لا شك أن الفن أحد أهم أشكال التعبير عن الرأي، وأن السينما أحد أبرز أشكال الفنون وأوسعها انتشارًا تمثيلاً لهذا الحق. إلا أن هذه الحرية دائمًا ما تواجه مقصات الرقابة، المقيدة، المنتقصة من طبيعتها، الفارضةً وصايتها على المشاهدين.

وفي سبيل البحث عن حل لهذه الأزمة، قدم الباحثان تهاني لاشين وماريو ميخائيل في مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) ورقة سياسات جديدة. وقد استعرضا فيها أبعاد هذه القضية وتاريخ الرقابة في مصر. واختتما بتوصيات تستهدف تحرير الإبداع السينمائي من مقصات الرقابة بكافة أشكالها. ذلك لكون هذا حق أصيل، ينص عليه الدستور المصري، وكذلك المواثيق الدولية.

تاريخ الرقابة.. قيود رسمية على السينما

يرجع تاريخ الرقابة على السينما إلى بدايات القرن العشرين. حينها، اتخذت شكل المنع لأي انتقادات للنظم الملكية والأجانب، وحاربت ظهور الأفكار القومية والاشتراكية في الأفلام. بينما ادعت حماية النظام والأخلاق العامة.

وقد تغير القانون مع تغير النظم السياسية حتى وصل إلى وضعه الحالي. إذ تضمن القانون المصري مجموعة كبيرة من المحاذير والممنوعات، وأعطى سلطات واسعة للجهاز الرقابي على المصنفات. وشملت هذه السلطات رفض استخراج تصاريح ومنع عرض الأفلام. فضلاً عن تعديل العمل الفني. بالإضافة إلى ضع القانون .

القانون الذي حمل رقم 430 لسنة 1955 والمعُدلة بعض أحكامه في عام 1992 منح للرقابة على المصنفات الفنية حق التأكد قبل إصدار تصريح للعمل الفني بأنه لا يمس قيم المجتمع الدينية والروحية والأخلاقية أو الآداب العامة أو النظام العام، ووفق ذلك لا يجوز تصريح عمل فني يحتوي على: دعوات إلحادية والتعرض للأديان السماوية، وتصوير أو عرض أعمال الرذيلة أو تعاطي المخدرات على نحو يشجع على محاكاة فاعليها، والمشاهد الجنسية المثيرة وما يخدش الحياء والعبارات والإشارات البذيئة، وعرض الجريمة بطريقة تثير العطف أو تغري بالتقليد أو تضفي هالة من البطولة على المجرم.

وإلى جانب ذلك كله، فإن المبدعين يجدون صعوبة بسبب العملية البيروقراطية للتصوير نفسها. إذ يجب على السينمائيين استخراج تصاريح للتصوير في الأماكن الخارجية من المؤسسات الرسمية
المختلفة.

للاطلاع على ورقة دام..

أمثلة على سلطة الرقابة في مصر

الرقابة على الأفلام في مصر ليست بجديدة. بل لها تاريخ طويل، يثبت تدخل الدولة بالمنع أو التعديل، ليتوافق المعروض سينمائيًا مع التوجهات السياسية والدينية والأخلاقية الرسمية.

في 1938، منعت الرقابة فيلم “لاشين”، وكان ذلك لأسباب سياسية تتعلق نهايته، فلم يتم إعادة عرضه حتى تم تغيير مشهد النهاية، ليظهر عدل السلطان وحب الشعب له. وفي 1926، اعترض الأزهر على مجرد نية يوسف وهبي تجسيد الرسول في عمل فني. وهى المحاولة التي أصدر الأزهر بسببها فتواه الشهيرة بتحريم تجسيد الصحابة والرسل. وقد طلب منع الرجل من السفر إلى تركيا.

كذلك، تم منع فيلم “الله معنا”. كما تم سحب ترخيص عرض فيلم “درب الهوى”، ومنع عرض فيلم “خمسة باب” بعد عرضه في السينمات، وذلك بسبب الإساءة لسمعة مصر والأخلاق العامة.

هذه الأفلام لم يسمح بعرضها إلا بعد عدة سنوات. كما تم حذف مشاهد من أفلام “زائر الفجر”، و”المذنبون”، و”البريء”.

