شهدت مصر في السنوات الأخيرة اتجاها حكوميًا نشطًا نحو مشروعات التطوير وبناء المدن الجديدة وإقامة الطرق والكباري. إلا أن بعض هذه المشروعات اختلفت حوله آراء الخبراء؛ في جدواه وكذا فيما سببه من تخمة بنائية، تحدثت عنها الدكتورة جليلة القاضي. وهي أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس، ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية. وقد تركزت أبحاثها الأكاديمية على الحفاظ علي التراث العمراني والمعماري. وأيضًا، لها العديد من الكتب صدرت بعدة لغات عن العمران في مصر ودول العالم النامي والحفاظ علي التراث في دول جنوب حوض البحر المتوسط. وأهمها “القاهرة مدينة الموتي” عن العمارة الجنائزية.
بداية.. ما الفرق بين قانون التخطيط العمراني والمخططات العمرانية؟
لدينا قانون التخطيط العمراني وهناك مخططات عمرانية.
آخر مخطط عمراني نفذته المجموعة الفرنسية كان عام 1983 وتم تحديثه سنة 1992. وهو خاص بالقاهرة الكبرى. ثم ظهرت بعد ذلك مخططات 2020 و2030 و2050. وكل منها يتضارب مع الآخر. وإن كان مخطط 2050 هو الذي يتم العمل به حاليًا، والمقرر فيه إزالة الجبانات.
المخطط يحتوى على منطقة خضراء، في إشارة لعدم تواجد صلاح سالم، تلك المنطقة الخضراء ستدمج حديقة الأزهر مع قرافة المماليك، من الواضح أن تجزئة الجبانات بتوسيع الطرق وبناء كباري علوية هو البداية في رحلة إزالتها بالكامل.
مخطط 2050 لم يشر إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة الجاري تنفيذها الآن. تلك فكرة ظهرت فجأة في افتتاح فرع قناة السويس في 2015. وبالتالي ما يحدث حاليًا هو مشاريع مدرجة في المخطط وأخرى مستحدثة لا علاقة لها بالتخطيط العمراني.
متى توقف الحديث عن المخططات أو المشاريع؟
منذ سنوات -بالتحديد مع مشروعي توشكى وشرق العوينات- لم يتم عقد نقاش مجتمعي يشارك فيه ممثلو فئات الشعب المختلفة والمتخصصين، كالنقابات المهنية كنقابة المهندسين وجمعية المخططين وجمعية المعمارين ولجنة العمارة في المجلس الأعلى للثقافة التي أصبحت لجنة عمارة وفنون، والتي كنت عضوة بها لمدة 5 سنوات. كان كل مشروع يخص العمران -حينها- تتم مناقشته وإرسال توصيات حوله ويتم عقد مؤتمرات في جمعية المعمارين وفي جمعية المخططين بشأنه.
مع مشروعي توشكى وشرق العوينات امتنعت الدولة عن مناقشة المشاريع. كما تم حظر اجتماعات المتخصصين، بداية من 2008 و2009. ثم جاءت الثورة 2011 وحتى 2015 حينها كان من الممكن مناقشة موضوعات في الإعلام أو المؤتمرات. مشروع القاهرة الخديوية مثلا خضع للنقاش وعقدت موائد مستديرة حوله في المركز الثقافي الفرنسي ولجنة العمارة وتناوله الإعلام.
حين تم عرض مشروع 2050 خلال المنتدى العمراني الذي عقد في 2014 والذي تخللته نقاشات حول المشروعات المطروحة سواء في الأقاليم أو القاهرة، وفي إطاره تم عقد ندوة عن الحفاظ على التراث شاركت بها تنظيميًا منظمة الأمم المتحدة للتجمعات العمرانية، كانت تلك آخر مرة يتم النقاش حول حال العمران في مصر وخرجنا بتوصيات، ولا أعتقد إن أي توصية وضعت في الاعتبار.
