قماصة، كانت أول مرة أسمع بهذه الصفة وأنا في الثامنة من عمري من ابنة عمتي. حينها شعرت أنها ليست صفة عادية. خاصة وأنها نطقتها بشكل عدواني نافرة مني. شعرت بها سُبة، شتيمة، أضيفت لقاموس شتائمنا كصغار: حمار – عبيط – رذل. وكل هذه الشتائم البسيطة التي كنا نهتز حين نسمعها من بعضنا البعض حين نتخاصم أو نتعارك أو يُلقى بها أحد الوالدين كتهزيئة سريعة يومية تعليقًا على فعل فعلناه أو لم نفعله.
حين سمعت هذه الـ”شتيمة” حاولت أن أترجمها لمعنى، فظللت طوال طريقنا عائدين للمنزل أفكر: ما هو الفعل الذي فعلته مباشرة قبل هذه الوصمة، والتي بسببها كنت مُعاقبة بالسير خلف أختي وبنات عمتي مذلولة؛ فأنا القماصة..
حسنا، بعد كثير من تحليل تصرفاتي الأخيرة، اكتشفت أنه تم وصمي بعد اعتراضي على أنهن الثلاثة يتحدثن بعيدًا عني، وطلبت مشاركتهن “الرغي” والضحك، فتم نبذي وحزنت، ولويت “بوزي”. فقالت لي ابنة عمتي إنني قماصة. فقط لأنني حزنت على سبب بسيط يرونه تافهًا ولا يستحق الحزن أو التهديد بأنني سأخبر عمتي وأشكوهن جميعًا.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي سمعت فيها هذه الصفة، فقد سمعتها فيما بعد مرارًا من زميلاتي ومن صديقات اللعب في الشارع وبين العديد من أفراد عائلتي. كلما كنت أحزن كرد فعل أو أنزوي بعيدًا، كنت أسمع الكلمة: “قماصة”.
صارت لعنتي وشهرتي، حتى أن هناك فتى في أول سنة جامعية قالها لي.. فيما بعد عرفت أن هذه حساسية زائدة، ليست كحساسية أختى من الألبان ولا كحساسية جدتي من الأتربة والليالي الباردة فينفعل صدرها بالسعال ليلاً. ولكنها حساسية تجاه مواقف أو كلمات تصدُر عن آخرين مهمين لي، فأتصرف بردود فعل مبالغ فيها، ويراها الآخرون لا تستأهل كل هذه الضجة، أو هكذا ظننت. وظللت سنوات كثيرة أظن أن بي عيبًا ما.. أعاني خللاً في التواصل.
(1)
في علم النفس، يُطلق مصطلح الشخصية الحساسة على الأشخاص الأكثر تأثرًا بالمنبهات الخارجية: كالألوان، والأصوات، والحركة، ويملكون ردود فعل عاطفية قويّة. وفي العادة لا تُعبر الشخصية الحساسة عن مشاعرها ولا تُظهرها. ومن السهل أن تتعرض للتحفيز، والإرهاق، وقلة التأقلم في البيئات المختلفة.
والشخصية الحساسة عادة ما يكون لديها قدرة على الملاحظة أكثر من الآخرين. ويملك ما بين 15-20% تقريبًا من الناس شخصيات حساسة. وفي بعض الأحيان هي عبارة عن صفات وراثية بدأت بالظهور منذ الطفولة.
(2)
ظللتُ لسنوات أحاول أن أداري حساسيتي الشديدة، فلا اُظهر حقيقة رد فعلي، يظل بداخلي الانزعاج والتوتر والحزن، حتى لا يتم لصق الصفة بي أكثر مما حدث سابقًا. أكون حريصة دائمًا على وضع ابتسامة على وجهي حين يسخر مني شخص ما ويضحك الآخرون على نكاته، فيجب أن ابتسم وأجاريهم، فهو بالطبع لم يكن يقصد أن يهزأني. بل هو فقط يُهزر، بينما أنا أعرف وكذلك بعض الحاضرين الضاحكين، أنه شخص وضيع وأنه يُمرر سخريته من خلال الهزار حتى لا أستطيع أن أقبض بيدي على إساءته لي. فكيف أغضب أو أنفعل من شخص يحب الهزار؟ هل أنا قماصة؟ قطعًا لا.. أنا ست العاقلات ولا يجب أن أقفز عليه الآن ضربًا وعضًا لأنه شخص شرير يلتف حول هدفه ويُجيد الإفلات. لا يجب أن يعرفوا أنني أغضب لهذه أسباب، ولا أنني أغمض عيني في مشاهد الدماء أو المعارك الحربية أثناء مشاهدة الأفلام ولا أظل أخبر نفسي “كل ده تمثيل، ده مش دم.. ده كاتشب” ولكنني لن أفتح عيني رغم ذلك.
