يقول ناثان براون في كتاب: “مصر: الدولة المثقلة والمجتمع المضطرب”  الصادر له وآخرين (صدر بالإنجليزية 2021)، إن تراجع الإسلاميين لا يعني اختفاءهم. وكتبت كثيرا عن تآكل سردية الإسلاميين في ظل حقبة الربيع العربي -الإسلاميون والموجة الثانية من الربيع العربي.. نهاية الاستثنائية- التي تمثل تحديا وجوديا لهم. ومما قلته وجرى التأكيد عليه في عديد المقالات: “وهكذا تحمل انتفاضات الربيع العربي بغض النظر عن نجاحها السياسي من عدمه تحديا وجوديا للحركات السياسية الإسلامية، لأنها تقدم سردية جديدة مختلفة جذريا عن السردية التي هيمنت على هذه الحركات على مدار القرن العشرين”.

اقرأ أيضًا: نحو مجال ديني إسلامي تعددي حر ومستقل في مصر (1-2)

ويجادل كاتب هذه السطور: “بأنه بمقدار ما تتفاعل هذه الحركات مع سردية الانتفاضات بمقدار ما ستستعيد حضورها السياسي والانتخابي، وبغير ذلك فإنها ستتصرف كآية سلطة مستبدة لا تحوز التأييد الشعبي كما جرى في السودان [أيام البشير] ويجري في العراق، أو نكون بإزاء حالة فراغ نتاج التشظي وعدم القدرة على توليد استجابات جديدة، كما هو الحال في بلدان عدة من المنطقة.

بل أزعم أن هذا التفاعل مع سردية الانتفاضات العربية يمكن أن يحل كثير من الثنائيات المتعارضة التي حكمت مسارها على مدار القرن العشرين من قبيل: التربوي/ السياسي، الوطني الأممي، المعاش (المطلبي)/ الهوياتي، الحرية/ تطبيق الشريعة، الأمة/ الدولة، التعددية/ التشظي والاختلاف…إلخ”.

وبرغم تراجع الإسلاميين في بلدان عدة، فلاتزال هناك قاعدة اجتماعية صلبة تؤيد هذه الحركات تدور حول نسبة الخمس أو الربع تقريبا وفق عديد استطلاعات الرأي،

ويمكن لهذه القاعدة بكثير أو قليل من الجهد خاصة مع اختلاف السياقات، وتغير في الأطر التنظيمية والقيادية والفكرية أن تتمدد في كتلة متأرجحة بما يسمح باستعادة جزء كبير من شعبيتها السابقة.

وهناك ظاهرة أخرى ترتبط بذلك وإن كانت من طبيعة مختلفة وهي تراجع العمليات الإرهابية ذات الإسناد الإسلامي على المستوى العالمي على مدار السنوات الخمس الماضية مع تصاعد إرهاب اليمين المتطرف بما يلقي بظلاله على أولوية الإرهاب الديني على الأجندة الدولية في حقبة ما بعد سبتمبر التي دشنها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان- أغسطس الماضي 2021.

وإذا كانت أجهزة الدولة المصرية قد نجحت في القضاء على الإرهاب -باستثناء سيناء- إلا أن المظالم والأفكار التي تتحرك لاتزال مستمرة بما يمكن معه أن تتصاعد الظاهرة مرة أخرى.

تقدم لنا خبرة تونس بن علي درسا مهما في هذا الصدد: فبرغم أن الأنظمة التسلطية قادرة على منع أعمال العنف من خلال زيادة التكاليف الشخصية للتحول إلى العنف من خلال الإجراءات القاسية، فإن مثل هذه الإجراءات هي نفسها المحرك الرئيسي للتطرف الإيديولوجي. وبمجرد تخفيف القبضة الأمنية، يجد الأعضاء المتطرفون بالفعل مساحة للعمل والاستفادة من الإحباطات الاجتماعية والاقتصادية لتجنيد أعضاء جدد.

ما الذي يعنيه كل هذا؟

حقائق ست تحكم المستقبل:

1- لايزال الإسلام لديه القدرة على اجتذاب المنطقة اليوم وفي المستقبل، كما لايزال الدين في مصر جزءا هاما من الحياة العامة في مجالاتها كافة.

2- لاتزال الأطراف السياسية والدينية في المنطقة منخرطة في صراع ديني عميق على القوة الناعمة من أجل التأثير والهيمنة الجيوسياسية، وسيظل هذا التنافس أو الصراع قائما في ظل غياب فائز واحد وعدم وجود حوار استراتيجي على ترتيبات الأمن الإقليمي.

3- هناك طلب متصاعد من فئات اجتماعية عريضة على الدين -خاصة الشابات والشباب- في ظل فجوة عرض نتاج المأزق التاريخي للخطابات الدينية كافة، والمتمثل في عدم قدرتها على التجديد في ظل تدفقات عالمية بالغة التعقيد.

