كان البعض يطلق عليها اسم سنغافورة الساحل الأفريقي. باعتبارها مركز أعمال ولوجستيات عالميا كبيرا. إنها جيبوتي، التي تعد ثالث أصغر دولة من حيث المساحة في البر الرئيسي لأفريقيا. وهي من أكثر الدول أهمية من الناحية الجيوسياسية.
تكتسب أهميتها ببساطة شديدة من موقعها الجغرافي المتميز الذي بات يشكل عماد مواردها الوطنية. لا يخفى أن 30٪ من حجم الشحن العالمي يمر عبر مضيق باب المندب المجاور في طريقه إلى قناة السويس، مع وجود أكثر من مليون حاوية يتم شحنها على طول هذا الخط الساحلي كل عام.
نتيجة لذلك كله أضحت جيبوتي مركزا خدميا لمعظم الموانئ على الساحل الشرقي لأفريقيا، مع إمكانية الوصول إلى القارة الآسيوية. كما يعمل ميناء دوراليه في مدينة جيبوتي أيضًا كبوابة لدولة إثيوبيا الحبيسة.
لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن! فهل تتحول قصة جيبوتي الواعدة إلى مجرد مشروع فاشل للصين في أفريقيا؟
وهل تدفع التحولات التي تشهدها إثيوبيا نتيجة حرب التيغراي إلى أن تصبح جيبوتي أكبر الخاسرين مهما كانت نتيجة صراع الأخوة الأعداء في بلاد الحبشة؟ نستطيع الحديث عن ثلاث رؤى تحدد معالم المستقبل لهذه الدولة التي تناستها الذاكرة العربية الحديثة وكأنها هوت إلى قاع المحيط العميقة.
الرؤية الأولى: الاعتماد على الموقع الاستراتيجي
لقد أدى عدم الاستقرار والقرصنة في الصومال والاشتباكات الحدودية مع إريتريا إلى تأخر عملية الازدهار الاقتصادي والتجاري في جيبوتي. ولكنها سرعان ما أدركت أهمية الاستفادة من موقعها الجغرافي الفريد بحسبانه مصدرا للدخل القومي.
في الوقت نفسه انتبهت القوى الدولية إلى الأهمية السياسية والتجارية لهذه الدولة الصغيرة في أفريقيا. مثل هذا الاهتمام يمكن أن يحول جيبوتي إلى مدينة المستقبل الواعدة. وطبقا لهذه الرؤية من المتوقع أن ينمو اقتصاد جيبوتي بنسبة 6.2٪ في عامي 2022-2023، كما أنها تمكنت من اجتذاب 4 مليارات دولار من الاستثمارات على مدى السنوات العشر الماضية، على الرغم من افتقار البلاد إلى الموارد الطبيعية المتنوعة. كما أنشأت مؤخرًا صندوق ثروة سياديا بقيمة 1.5 مليار دولار، يهدف إلى تمويل مليارات الدولارات في النشاط الاقتصادي على مدى العقد المقبل.
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة عسكرية دائمة في جيبوتي- وهي عنصر حيوي في عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية في شرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
يتمركز نحو أربعة آلاف عسكري أمريكي في القاعدة الأمريكية، التي تمتد إلى المطار القريب الذي يستخدم لإطلاق طائرات دون طيار مسلحة واستطلاعية تعمل في الصومال واليمن.
كما تم افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية للصين على أراضي جيبوتي.. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك عدة دول أخرى من بينها فرنسا واليابان وإيطاليا قواعد ذات أحجام وقدرات مختلفة في جيبوتي.
وبالتالي تشكل أرباح الشحن وتأجير الأراضي في جيبوتي المصدر الرئيسي للثروة في البلاد.
يقال إن الصينيين سيدفعون 20 مليون دولار سنويًا حتى عام 2025 مقابل تأجير أراضي قاعدتهم. كما يدفع الأمريكيون نحو 70 مليون دولار سنويًا لمدة ست سنوات أخرى على الأقل، ويدفع الفرنسيون 30 مليون دولار أخرى سنويًا لمنشآتهم العسكرية.
بيد أن مكمن الخطر يتمثل في حجم الديون الصينية. إذ تمتلك بكين الآن الحصة الأكبر من ديون جيبوتي. في عام 2018 أعلنت الشركات الصينية أنها ستستثمر 3.5 مليار دولار في تطوير منطقة تجارة حرة دولية جديدة في جيبوتي، لتكون المنطقة الحرة الأكبر في العالم.
سيغطي الاستثمار أيضًا منطقة جيبوتي للأعمال مع مَراس تصطف على جانبيها اليخوت وشوارع تزدان على جانبيها بالأشجار. وإجمالا استثمرت الصين قروضًا بقيمة 14 مليار دولار خلال الفترة ما بين عامي 2012 و2020.