ظللت لسنوات لا أخبر أحدًا بأنني أبكي ليوم كامل لو رأيت كلبًا مكسور الساق أو جريحا أو ضامر البطن. لم أستطع لسنوات أن أقول إنني مثل الممثل علاء مرسي في مشهده الوحيد في فيلم “ميدو مشاكل”، وهو يجسد دور شاب يذهب لخطبة فتاة وينزعج من ارتفاع صوت أخيها أو جرس الباب، ويضع يده على أذنيه حتى لا تزداد حدة الأصوات. وأنني الوحيدة التي تجد هذا المشهد غير مضحك..
لم أكن أحب سنوات سكني في حي فيصل، وانتقلت مسرعة لحي هاديء غير عامر بالسكن وأنا سعيدة. كل يوم كنت أصحو وأنظر حولي للشقق الفارغة في المباني وأرفع يدي للسماء: “يا رب ما تعمر”. لم أخبر أحدًا أنني أكره حفلات الزفاف. ليس فقط للثرثرة أو النميمة أو الرقص الهيستيري، ولكن حقًا: لماذا يرفعون أصوات مكبرات الصوت لهذا الحد من الحجيم لدرجة أن الجميع يصرخ في أذن الآخر ليسمع ماذا يقول؟ فهل أنا مريضة نفسية؟
(3)
تقول الدكتورة إيلين آرون في أبحاثها عن الشخصيات الحساسة المنشورة على موقعها: “الأشخاص ذوو الحساسية المرتفعة” أن ما أعانيه لا يعني أنني مريضة بمرض نفسي يستلزم العلاج، تقول:
“يتساءل البعض هل الشخصية الحساسة مرض نفسي؟، أم أنها حالة طبيعية ونوع من الشخصيات الكثيرة الموجودة بين الناس؟، وفي الحقيقة، لا يمكن اعتبار الشخصية الحساسة مرضًا نفسيًا، لأنّها شخصية شديدة التأثر. لكن هذا التأثر لا يترافق مع الأعراض التي تكون لدى المرضى النفسيين، مثل: حالة الهياج، والقلق الشديد.
فعلى الرغم من أنّ الشخصية شديدة الحساسية تكون صعبة التعامل أحيانًا. إلّا أنّها تستطيع أن تكون شخصية مُتزنة دون أن تتسبب في وقوع مشاكل نفسية.
وبشكلٍ عام، فإنّ النساء يمتلكن شخصيات حساسة بنسبة أكبر من الرجال. فهنّ أشدّ تأثرًا بالأحداث والأقوال، وأكثر تعاطفًا، وأكثر تأثرًا بالذكريات، والأحداث السلبية. خاصة أحداث الطفولة السلبية، التي تظلّ مرتكزة في عقل الشخصية الحساسة.
لكن رغم كل ما ذكرناه، لا يمكن اعتبار الشخصية الحساسة مرضًا نفسيًا. وإنما هي شخصية مزاجية، ذات أمزجة مختلفة، ومتقلبة.
(4)
حسنًا.. أنا لستُ مريضة نفسيًا، وكذلك من يشبهني منكم. هذه أخبار ممتازة. تخطينا هذه المرحلة من التساؤل إذن. ندخل على التساؤل الذي يليه: كيف نحيا بين أشخاص يروننا “أوفر” ومبالغين في ردود أفعالنا.
أولاً: يجب أن نتصرف على طبيعتنا ونختار دائرة الأصدقاء جيدًا ونقلل من أعضائها. يكفينا شخصان أو ثلاثة نستطيع التصرف معهم على سجيتنا، ويدركون أننا طبيعيون مثلهم، ولكن لنا صفات شخصية معينة تتحكم في أمزجتنا، وحتى لا نضطر لقول مبرراتنا النفسية لكل من هب ودب من حولنا، يجب أن نحمي أنفسنا من التعليقات المؤذية على قدر الإمكان، والتواجد مع شخصيات ضاغطة أو عنيفة لفظيًا أو لا تعبأ بالآخرين، وتتصرف بشكل وقح. هذه هي نصائحي من خبرة سنوات طويلة.