4- إن المؤسسات الإسلامية الرسمية لن تستطيع أبدا أن تسد الفجوة طوال الوقت، خاصة أن قرب بعضها من النظام وسياساته يمكن أن يقوض مصداقيتها.

يشرح ناثان براون حدود دور الأزهر بقولة: “ورغم أن الأزهر يمكن أن يقدم للمصريين إطارا معياريا عاما للإسلام، فلن يستطيع، بالتأكيد، أن يحقق التجانس بين كافة التوجهات الدينية، التي تعج بها البلاد، وهي مهمة كبرى قد تتجاوز قدراته وطموحاته في آن معا، إلا من خلال مفهوم فضفاض للغاية بهدف تعزيز الممارسات والمعتقدات الآمنة سياسيا.”

يمكن للمؤسسات الإسلامية للدولة المصرية أن تلعب دورا كبيرا في المجتمع، لكن المشكلة الأولى لهذه المؤسسات لا تكمن في خطابها الديني بل في شرعيتها الدينية. يتطلب تعزيز شرعيتها الدينية إجراءين رئيسيين-على حد قول جورج فهمي-الباحث المتميز في الظاهرة الدينية: “أن تحافظ المؤسسة الدينية الرسمية على استقلالها عن النظام السياسي، وألا يحتكر النظام السياسي المجال الديني” – وأضيف شرطا ثالثا، وهو ضرورة استقلالها عن التجاذبات الإقليمية الدائرة على روح الإسلام.

تصير معضلة المؤسسات الدينية في المنطقة ليس فقط أخذ مسافة متساوية من الأطراف السياسية كافة وعدم اندماجها في مشروع السلطة السياسية، لاكتساب الشرعية الدينية لدى قطاعات جماهيرية متسعة، ولكن أيضا اتخاذها مسافة من المحاور الأقليمية المصطرعة في المنطقة لأن هذه الأطراف توظف مؤسساتها الدينية الوطنية والدولية في الصراع فيما بينها بما يؤدي بإلقاء ظلال قاتمة على شرعية هذه المؤسسات.

5- لا يمكن لأي نظام سياسي مهما بلغت قوته أن يحتكر أو يهيمن على المجال الديني في ظل تآكل فكرة المرجعية/ المركز، ناهيك عن اختفاء المجتهدين العظام الآن، وتعدد سبل التلقي، وتعاظم السيولة في هذا المجال بحكم تدفق المعلومات وتشظيها.

6- شرط المجال الديني التعددي الحر وجود مجال عام تعددي حر يتم فيه التوافق على القيم السياسية التي تحكمه. تقدم لنا تجربة ماليزيا نموذجا على أنه في بيئة تعترف فيها الدولة بمجال ديني تعددي حر، في هذه البيئة لا تجد سردية داعش قبولا اجتماعيا بل تهميشا.

تنتهي إحدى الدراسات إلى: “إن حقيقة عدم وجود خطاب ديني واحد وموحد داخل ماليزيا يقلل بشكل أكبر من جاذبية داعش”. الخطابات حول الأنواع المختلفة للإسلام منفصلة ومتناقضة وحتى غير متسقة داخليًا.

على هذا النحو، هناك تنافس على الأصالة الإسلامية داخل طبقات مختلفة من الدولة والمؤسسة الإسلامية الأوسع.

اقرأ أيضًا: هل للإخوان مستقبل سياسي؟

هذه الصراعات الخطابية في السياق المحلي لها صدى أقوى لدى المسلمين الملايو أكثر من الروايات المتشددة لداعش، والتي ينفرون منها جغرافيًا وثقافيًا”. وتقدم لنا الخبرة الماليزية مثالا آخر على لماذا فشلت أيديولوجية داعش المتطرفة في حشد دعم إسلامي كبير: “لأنها تتعارض مع الإجماع السياسي الحالي في ماليزيا- حتى لو كان هشا ومتوترا في بعض الأحيان- بشأن احترام سيادة القانون ونظام الحكم.

هذا الإجماع بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين (الذين يشكلون حوالي 40٪ من إجمالي السكان)، الذي تم تشكيله على مدى عدة عقود من القومية، يتعارض مع أيديولوجية داعش في عدم التسامح تجاه غير المسلمين والمسلمين الذين يعارضون داعش، ومواقف حول الحكم والانتخابات والحريات المدنية.

يمكن توقع أن أي محاولة من قبل أنصار داعش لزيادة نفوذها ستقابل برد قوي من معظم المسلمين الملايو”.

أما الخبرة المصرية – إن استطاعت أن تنشأ مجالا دينيا تعدديا حرا ومستقلا عن النظام والأطراف السياسية، فإن ذلك من شأنه أن يقوي التحول الديموقراطي المنشود، ويدعم وضعية المسحيين بها بتقويته للقاعدة الاجتماعية للمواطنة الحاضنة للتنوع التي يعد الاعتراف بالتعددية الدينية عنصرا أساسيا فيها.