الرؤية الثانية: هل تتحول جيبوتي إلى مدينة أشباح؟
ثمة مخاطر جمة لأي اقتصاد يعتمد فقط على الاستثمار الأجنبي ومراكز النقل. من المحتمل أن يترك ذلك جيبوتي عرضة لأسواق عالمية لا يمكن التنبؤ بها. وترى بعض التقديرات أن إنشاء منطقة التجارة الحرة الإريترية القريبة يكلف جيبوتي خسارة 75٪ من عوائدها التجارية، على الرغم من أن الواقع غير واضح في منطقة القرن الأفريقي. ومع ذلك يمكن أن تكون جيبوتي هي الخاسر الأكبر سواء في حالة استمرار الحرب الأهلية في إثيوبيا أو حدوث توافق إثيوبي-إريتيري-صومالي.
بعد مرور نحو عام على اندلاع الحرب الأهلية في إقليم التيغراي الإثيوبي صرح وزير المالية الجيبوتي بأن الصراع الدائر في إثيوبيا أدى إلى انخفاض تدفقات التجارة الجيبوتية بنسبة 80٪. وهو ما يعني خسارة تقدر بنحو 1.7 مليار دولار. أي ما يقرب من نصف ناتجها المحلي الإجمالي.
ومن المعروف أن أكثر من 90٪ من البضائع الإثيوبية تمر عبر ميناء جيبوتي. وقد استثمر البلدان بكثافة في إنشاء ممر تجاري. وعليه فإن تأثر الاقتصاد الجيبوتي يجسد أحد أبرز تداعيات حرب التيغراي في إثيوبيا، وإلى أن تتم تسوية هذا الصراع ستستمر اضطرابات سلسلة التوريد الإقليمية والتجارة والعمالة والإيرادات.
لقد كانت جيبوتي على مدى عقود عديدة هي الفائز بلا منازع في حالة العداء الإثيوبي الإريتري وعزلة نظام أسمرة الذي جسد حالة كوريا الشمالية في السياق الأفريقي. على الرغم من أن المواني موجودة في السودان والصومال وإريتريا، فقد أثبتت مرافق جيبوتي المتطورة والاستقرار السياسي والجو الملائم للاستثمار أنها أكثر جاذبية من أي مكان آخر في المنطقة. ونتيجة لذلك، تمتعت جيبوتي باحتكار شبه كامل لنقل البضائع من إثيوبيا غير الساحلية وإليها.
وفي حالة التقارب الإثيوبي الإريتري الصومالي سوف تكون المواني الإريترية أقرب بالنسية لأديس أبابا وأكثر ملاءمة من جيبوتي. وهناك محاولات إثيوبية حاليا بشأن التفاوض على استئجار ميناء زيلع في صوماليلاند ليكون قاعدة للأسطول الإثيوبي وتحقيق حلم آبي أحمد في الخروج من ضيق الهضبة الحبيسة إلى رحابة المياه الواسعة.
في حين أنه من غير المحتمل أن تتوقف إثيوبيا عن استخدام المواني الجيبوتية تمامًا. حيث يتعين عليها ضرورة سداد ما يقرب من 3 مليارات دولار في شكل قروض صينية لخط سكة حديد أديس أبابا وجيبوتي.
ومن جهة أخرى فإن افتتاح صوماليلاند مطار بربرة الدولي بعد تجديده سعيا للحصول على نصيب وافر من عائدات الطيران المتزايدة في المنطقة سوف يؤثر سلبا على وضع جيبوتي الاستراتيجي.
يقع المطار على بعد مسافة قصيرة من ميناء بربرة الذي طورته مواني دبي العالمية.
وما يميز بربرة أنها تواجه خليج عدن وعلى بعد مسافة قصيرة من باب المندب، وهو مضيق يقع بين اليمن في شبه الجزيرة العربية وجيبوتي وإريتريا في القرن الأفريقي.
ومع وجود عدد كبير من السفن التجارية التي تبحر بين آسيا وأوروبا والتي تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس، تعتزم صوماليلاند الاستفادة من منطقة اقتصادية حرة خاصة بجوار ميناء ومطار بربرة، لتشكل بوابة للتجارة مع إثيوبيا غير الساحلية وبلدان أخرى في المنطقة.
الرؤية الثالثة: البحث عن الكنز المكنون
على الرغم من ثروات جيبوتي المزعومة الناجمة عن تأجير موقعها وعوائد الشحن والاستثمارات الأجنبية، لا يزال معظم البلاد فقيرًا للغاية ومتخلفًا وخاضعًا لنظام يحكم بسلطة أبوية مطلقة منذ عام 1999.
يعيش ما يقرب من ربع السكان في فقر مدقع وحرمان من الحصول على احتياجاتهم الأساسية. وعليه يصبح بديل التنمية المستدامة والاعتماد على نهج تنوع مصادر الدخل القومي هو الخيار الأنسب لدولة جيبوتي من أجل الصعود للمستقبل بخطى واثقة.