أما نصائح دكتورة إيلين فهي عن كيف نقلل من حساسيتنا مع الآخرين، عن طريق علاج سلوكي من الدرجة الأولى، يعتمد على طريقة تصرفات هذه الشخصية، وتوجيهها إلى عمل العديد من الأنشطة، والأعمال الضرورية التي تُقلل من الحساسية، وتجعل الأمور تمرّ بسلاسة ودون تعقيد:
أولاً: تنظيم وقت النوم والحصول على عدد ساعات كاف منه. فقلة النوم تؤثر سلبًا على المزاج، فيكون الشخص متقلبًا ومنفعلاً بشكل سريع. كما أن عدم انتظام وقت النوم يؤدي للسهر والتفكير في الأمور السلبية التي حدثت منذ سنوات مثلاً، واستدعائها مع المزيج المفضل للأفكار الموحشة والإحساس بالذنب والذكريات الموجعة.
تجنب مسببات الازعاج مثل الابتعاد عن الضوضاء، ولو كانت طبيعة حياتك لا تمنحك هذه الرفاهية، فيجب أن تأخذ فاصلاً من هذه الضوضاء وتبتعد في أماكن هادئة لتمنح نفسك مساحة للتأمل وتهدئة المزاج.
التخطيط لليوم أو للأسبوع، فكلما كنت تعرف ماذا ستفعل ومتى فأنت بنسبة كبيرة غير معرض للمهام أو للأحداث التي تظهر فجأة وتوترك وتضعك تحت ضغط، فتقلل بذلك من إمكانية انفعالك السريع. كلما كانت المهام محددة ويتم إنجازها كلما كنت راضيًا عن نفسك ويومك.
ارتداء السماعات العازلة، حين تجد نفسك دائمًا في الشارع والمواصلات محاطًا بأصوات وشتائم وأحاديث لا تريد سمعاها، فعليك أن تعزل حاسة سمعك عن هذه الأصوات بوضعك سماعة عازلة أو لتستمع لموسيقاك المفضلة. كما يُفضل إغلاق الهاتف في أوقات محددة، وخفض صوت الجرس لتمنح نفسك مساحة أخرى من الراحة وعدم الازعاج.. هذا حقك تمامًا فلا تشعر بالذنب.
الحد من تناول الكافيين والسكريات، فهي تزيد من القلق والتوتر، وخاصة في أوقات ما قبل النوم. وكذلك تناول الطعام الصحي مثل الفواكة، فهي تحسن المزاج وتحافظ على مستوى ثابت للسكر في الدم ويحفز انتاج هرمونات السعادة.
تنصح دكتورة آرون أيضًا بالتمارين الرياضية خاصة الرياضات غير العنيفة مثل اليوجا والركض، وخاصة في الفترة قبل الساعة السادسة أو السابعة، لأن الجهاز العصبي يحتاج عدة ساعات ليهدأ قبل ميعاد النوم.
الحديث عند الانزعاج: يُفضل عدم كتمان المشاعر عند سماع تعليقات مزعجة. يجب البوح بكل ما يُزعج الشخصية الحساسة، لأنّ التعبير عن سبب الانزعاج يُشعر الشخصية الحساسة بالراحة والأمان، ويجعلها تتخلص من الطاقة السلبية، بشرط أن يكون الحديث موجهًا إلى أشخاص موثوقين، مثل: الأصدقاء المقربين، بالإضافة إلى الأشخاص الإيجابيين. وهي الدائرة التي نصحت بها في البداية، حيث أن هؤلاء فقط هم من يفهمون.
في النهاية، نحن لسنا مرضى بل أغلب الفنانين والمبدعين ذوو شخصية حساسة مرهفة تهتم بالتفاصيل، بل نحن فقط في عالم به أكثر من 80% لا يشبهوننا، وأغلبهم قساة وغير مهتمين. فلو هناك خطب ما أو عيب فهو بالتأكيد في هؤلاء.. نحن بخير طالما عرفنا أنفسنا جيدًا ووضعنا ثقتنا في أشخاص متفهمون، وقللنا من شرب القهوة ونمنا مبكرًا قبل أن تهجم علينا الأفكار السيئة.