يدفع الاقتصاد العالمي، حاليًا، ثمنا غاليا لطباعة الأموال دون غطاء. بعدما تجاوزت أعراضه الجانبية التوقعات لتضيف أمراض أشد خطورة من كورونا. أهمها الاختيار بين كبح التضخم أو إفلاس المؤسسات من المديونية.

الغطاء النقدي ببساطة هو حجم الذهب والعملات الصعبة والسندات التي تحدد سقف الدولة في طباعة العملات المحلية. حتى لا ينتج عن ذلك عملية تضخم للأسعار، وانخفاض بقيمتها الشرائية.

اعتقدت البنوك المركزية أن كورونا أزمة مؤقتة ستنتهي بظهور اللقاحات. وتوسعوا في طباعة الأموال الطازجة مع قناعة تامة بأن التضخم الذي ستسببه عرض سريع. سيختفي بنهاية الوباء وعودة التشغيل لكن متحورات الفيروس غيرت المعادلة.

لا تفصح البنوك عن المعادلات التي تطبع وفقًا لها الأموال الإضافية. لكنها تفصح فقط عن معدل الفائدة ومتوسط الصادرات والعجز المالي. وكلها عوامل مساعدة في اتخاذ القرار.

بنك إنجلترا المركزي، يقول إن معظم الأموال التي يطبعها هي لاستبدال الأوراق النقدية القديمة البالية. لكن هناك حالات أخرى للطباعة حال توقع بوجود طلب على النقود، مثل زيادة عدد السكان والتضخم والنمو الاقتصادي، وزيادة الأجور.

لكن بعض البنوك المركزية دأبت على معالجة الانكماش الاقتصادي بطباعة الأموال. وهي مخاطرة فرغم حلوله المؤقتة، قد يقود إلى انهيار كامل للاقتصاد.

خلال ذروة إصابات كورونا في شهري فبراير/ شباط ومارس/آذار 2020، طبعت أمريكا كميات مفرطة من الدولار لتزيد أصوله حينها، بنسبة 12.6٪ و10.6٪ على الترتيب.

طباعة على المكشوف

جاءت تلك الطباعة، مع ارتفاع عجز الميزانية الفيدرالية، لمستوى قياسي بلغ 3.1 تريليون دولار خلال 2020. وإنفاق الحكومة الفيدرالية 6.55 تريليون دولار مقابل إيرادات لا تتجاوز 3.42  تريليون دولار.

جزء كبير من الإنفاق جاء لحزمة الإغاثة الاقتصادية البالغة 2.2 تريليون دولار التي أقرها الكونجرس في مارس/آذار. ليصبح العجز في 2020 أكبر بثلاث مرات من عجز عام 2019 البالغ 984 مليار دولار.

مع طباعة الولايات المتحدة على المكشوف، قفز حجم الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي من 4.16 تريليون دولار في فبراير/ شباط 2020. إلى 7.17 تريليون دولار بحلول يونيو/حزيران من العام ذاته.

لا يطبع الاحتياطي الفيدرالي دولارات ورقية حرفياً، فهي وظيفة وزارة الخزانة الأمريكية، التي تجمع أيضًا الضرائب وتصدر الديون بتوجيه من الكونجرس. لكن  بنك الاحتياطي الفيدرالي بدلاً من ذلك يشتري أصولاً كبيرة في السوق المفتوحة. عن طريق إضافة دولارات تم إنشاؤها حديثًا إلى احتياطيات البنوك مثل مورجان ستانلي وجولدمان ساكس وويلز فارجو.

في المقابل ، يتلقى بنك الاحتياطي الفيدرالي كميات كبيرة من السندات – سندات الخزانة الأمريكية وأوراق الوكالات المالية المدعومة بحزم من الرهون العقارية.

ارتفاع الديون

الأموال التي ضختها أمريكا حينها كانت تهدف لخفض أسعار الفائدة لتشجيع الأفراد والشركات على المزيد من الإنفاق. بهدف إنعاش الاقتصاد، وهو ما سيدفعون ثمنه مستقبلا بارتفاع التضخم.

أمريكا تعتزم رفع الفائدة 7 مرات لمواجهة التضخم لكنها في موقف لا تحسد عليه. فالتضخم سيهبط، لكن معه ارتفاع في فائدة الديون على الشركات والدين الحكومي.