لقرون كانت بحيرة عسل في جيبوتي مركز تجارة الملح في القرن الأفريقي. منذ وقت ليس ببعيد كان من الشائع رؤية قوافل الملح تتنقل ذهابًا وإيابًا من البحيرة إلى المرتفعات الإثيوبية عبر صحراء الدناكل.
ولا تزال قبائل العفر، وهي واحدة من أفقر السكان في العالم، تحصد وتبيع الملح، وجعلت هذه التجارة مصدر دخلها الرئيسي.
تقع بحيرة عسل التي تتميز بمياهها الزرقاء الفيروزية في فوهة بركانية في الجزء الأوسط الغربي من جيبوتي والتي تمثل بداية الوادي المتصدع الأفريقي الكبير وتمهد الطريق إلى صحراء الدناكل. وهي تعد أدنى منخفض أرضي في جميع أنحاء أفريقيا، حيث تنخفض بمقدار 150 مترًا تحت مستوى سطح البحر، وتأتي في المرتبة الثالثة عالميا بعد كل من بحيرة طبريا والبحر الميت من حيث درجة انخفاضها.
بحيرة عسل هي أكثر البحيرات ملوحة خارج القارة القطبية الجنوبية وهي موطن لأكبر محمية ملح في العالم.
وتتغذى بحيرة عسل من خليج تاجورة وطبيعتها الجيولوجية تجعلها واحدة من أكثر الأماكن حرارة على وجه الأرض، حيث يصل التبخر إلى ذروته عندما تصل درجات الحرارة إلى 55 درجة مئوية في الصيف، وكأنها أتون مشتعل.
يمكن أن يشكل الملح قطاعًا مهمًا في المستقبل. وما يجعل هذا القطاع جاذبا للاستثمارات الأجنبية أن بحيرة عسل تتمتع بظروف مثالية لإنتاج الملح بما في ذلك معدلات التبخر العالية ودرجات الحرارة المرتفعة وتغذية المياه المالحة النقية من البحر الأحمر. والنتيجة هي أن العديد من العناصر الأساسية لإنتاج الملح تحدث بشكل طبيعي في البيئة دون تدخل من أحد.
ختاما فإن المسار الحالي لجيبوتي يشبه إلى حد كبير مراحل النمو المبكرة للدول الصغرى مثل سنغافورة، والتي اجتذبت الاستثمار الأجنبي نظرًا لإمكانياتها الاقتصادية وأهميتها الاستراتيجية.
يجب أن تمنحها مشاريع البنية التحتية الجارية في البلاد ميزة تنافسية عن المواني المجاورة ويمكن أن تعزز مكانتها كمركز إقليمي وعالمي للتجارة واللوجستيات. بيد أن حرب التيغراي وتحولات موازين القوى الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي بالإضافة إلى فخ الديون الصينية يمكن أن يجعل جيبوتي أكبر الخاسرين في المنطقة. لكنها مع ذلك يمكن أن تتجنب الانزلاق إلى هذا السيناريو المخيف من خلال تثبيت أقدامها كقاعدة صلبة للاستقرار في منطقة مضطربة من أفريقيا. ولعله من خلال نظام للحوكمة والمساءلة السياسية والاستثمار الصحيح في مشروعات التنمية المستدامة والانتباه إلى كنزها من الملح، يمكن أن تنضم جيبوتي إلى مصاف دول المستقبل المستدامة.
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه جيبوتي، التي تعاني استقطابا بين قبائل العيسى الصومالية ذات الأغلبية وقبائل العفر التي تعاني التهميش السياسي، يتمثل في بنية النظام الأبوي التسلطي. إذ إن الرئيس الحالي إسماعيل عمر غيلة يتبنى سلسلة من الإجراءات التسلطية التي قضت أساسًا على أي معارضة، كما أنه حافظ على إرث عمه حسن جوليد أبتيدون، الرئيس المؤسس الذي حكم البلاد خلال الفترة من 27 يونيو 1977- 8 مايو 1999.
اليوم تشهد جيبوتي نمطا من أنماط الحكم تكون فيه كل عناصر السلطة في قبضة الزعيم الذي يمنح ويمنع بمقدار وتزول الحواجز عنده بين العام والخاص. جيبوتي هي أيضاً دولة ريعية، مما يعني أنها تتلقى أموالاً من دول أخرى في مقابل تأجير أراضيها ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام.
تؤكد الدراسات أن بلدًا مثل جيبوتي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تأجير موقعه الجغرافي لتمويل الحكومة سوف يتحول في النهاية إلى دولة ضعيفة.
في الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بأننا أمام حالة عدم وجود الدولة بالأساس في ظل غياب المؤسسات الرئيسية مثل النظام القضائي وغيره من أدوات مرفق العدالة الناجزة والبنية التحتية التعليمية الناجحة. ذلك هو التحدي!