ثمة فكرة ما كانت تراود بعض الفلاسفة الغربيين في الاعتقاد بأن الإنسان مخلوق ما كان له في الأصل أن يوجد. وبالتالي فهو يدفع جزاء وجوده الفردي في صورة المعاناة والموت. تلك الأشياء التي يمكن أن ندفعها أمام الخطيئة الأولى للإنسان باختياره تذوّق التفاحة والنزول من الجنة، باعتبار ذلك تعبير واضح عن ممارسة الإنسان لحريته للمرة الأولى. منذ ذلك الحين، صار هناك ارتباط بين الموت والحرية، حتى لبعض الذين اختاروا أن يجربوا الموت بأنفسهم.

مساحات الحرية تلك لا نفهمها كما تؤسسها قوانين حقوق الإنسان على سبيل المثال. هي أشياء يختبر كل إنسان على حدة مساحات حركته فيها. ثمة حياة للبعض قد يعتقد آخرون أنها بمثابة سجن، وثمة “حريات” يوصمها البعض على اعتبارها خارجة عن الحاجة.

تصوّر الإنسان لحريته الفردية في الأساس محط أنظار الآخرين. مع نزع الغطاء الأخلاقي لإجابة الإنسان على بعض الأسئلة فلسفيًا: ما الذي يجعل الزواج تقزيم لتلك الحرية؟ ولماذا لا تصبح الأمومة عائقًا أمام حرية فتاة تريد أن تنطلق دون حاجة للإحساس بالذنب من ترك طفلها لدقائق أو أيام؟ يقع ذلك التساؤل الفلسفي في قلب “الابنة المفقودة” الذي تعرضه “نتفليكس” الآن.

“الابنة المفقودة”.. التجربة الأولى

الابنة المفقودة هو المشروع الأول للكاتبة والمخرجة ماجي جيلنهال. وهو يحمل كل ما تحمله المشروعات الأولى للصنّاع، من محاولات الوقوف أمام كل شيء لخلق معنى. محاولات إثبات الذات بالحكي حول أكثر من شيء في وقتٍ واحد.

فاز الفيلم بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان البندقية الأخير. وربما في ذلك تقدير أكبر مما يستحق. لكنه يظل يبشر بمسيرة واعدة لمخرجته التي تقدم أولى تجاربها الكتابية والإخراجية.

يبدأ الفيلم من مساحة حركة للسيدة التي تسعى لقضاء إجازة وحدها على الشاطيء أمام البحر. يبدو أنها تترك وراءها الكثير. ليست عطلة بالمعنى الواسع قدر اعتبارها مساحة أكثر رحابة وإقبال على العمل بحرية.

تبدو الأمور مبشرة وهادئة وباعثة على الاسترخاء، في فيلم يختار أقل قدر ممكن من الحركة.

الكاميرا “close up” ملاصقة لبطلتها. فيما ينتظر المشاهد تحررًا من ثقل حياته أو حياة من يشاهده. يجد نفسه دون فهم واضح، متورط في ضيق يمكن الإحساس به ببساطة دون التأكد من مصيره. سيدة في أواخر الأربعينيات، تبدأ في تذكر ماضيها كله بمجرد مشاهدتها الفتاة الشابة وطفلتها. بطولة مطلقة لإنسانة في مواجهة ماضيها.

أن تواجه ماضيك في “الابنة المفقودة”

تبدو ليدا “أوليفيا كولمان” ذات الـ48 عامًا في مقابل نجمة هوليوود جيسي باكلي التي تجسد دورها شابة. وربما لا يحتاج الأمر لمجاز أكبر من أن يقف الإنسان في مواجهة مباشرة مع ماضيه المتمثل في جسد فتاة تقع على عاتقها المآسي ذاتها التي خاضتها من قبل.

حشرات تُزعج نومها ليلًا وفاكهة نُيت حتى تعفّنت ونظرات طويلة للسيدة وطفلتها، تعطّل إجازة مسنة كان غرضها الهروب المستقطع من حياتها. كل ذلك يبدو منطقيًا فقط في إطار سيدة لم تحسم أمرها بعد تجاه سؤالها الوجودي بعملها كأكاديمية تسعى للترقي والعمل ومسؤوليات الأمومة التي قررت أن تنسحب منها بعد وجود طفلتين على عاتقها.