حتى أن أزمة مثلث ماسبيرو التي تم تدشين مسابقة عالمية من أجلها بعد توصل وزيرة البيئة السابقة ليلى إسكندر في حكومة المهندس إبراهيم محلب لحل وسط مع الأهالي، وقد فاز بها “نورمان فوستر” من أهم المعماريين في العالم، فوجئنا أنه لم يتم الاعتداد بالنتيجة، ويتم تنفيذ المشروع الحالي، الذي لا أعلم كيف سيوثر بهذه الأبراج الجديدة على وسط المدينة الذي يعاني من مشاكل مرورية حادة. راعى نورمان في مشروعه طبيعة وسط البلد وطبيعة المنطقة نفسها كنسيج قديم تدهور على مر العصور من الممكن إعادة إحيائه، واستبشرنا خيرًا حتى حدث خلاف ذلك.
كيف ترين مشروع العاصمة الإدارية الجديدة؟
هناك مفارقة غريبة إنه حاليًا يتم إنشاء العاصمة الإدارية. وذلك بسبب أن العاصمة القديمة أصبحت مكتظة بالسكان والأنشطة. كما أن بها العديد من المشكلات. وبالتالي دور العاصمة الإدارية الجديدة هو تخفيف الضغط على القاهرة الحالية. وذلم من المفترض أن يتم بنقل الأنشطة الخدمية العليا أي الوزارات وغيرها من أنشطة اتخاذ القرار من الإدارات العليا والبنوك الكبري والسفارات. ذلك إلى جانب تقليل الكثافات السكانية بتشجيع السكان إلى الهجرة لها. ومن المستهدف أن تستوعب هذه العاصمة 6 مليون ساكن على مراحل. وبالتالي تصبج العاصمة الحالية مدينة تاريخية تخضع للتحسين.
لكن الحاصل حاليًا أنه يتم الضغط على المدينة القديمة بتنفيذ مشاريع عقارية متعددة. بينما الجديدة لم يسكنها أحد بسبب الأسعار التي لا تتناسب مع الطبقات المتوسطة المفترض أن تكون مستهدفة. يتم بناء أبراج في عدد من الأماكن وإنشاء كباري وتوسيع طرق. وذلك شيء غير مفهوم في الحقيقة.
هل يراعي تخطيط المدن الجديدة مستويات ثابتة أم مختلفة من مواصلات وسكن؟
كل المدن الجديدة لا بد أن تكون مثل المدن القديمة تضم كافة الطبقات الاجتماعية وتحتوي على الأنشطة اللازمة بشكل أفضل لتمثل بؤر جاذبة. لكن هذا لا يحدث حاليًا. وقد أخفقت المدن الجديدة في تحقيق ذلك لأسباب عدة تمت دراستها في الماضي.
من بين عوامل الإخفاق، عدم وجود مواصلات عامة منذ 1977 إلى الآن تربط هذه المدن الصحراوية بالمدينة الأم. وعدم وجود مواصلات عامة داخلية ولا قاعدة اقتصادية. كانت هناك مصانع في العاشر من رمضان و6 أكتوبر. لكنها تعثرت وأغلقت الواحدة تلو الأخرى.
كما أن العمالة لم تقطن قط في هذه المدن. هي إذن مدن نخبوية، لا تستطيع العيش فيها إن لم يكن لديك سيارة خاصة ودخل أعلى من المتوسط.
لدينا تجارب قديمة في إنشاء المدن الجديدة. منها تجربة مدينة هيلوبلس، والتي أنشأت عام 1904. قبل إنشاء المدينة تم توصيل “التروماي” لها. وكان ذلك ضمن أسباب نجاحها. إذ ضمت هليوبليس مساكن للعمال ومساكن للطبقة الوسطى وفيلات للطبقات المتيسرة ومبان متعددة الأدوار.
أما المدن الجديدة، فنسبة كبيرة من مساكنها في صور عدة خالية بنسبة 75%. وذلك لأسباب مختلفة، منها عدم استكمال البناء، وعدم البيع، أو كون بعضها يمثل أوعية ادخارية.