في عصر الدين الوطني الذي يقارب 25 تريليون دولار، تبدو مفاهيم “المال السليم” وكأنها عفا عليها الزمن. أو  بقايا حقبة ماضية كانت فيها قيمة الدولار تستند إلى كمية ثابتة.

قفز الدين الأمريكي إلى 29.6 تريليون دولار في ديسمبر 2021. ما يعني أن زيادة معدل الفائدة بنسبة 3% خلال 2022 تعني ضرورة العثور على 888 مليار دولار إضافية بمكان ما لدفع الفوائد. أو بمعنى آخر  فإن عجز الموازنة الأمريكية سيرتفع بنسبة 64%.

يسبب ارتفاع أسعار الفائدة في مشكلات للشركات الزومبي التي اعتادت على الاقتراض من أجل تمويل نشاطها وتغطية دفع الاستحقاقات عليها. التي قد يشهر بعضها إفلاسها.

المصرفي المخضرم أوداي كوتاك، يرى أن البنوك المركزية تطبع النقود لفترة طويلة يمكن أن تكون ضارة. مضيفا أن البنوك المركزية والحكومات على مستوى العالم لديها دواء واحد لجميع المشاكل هو  طباعة النقود. هذا يشوه القيمة وكذلك القيم.

يضيف كوتاك: “مثل تغير المناخ.. إنها مشكلة جيل المستقبل.. نحن بحاجة إلى حلها..  وليس ركل العلبة”. في إشارة لتحميل الأجيال القادمة مشكلة الديون عالميًا.

تضطر الكثير من دول العالم لرفع سعر الفائدة للحفاظ على الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة. ما يفاقم لديها مشكلة الديون التي يقول صندوق النقد الدولي إنها ارتفعت عالميًا لتسجل 226 تريليون دولار في 2021.

محاولات صينية لإنقاذ الاقتصاد

البنك المركزي الصيني يحاول، حاليًا، حل مشكلة الطبع على المكشوف عبر الاتجاه المعاكس. بالبدء في خفض سعر الفائدة (من 2.95% إلى 2.85%) مع توقعات بمزيد من الخفض مستقبلاً.

جاء القرار الصيني أيضًا مع استمرار التباطؤ في قطاع العقارات فمتحور أوميكرون حجم النشاط الاستهلاكي. ما يجعل إجراءات التيسير النقدي ضرورية خاصة مع تراجع الاستهلاك وقطاع العقارات، وكلاهما من المحركات الرئيسية للنمو.

تمارس الصين حاليًا لعبة أخرى ستضرب بها الدولار، فمع رفع الفائدة الأمريكية ستصبح قروض اليوان أرخص من الدولار. ما قد يؤدي لاستبدال الأخير في القروض بالسوق المالية العالمية.

يوضح مسح المستثمر الحكومي العالمي، الذي ينشره سنويا منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية في يوليو/حزيران 2021، أن 30% من البنوك المركزية تخطط لزيادة حيازاتها من اليوان على مدار 12-24 شهرا القادمة، مقارنة مع 10% فقط العام الماضي

سوق الأسهم ستصبح المتضرر الأول عالميًا، فرفع الفائدة سيدفع بقطاع من المستثمرين على التخارج. والتوجه للبنوك للحصول على عائد عال، دون أي مخاطرة.

معاناة البورصات من شح السيولة في هذه الحالة سيخلق مشكلات الشريان الآخر للشركات للتوسع. فبدلًا من الاقتراض كان بعضها يعتمد على تمويل نشاطه بزيادة رأس المال بالبورصة. الذي يوفر لها سيولة بحجم الأسهم الجديدة المطروحة.

أظهرت بيانات “جولدمان ساكس” أن صناديق التحوط بدأت العام الجديد بالتخلي عن شركات التكنولوجيا. بما فيها البرمجيات وصناعة أشباه الموصلات بعد أن أمضت شهر ديسمبر/كانون الأول في تفريغ جعبتها من أسهم النمو وذات التقييمات المرتفعة. وسجلت خلال الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني الحالي أعلى مستوى في أكثر من 10 سنوات.