وفي السنوات الأخيرة، تم منع عرض عدة أفلام. وبالأخص الأفلام التي حملت طابعًا سياسيًا. وكان من أشهرها فيلم “18 يوم”. قالت الرقابة عنه إنه “لم يمنع بشكل رسمي”. ذلك في وقت يقول عدد من المشاركين فيه إن هناك قرار غير مكتوب بعدم عرضه في مصر.

كما تم منع فيلم “عن يهود مصر” للمخرج أمير رمسيس من العرض في 2013. وتم منع عرض فيلم “اللي حصل في الهيلتون” في 2017. وظل فيلم “آخر أيام المدينة” ممنوعًا من العرض، ولم يعرض إلا بعد نزاع
قضائي دام سنوات، بسبب امتناع جهاز الرقابة عن إصدار تصريح بالعرض العام. وفي يوليو 2021، أصدرت الدائرة الثانية لمحكمة القضاء الإداري، حكمًا بإلزام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بإصدار ترخيص بالعرض العام للفيلم.

كما تم وقف عرض فيلم “كارما” لخالد يوسف لفترة قصيرة في 2018 دون ذكر أسباب، قبل أن تسمح الرقابة بعرضه مجددًا.

الرقابة لأسباب غير السياسة.. تحسس الأخلاق

لم يقتصر منع الأفلام على الأعمال ذات المحتوى السياسي فقط. إذ تم منع فيلم “المسافر” في 2011 لاحتوائه على مشاهد حميمية وألفاظ خارجة. كما أوقف رئيس الوزراء عرض فيلم “حلاوة روح” عام 2014 بمبرر احتوائه على مشاهد خادشة للحياء لا تتناسب مع قيم المجتمع المصري. ولكن تم إلغاء القرار لاحقًا بحكم قضائي. ورفضت الرقابة أيضًا التصريح لفيلم “أسرار عائلية” بسبب موضوع الفيلم. وكان يتحدث عن المثلية.

أيضًا، اعترضت الرقابة على عنوان فيلم “البس عشان خارجين”، ليتم تغييره لاحقًا إلى “عشان خارجين”. كما تم منع فيلم “Eternals” بسبب احتوائه على علاقة مثلية بين بطلي العمل.

وقد تدخلت المؤسسات الدينية في السينما وعوقت حرية الإبداع. إذ رفضت مؤسسة الأزهر عدة أفلام مثل “المهاجر” الذي لم يعرض إلى أن تم تغيير بعض مشاهده. وتعرضت أفلام أخرى للهجوم، منها “أمير
مصر” و”الرسالة” و”ابن الله” و”نوح”. كما هاجمت الكنيسة الأرثوذكسية -في بيان- فيلم “بحب السيما”. وقد رفعت مجموعة من رجال الدين والأقباط دعوى قضائية ضد الفيلم.

ولم يقتصر الحد عند الأفلام المصرية. إذ هاجمت الكنائس المصرية فيلم “شفرة دافينشي”. وتم منع فيلم “الخروج من القاهرة” قلقًا من الغضب المسيحي المصري.

للاطلاع على ورقة دام.. اضغط هنا

حماة السمعة والأخلاق والدين

يقول الباحثان تهاني الشين وماريو ميخائيل -في ورقتهما عن الرقابة على السينما- إن العلاقة بين السينما والسياسة في مصر كانت دائمًا حاضرة منذ نشأتها في عهد الملكية ومع تطور النظم السياسية وحتى الآن. ففي عهد الملكية استخدمها النظام السياسي والاحتلال لمنع النقد السياسي.

وفي عهد الرئيس عبد الناصر، اعتبرت السينما أداة للدولة لنشر الأيدلوجيا القومية الجديدة. وقد حرص النظام أن تصل السينما إلى جميع شرائح المجتمع. بينما بمرور السنين وظهور الأزمات المالية التي واجهتها السينما، تراجع الدور المباشر للدولة، وظهر نوع جديد من السينما بدا جليًا في فيلم “إسماعلية رايح جاي”. قبل أن تعود الأفلام ذات الطابع الاجتماعي مجددًا مع ظهور أفلام مثل “حين مسيرة” و”عمارة يعقوبيان” و”دكان شحاتة”.