كيف اختلفت سياسات التطوير والبناء من عهد عبد الناصر إلى الآن؟
اختلفت تمامًا. عبد الناصر كان يهتم بالطبقات الشعبية والوسطى. ولذا أنشأ المساكن الشعبية في مصر بأكملها. لا يجب النظر إلى شكلها المتدهور الآن. حينها كانت هناك مبان وفيلات مثل الألف مسكن ومساكن حلوان وإمبابة. وقد أنشأ عبد الناصر أيضًا مدينة نصر والمهندسين للإسكان المتوسط.
ومنذ عصر السادات، اختلف التوجه تمامًا. فبدأ الاتجاه نحو الإسكان الفاخر. كما تنامى الإسكان العشوائي وعلى الأراضي الزراعية، في استجابة لاحتياجات شرائح مختلفة من السكان لا يغطيها الإسكان الفاخر. فأصبح الاستثمار العقاري من أكثر المجالات ربحية. ذلك حتى وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه الآن من التخمة البنائية بمشروعات لم تحل مشكلة السكن للطبقات الدنيا.
وقد وصف هذا الوضع الراحل الدكتور ميلاد حنا بجملة بليغة: “مساكن بلا سكان وسكان بلا مساكن”. إذ لدينا 12 مليون مسكن أو شقة فارغة لا تجد سكانًا. بينما لدينا سكان يبحثون عن مساكن تتفق مع دخلهم ولا يجدون.
هناك انتقادات لفكرة الجور على المناطق الخضراء.. هل هذا ضمن ضرورات التطوير؟
لا نرى على المستوى العالمي مثل هذا النزع للمناطق الخضراء، فذلك ضد مبادئ التخطيط والاستدامة وليس له مبرر.
العالم بأكمله يتجه نحو فكرة الاستدامة التي ظهرت في التسعينيات بزيادة المناطق الخضراء وإزالة الكباري التي تم بناؤوها في الثمانينيات والتسعينيات والعودة لاستخدام “ترماوي”، مع تحديد مسار للدراجات. وذلك لا يحدث في الدول الأوروبية فقط بل في المغرب وتونس والجزائر على سبيل المثال.
أما فيما يخص عودة التروماوي التي تشهدها بعض الدول. فذلك لأنه وسيلة صديقة للبيئة ومواصلة عامة مريحة وقليلة التكلفة. وهي تغني عن استخدام السيارات الخاصة، وتكمل شبكات مترو الأنفاق والحافلات السطحية.
كيف ترين حجم التطور في الطرق والكباري الحالية؟
حل وقتي وأراه مسكنًا سيزول أثره سريعًا، كما أنه مضر بالبيئة، ولا يخدم كل طوائف الشعب. نحن لدينا 13% فقط ممن يمتلكون سيارات خاصة. هل من المعقول أن نبني كل هذه الطرق والكباري لتلك النسبة فقط. التخطيط العمراني في عصر الاستدامة يعظم من شأن النقل العام. فأين النقل العام
ماذا عن المونوريل؟
المونوريل يقدم خدمة حصرية للعاصمة الإدارية وتجمعات أخرى محدودة. ولا نعلم إذا سبقته دراسات جدوى لمعرفة فائدته على المدى المتوسط والطويل. وماذا عن البدائل الأخرى المتاحة.
مثلاً: كم سينقل المونوريل من الأشخاص في اليوم والسنة؟ وما هي أفضليته على المواصلات الأخرى؟ هل حل مشكلة؟ وماذا عن تكلفته.
من 2014 يقال لنا: ليس لدينا وقت لعمل دراسات جدوى. لذلك “كل المشاريع بتفشل”.
كيف ترين التطوير الجاري في بعض المناطق التاريخية والتراثية؟
المناطق التاريخية والتراثية لابد أن تتولى التدخل فيها مجموعات من المتخصصين، في إطار خطة وإدارة خاصة. أما إذا لم يحدث هذا فمن العسير توقع أي نجاح. خاصة أن من يعهد إليهم حاليًا بمشروعات في القاهرة التاريخية ليس لديهم أي سابق خبرة. ستكون النتائج كارثية.