يخرح فيلم “الابنة المفقودة” من رحم رواية تحمل الاسم ذاته. وهي رواية نشرتها الكاتبة في 2006 قبل عشر سنوات من ترجمتها للعربية على يد المترجمة شيرين حيدر. وقد كانت وقتها ناقوس إنذار شديد الدوي للمجتمع الإيطالي الذي تتفكك أواصر الأسرة داخله، وتتفاقم أزمة الأمومة في مقابل سعي الأم/ الفتاة إلى حريتها الشخصية.

وربما لا يمكن تجاوز كاتبة الروايات الأصيلة إيلين فيرينت التي كثيرًا ما مارست تلك اللعبة بالدقة والحميمة ذاتها. تلك العلاقة المركبة التي تجمع الأم الشابة وطفلتها، مساحات الحرية المهدرة والحب الفطري والشعور بالذنب والتوق إلى سرقة بعضًا من الانفراج بالذات دون صراخ.

في أول أفلامها ككاتبة تقدم فيرنت قصة فتاة تموت والدتها المسنة موتة هادئة سعيدة على ما يبدو، ولكن في ظروف غريبة. ما يضطرها إلى أن تسافر إلى منزلها لحضور الجنازة ثم للبقاء. تحاول تجميع حياة والدتها الأخيرة. وبذلك تبدأ في مواجهة ذكريات الطفولة التي شكلت تاريخ العائلة. يظل تاريخها وماضيها يحاوط حياتها التي تركتها منذ سنوات. كان ذلك منتصف التسعينيات.

النقطة المحورية

“عندما انتقلت ابنتاي للإقامة في تورنتو حيث كان والدهما يقطن ويعمل منذ سنوات عدة، اكتشفت بدهشة يخالطها الحرج أنني لم أكن أشعر بأي ألم، لا بل كنت أشعر بنفسي خفيفة كما لو كنت بذلك قد أنجبتهما أخيراً. للمرة الأولى منذ خمس وعشرين عامًا تقريبًا لم تلح علي ضرورة الاهتمام بهما، بقي البيت مرتبًا كما لو أن لا أحد يسكنه ولم أعد أنوء تحت ضغط التسوق والغسيل، والمرأة التي كانت تعينني منذ سنوات عدة في تصريف الأعمال المنزلية عثرت على عمل بمقابل أعلى ولم أشعر بالحاجة إلى من يحل محلها”. هكذا تبدأ الرواية بالتحرر الخطر من النظرة التقليدية للأمومة المقدسة.

التوحد الذي يحدث بين البطلة المسنة والفتاة الشابة يكاد يكون النقطة الأكثر محورية وقوة داخل فيلم في قلبه وجوهره الكثير من الملاحظات التي لا يقع فيها مخرج متمّرس. بالتحديد الإصرار على إقحام سرديات موازية للقصة لا تكتفي بكونها لا تضيف شيء وتذهب لكونها معطلة للحبكة الأصلية في القصة أساسًا.

موسيقى مصاحبة لم توفق كفاية في اختيارها، وأدوار ذكورية لا تخرج من كونها مصدر إزعاج للسيدات دون حبكة تذكّر، لا تنتظر طويلًا لتشعر بالغضب من الشخصيات الرجالية التي لم تأخذ وقت حتى لكتابة مدى فرعيتها بشكل متماسك. فقط مصدر إزعاج.

كيف ينظر الإنسان إلى ماضيه إذا وجد ثمة إنسان آخر يمارس الحماقات ذاتها التي مارسها؟ كيف يمكن لأخطاء الإنسان أن تنزع عنه القدسية وتباركه بالتواضع الشديد لتفهم الوضع البشري الضعيف والمربك أمام التجربة والتوق للجديد والحرية الفردية المنزوعة أمام العالم والقدر في حالة أم شابة كالتي نشاهدها؟

في أكثر من منطقة نشاهد تصرفات شديدة العبثية من البطلة. لا نفهم ذلك في السياق الأكبر للفيلم. وربما هي فقط لممارسة طقوس حرية حرمت منها فتاة وعت ذاتها كأم قبل أن تعي ذاتها كفتاة يمكنها العبث متى أرادت.

جرح مفتوح لا يندمل وتساؤل فلسفي أصيل نجده في تصرف إمرأة مسنة تسرق لُعبة الطفلة التي انزعجت أساسًا عندما علمت باختفاءها. هل تنتقم من ذاتها كما ادعت بعد ذلك أنها “غير سوية”؟ أم تنتقم من أطفالها غيابيًا على حريتها التي سلبت كل تلك السنوات دون رغبتها؟ “الابنة المفقودة” فيلم جيد ومبشر وموطئ قدم أخرى للسينما القادمة من رحم الأدب.