وقد ظهرت السينما المستقلة بشكل واضح قبل وبعد ثورة 25 يناير بفترات قصيرة. وكان ذلك في أفلام مثل “ميكروفون” و”18 يوم”. ثم بدأت مساحة الحرية بالانحصار مجددًا بعد عام 2013 بسبب التطورات السياسية.

الرقابة حينما تكون مناخًا عامًا

يرى الباحثان أن حرية السينما في مصر لم تقيد بالمنع المباشر فقط. بل هناك أيضًا مناخ عام من القلق حاصر ولا يزال يحاصر حرية الإبداع، خوفًا من توجيه اتهامات مختلفة إلى العمل والمسؤولين عنه.

لقد ظل الهجوم على المبدعين من قبل التيار المحافظ سياسيًا وأخلاقيًا ودينيًا أمرًا مستمرًا لفترات طويلة. وطالب البعض بسحب الجنسية المصرية من يوسف شاهين. ذلك بحجة تشويه سمعة مصر بفيلم
“القاهرة منورة بأهلها”. وهو أمر تكرر مؤخرًا مع فيلم “ريش”، باتهام بعض الفنانين والنواب صناع الفيلم بالإساءة إلى سمعة مصر. ذلك لمجرد تصويره الفقر المدقع الذي تعانيه إحدى فئات المجتمع المصري. كذلك، قبل فيلم “ريش” تعرض فيلم “اشتباك” لاتهامات إعلامية بأنه يسعى لتشويه سمعة مصر. ذلك رغم أنه تم السماح بعرض الفيلم.

بالإضافة إلى الجانب السياسي، وما هو أخلاقي من أسباب الرقابة على السينما اشتدت الضغوط وأصبحت أكثر توحشًا مع ظهور مصطلح السينما النظيفة. وقد عبرت عن ذلك المصطلح الحديث نسبيًا مجموعة من الأفلام الكوميدية الخفيفة التي لا تحتوي على مشاهد جنسية أو قبلات وأغلبها لا يحتوي على عمق سينمائي أو معالجة لقضايا شائكة. تلك الأفلام بشكل عام اتجهت نحو الأسرة المحافظة لغرض الإضحاك فقط.

لقد حدث تحالف بين المشاهد والدولة والمنتجين نحو المحافظة. يقول المخرج داوود عبد السيد عن السينما النظيفة إنها “جعلت المواطن نفسه يطلب الرقابة عليه، غير مكتف بالرقابة التي تفرضها الدولة ممثلة في هيئة المصنفات“. استغل منتجو هذه الأفلام الاتجاه المحافظ للمجتمع والدولة، وقدموا أعمالاً ليست خالية من المايوهات والقبلات فقط، لكنها خالية أيضًا من أي مضمون فني حقيقي.

يصف عبد السيد الفنانات الالئي تحولن إلى السينما النظيفة، فيقول: “مثل هؤلاء النجمات أصبحن يخفن حتى من نظرة حارس العقار الذي تسكن فيه، اتقاء لما قد يدور بذهنه أثناء رؤيته لهن، وتذكره مشاهدهن العارية في تلك الأفلام الجريئة”.

باختصار، الرقابة الرسمية على الأفلام لا تعوق حرية الإبداع فقط. لكنها تساعد أيضًا على انتشار ودعم الأفكار المحافظة والمتطرفة في المجتمع.

توصيات.. حتى نحرر السينما من مقصات الرقابة

إن صناعة السينما المصرية تعد الأهم في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط، لذا يجب دعمها، وذلك لن يكون إلا بإتاحة حرية التعبير لضمان استمرار ازدهارها. كما أن الرقابة اليوم أصبحت غير مجدية مع انتشار الإنترنت والمنصات الرقمية مثل “نتفليكس”.

ولإعادة حرية اإلبداع مجددًا يوصي الباحثان تهاني لاشين وماريو ميخائيل: إعادة النظر في التشريعات الخاصة بالرقابة وإزالة الموانع التي تؤثر سلبًا على حرية الإبداع. على أن يصبح دور الرقابة مختصًا فقط بالتصنيف العمري للمشاهدين وتحديد الفئة العمرية للأفلام.

يجب توفير بيئة من الحرية للمبدعين، وحماية المبدعين وحرية الإبداع، كما ينص الدستور المصري، وكما تنص المواثيق الدولية الخاصة بحرية الإبداع والتعبير.

للاطلاع على ورقة دام.. اضغط هنا