كان هناك مشروع قديم في الدرب الأحمر. وقد استمر 14 عامًا. وكانت تنفذه مؤسسة الأغاخان، واشترك فيه جمع كبير جدًا من المعماريين المصريين الذين اكتسبوا خبرة عظيمة في ذلك المشروع. لم تتم الاستعانة بهم حاليًا. كما أن الرغبة في إنجاز هذه المشاريع في فترة وجيزة يؤثر بالسلب على النتائج النهائية. إن الترميم وإعادة الأحياء يحتاجان لوقت أطول بكثير من البناء الحديث في أرض بكر.
حملة إنقاذ القاهرة التاريخية التي أسستها في 2014.. ماذا الذي نجحت فيه وفيما أخفقت؟
تمكنا من إنقاذ بيت مدكور، وكان في طريقه إلى الهدم، وأيضا أوصلنا صوتنا لليونسكو التي تدخلت وهددت بشطب القاهرة التاريخية من على قائمة التراث العالمي ووضعها على قائمة التراث المهدد.
وما هو الوضع الراهن الذي يعيشه التراث والآثار؟
يعيش أسوأ حالاته، في ظل عدم احترام للقوانين المحلية أو العالمية ولا الاشتراطات اللازمة.
الجبانات التاريخية لمدينة القاهرة وما هدم منها تراث محمي دوليًا ومحليًا يجب الحفاظ عليه. والأعمال الجارية بحي ألماظة والحي السادس والسابع في مدينة نصر تدفعنا للحيرة.
لدينا عاصمة إدارية تنشئ ولدينا صحراء كبرى. فما الذي يدفعني لإزالة أحياء سكنية حالتها جيدة وبها طبقات وسطى وليست عشوائيات وليست بالمناطق المهددة، لتوسعة طرق. هذا تفكير خارج إطار التخطيط تمامًا.
كان من الممكن التطوير دون اللجوء للهدم والإزالة. طبعاً، المناطق التي تمثل خطورة على السكان لابد من إزالتها وتسكين أهلها في مساكن آدمية، لا أحد من الممكن أن يعترض على ذلك. لكن إذا كان لدينا منطقة قديمة تاريخية فمن الواجب إعادة إحياؤها وتصليحها وترميمها. وأيضًا إذا كان لدينا منطقة سكنية متوسطة، ليس هناك ما يستدعي إزالتها، فهناك أكثر من حل بالنسبة للطرق كإنشاء أنفاق أو كباري علوية خارج نطاق المناطق الأهولة بالسكان. لا أحد في العالم يخترق المناطق السكنية بكباري الآن.
وماذا عن التحركات الرسمية التي تمت في شأن حماية الجبانات؟
لا يوجد أي تحركات، بيتم إعادة المخطط للمرة الرابعة بداية من أكتوبر، ولا يوجد أي شفافية والاستشاري القائم على المشروع أعلن أنه بصدد عمل مشروع آخر، ويأتي ذلك التخبط نتيجة لعدم التمتع بالخبرة وعدم معاينة الموقع وما يتم هو التخطيط على الخريطة، فبعد التخطيط يكتشف إنه سيزيل أحواش مهمة ثم يعيد تغيير المخطط ويكتشف مرة أخرى إنه اصطدم بأثر أخر، وذلك نظرا لأن العمل يتم بشكل عشوائي تام.
قرارات الإزالة ومبررها المنفعة العامة كيف يتقابل مع أساس الحق في السكن؟
الحق في السكن هو منفعة عامة، فالمنفعة العامة ليست فقط التنقل. وأكرر مرة أخرى ليس لدينا دراسات جدوى حول قياس المنفعة العامة.
المسألة ليست وجهة نظر، ولابد من عمل دراسة جدوى للتوصل إلى التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية لأي مشروع والمنفعة التي سيتم الحصول عليها. ففي حالة تحسين المرور لابد من معرفة الجدوى والمدة. إن كان التحسين لمدة 3 أو 4 سنوات ثم نعود لنفس المشكلة، فالحل لن يكون العودة للهدم كل أربع أو خمس سنوات.
من الغالب في قرارات التطوير هل القرارات السياسية أم القرار العلمي؟
لا توجد أي شفافية، وهناك تعتيم سائد.. لا نعلم إلا حين يصبح الأمر واقعًا على الأرض.