يقنع العالم أو يظهر خطابها جادا ومتماسكا، فقد تكررت نفس الردود منذ 2017 -في مؤتمر السيسي وماكرون في فرنسا- وحتى منتدى شباب العالم الأخير في شرم الشيخ.
ففي رده على اتهامات طالت حقوق الإنسان في مصر خلال جلسة محاكاة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قال السيسي: “إن مجابهة الأوبئة والأمراض الخطيرة والزيادة السكانية هي أمور من المهم وضعها في بند من بنود حقوق الإنسان، فهذا الموضوع يمثل تحديًا كبيرًا للكثير من الدول” وتابع: “النمو السكاني في الدول الغربية متوقف وثابت على مدى 40 عامًا بما يعني أن بنيتها الصحية ليست بحاجة إلى دعم، ولكن دولة على غرار مصر بها زيادة سنوية بنحو 2.5 مليون نسمة؛ وكل عام نحتاج إلى تعزيز، ليس للبنية الصحية فقط ، وإنما للبنية التعليمية بما تتضمنه من مدارس وجامعات وهو أمر يجب أن يوضع في الاعتبار على أنه تحد من التحديات!”.
لاحظ أن هذا هو الرد على اتهامات لمصر بحصار حرية الرأي والتعبير والاختفاء القسري وحجب المواقع الصحفية وغيرها من صور انتهاكات حقوق الإنسان بالمعنى السياسي!
ورغم أن السلطة الحالية قد أطلقت منذ عدة أشهر ما يُسمى بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وتعهدت فيها باحترام الحق في الرأي والتعبير والتنوع والإبداع، إلا أن جديدا لم يحدث حتى هذه اللحظة على مستوى الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام، وظلت السلطة تتمسك بما يسمى “المفهوم الشامل” لحقوق الإنسان بمعنى العمل على تحسين ملف حقوق الإنسان ليس بالمعنى السياسي فقط بل بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، وهو جزء مما نستطيع تسميته بنظرية الهروب من السياسة، والاكتفاء بطرح قضايا الصحة والتعليم والزيادة السكانية والمطالبة الواضحة باعتبار الحق في الصحة بندا من بنود حقوق الإنسان!
الأزمة الحقيقية أن السلطة في مصر لا تزال مقتنعة أن هامش الحريات الذي كان متاحا قبل 25 يناير 2011 هو الذي أدى إلى الثورة، وعليه فإن أي مساحة جديدة للحريات العامة في ظنها ستشجع الناس على التحرك ضدها، وهي حسابات مغلوطة وغير صحيحة، فالصحيح أن هامش الحرية المتاح ساعد مبارك على الاستمرار في السلطة أكثر من اللازم، رغم أنه كان قد انتهى بالفعل قبل سقوطه بعشر سنوات على الأقل!
المؤكد أن العالم لا ولن يفهم لغة السلطة المصرية التي تهرب من استحقاقات جادة في ملف الحريات العامة بالحديث عن الصحة، والتي تغلق الحوار أمام المنتقدين لملفها الحقوقي بالحديث عن الزيادة السكنية والحق في التعليم الجيد، فهذه لغة ستزيد من تعقيدات هذا الملف، وستزيد الشقاق مع دول العالم وتعمق من مساحة الخصام الحالية، رغم أن البديل سهل جدا: مساحة حرية جيدة للصحافة والإعلام، وفتح المجال السياسي للأحزاب للعمل والتأثير، والإفراج عن كل سجناء الرأي، هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم، أما نظريات الهروب من السياسة فلن تجدي نفعا!